آخر الأخبار

الضائع من الموارد الاخلاقية لدى البدو (2)

الجزء الثاني أثر المرابين في الاخلاق : وبعد الاقطاع يأتي المرابون وهؤلاء منتشرون بين العشائر العراقية على نطاق واسع فاينما تجولنا في الاسواق الريفية وجدنا أصحاب الحوانيت فيه يعتمدون على الربا الفاحش في مقايضاتهم مع الفلاحين . وقد ورث الفلاح العراقي من جده البدوي صفة تجعله يفكر في يومه ولا يحسب حساب غده إنه لا يزال يعد الاهتمام بشؤون الغد دليلا على ضعف الانسان وعلى قلة ثقته بشجاعته وقوة سيفه ولهذا أصبح شعاره (أصرف ما في الجيب ياتيك ما في الغيب) وتراه يذهب الى أصحاب الحوانيت يشتري منهم بالدين كل ما يحتاج إليه وهم يستغلون تلك الصفة فيه فيفرضون عليه الاسعار كما يشتهون حتى إذا حل موعد الوفاء وجد نفسه عاجزا عن الاداء فيعيد تسجيل الدين عليه بعد إضافة الربا عليه ويتراكم المبلغ عليه مرة بعد مرة حتى يصبح في النهاية أضعاف ما كان عليه في أول الامر . يروي احد الثقاة ان فلاحا في الفرات الاوسط استدان من احد المرابين مبلغا ضئيلا لشتري بها ثلاث دجاجات في سبيل ان يذبحها لضيف نزل عنده وصار المبلغ يتراكم عليه مرة بعد مرة حتى اضطر الفلاح أخيرا ان يبيع ثورا لدفع ثمن الدجاجات الثلاث . ويحدث من أمثال هذه القصة في الريف العراقي عدد لايحصى وكلها تدل على مدى الضغط الذي يرزح الفلاح العراقي تحت وطاته من قبل الدائنين والمرابين ومن الممكن القول ان ذلك يؤدي الى خلق عقدة نفسيه في الفلاح تجاه كل وعد يعد به او دين يستدينه وهو مجبور ان يتخلى عن خلق الوفاء الذي اشتهر به جده البدوي . ومن المعروف عن اهل الريف في العراق انهم من اكثر الناس مماطلة وتسويفا في اداء الديون على خلاف ما هو معروف عن بدو الصحراء وكثيرا ما نراهم ينكثون بعهودهم او ينكرون ديونهم كلما وجدوا الى ذلك سبيلا . ومما ساعد على استفحال هذه العقدة فيهم أنهم ينظرون الى كل صاحب حانوت من اهل السوق نظره احتقار وزراية وكانهم يعدونه رجلا سافلا لا كرامة له ولا شهامة ولهذا فهم لايجدون حرجا في النكاية والعبث به. وصاحب الحانوت يرد لهم الصاع صاعين ولا يتردد عن إقامة الدعوى عليهم في المحاكم وتسليط سيف القانون عليهم وتصبح الحرب بينه وبينهم سجالا فهم يماطلونه ويتهربون منه وهو يركض وراءهم يحمل ورقة الحجز او يرسل عليهم الجلاوزة ... ومن الامثال الشائعة في الريف العراقي قولهم (الدين رزق( وأحسب هذا القول إشارة الى انهم يستسهلون اخذ الدين ويستصعبون وفاءه فالدين رزق ساقه الله اليهم وهو قد أصبح ملكا لهم وليس من الهين عليهم ان يرجعوه من تلقاء انفسهم وهم في الوقت ذاته يشعرون بالغبن حين ياكل احد الناس دينا لهم عليه . حدثني صديقي انه كان ذات يوم في احد المجالس الريفية يستمع الى احاديث القوم وجرى بينهم حديث رجل منهم فاخذوا يمدحونه قائلين بانه رجل (سبع) يستطيع ان ياخذ حقه من غيره بالقوة بينما لايستطيع احد ان ياخذ منه الحق الواجب عليه . يخيل لي ان العلاقة بين الدائن والمدين صارت تعد في الريف كالعلاقة بين الغالب والمغلوب في الصحراء حيث يختزي الرجل ان يكون مغلوبا ويفخر ان يكون غالبا ومن دواعي الرجولة في نظره ان يكون قويا في اخذ الدين الذي له وفي الامتناع عن اداء الذي عليه . وقد لاحظت ان هذه الصفة قد انتقلت عن طريق العدوى الى بعض سكان المدينة لاسيما اولئك الذين هم من اصل ريفي او بدوي فتجد احدهم يبذل كثيرا من ماله على الولائم ومواطن الكرم المالوفة بينما هو يستصعب أداء الدين القليل الذي عليه وهو قد ينافس اقرانه في باب المقهى او المطعم ثم يخاصم الحمال والبقال على فلسين استحقا عليه .. دافع الربح والأخلاق أشار الدكتور متى عقراوي في كتابة العراق الحديث الى ان ما يعرف لدى الغربيين بدافع الربح قد صار يسيطر على اخلاق العشائر العراقية وقد أدى ذلك بهم الى تفسخ اخلاقهم حيث اخذوا يتعاطون الخداع والمواربة والكذب في سبيل الربح . وفي رأيي ان هذا التفسخ الخلقي لم ينشأ فيهم بدافع الربح وحده إنما هو يرجع ايضا الى ما ورثوا من البداوة من احتقار للمهنة والعمل اليدوي . المعروف في الريف العراقي ان كثيرا من ابناء العشائر يستنكفون من القيام بكل عمل يؤدي بهم الى البيع والشراء فهم يمتنعون عن زراعة الخضر او تربية الجاموس او صيد السمك بالشبكة انهم يعلمون بأن هذه الاعمال تؤدي بهم الى امتهان البقالة والبقال بينهم محتقر غاية الاحتقار اذ هو في نظرهم ناقص الرجولة وهم لذلك لايجالسونه ولايزوجونه من بناتهم او يتزوجون من بناته . رايت ذات مرة في إحدى القرى العراقية رجلا من ابناء العشائر يحمل شئيا من الخضر ليبيعه في القرية فأخذ الناس يسخرون منه ويطلقون عليه لقب ( خنيث ) ولم يجد الرجل مناصا من الهرب تجنبا للعار وقد سال الدكتور شاكر سليم احد الوجهاء في قرية الجبايش عن السبب الذي جعلهم يحتقرون زراعة الخضر فقال بما معناه : إن هذا الرجل يحمل بضاعته بين الناس من اجل بيعها وهذا عيب ! . وهم يحتقرون الحائك كما يحتقرون البقال سئل احدهم عن سر احتقارهم للحياكة فاجاب بان الحياكة منذ قديم الزمان سرقوا اقراط الحسين وشهدوا على مريم العذراء زورا وبهتانا . ارجح الظن ان الحاكة لم يفعلوا هذا ولا ذاك كل ما فعلوه انهم عاشوا بين قوم يكرهون العمل اليدوي والمهنة التجارية بشتى انواعها . وهنا نقف قليلا لنتسائل عن هذه القيم كيف تستطيع ان تصمد ازاء الظروف الحضرية الجديدة التي أخذت تسود الريف العراقي شيئا فشيئا؟ وهل يستطيع ابناء العشائر ان يمتنعوا عن احتراف التجارة او الأعمال اليدوية في الوقت الذي امسوا فيه في ضيق اقتصادي قاهر ؟. لا ننكر ان كثيرا من اهل الريف ضلوا متمسكين بقيمهم القديمة على الرغم مما يعانون من فقر وحرمان وتراهم يصبرون على الضيق ويقاسون شظف العيش دون ان يتنازلوا الى تعاطي المهن المحتقرة ولكن هؤلاء بدأوا يقلون شيئا فشيئا بتأثير الظروف الحضرية التي أخذت تحيط بهم وتضيق عليهم الخناق . إن الانسان بوجه عام يحب ان يكون محترما بين قومه وهو يفضل ان يكون فقيرا محترما على ان يكون غنيا محتقرا ولكن هذا له حد يقف عنده والحاجة الاقتصادية قد تدفع الانسان احيانا الى تحطيم القيود والسدود وقد حدث هذا فعلا بين اهل الريف العراقي فصاروا يستهينون بقيمهم القديمة تدريجا وشرعوا يحترفون الاعمال المربحه على الرغم من حقارتها الاجتماعية انهم بعبارة اخرى صاروا يفضلون المال على الجاه وهذا يؤدي بطبيعته الى شيوع شيء من الاستهتار الخلقي فيهم كما لايخفى . يقال في علم النفس ان الانسان اذا اجترا على اقتراف الحرام مرة سهل عليه ان يقترفه مرة ثانية وثالثة وهذا هو ما يجري عند بعض اهل الريف لا سيما اولئك الذين اخذوا في الاونة الاخيرة يهاجرون المدن وهم اليوم كثيرون . لقد تذوق هؤلاء طعم الحرام ووجدوا فيه لذة واقصد بالحرام الخروج على القيم الموروثة وكل ربح يجنونه من ذلك يدفعهم اى التمادي فيه حتى ينتهي بهم المطاف اخيرا الى قلة المبالاة بجميع القيم القديمة منها والجديدة وقد يصدق عليهم قول القائل : انهم ضيعوا المشيتين ! لقد اخذ دافع الربح يسيطر على سلوكهم ولكنهم يفهمونه على خلاف ما يفهمه التاجر في البلاد المتمدنة فالتاجر المتمدن يقيم تجارته على اساس ارضاء الزبون وهو يسير في ذلك على المبدا القائل : ( الزبون على حق دائما ) اذ هو يدرك ان نجاح تجارته مستمده من رضا الزبائن عنه ومن حسن سمعته بينهم . أما عند أصحابنا فدافع الربح يحفزهم الى غش الزبون واستغلاله دون اهتمام بما يأتي به الغد منه. إنهم ينظرون الى الزبون كما كان أجدادهم البدو ينظرون الى القرين المبارز ويجب ان لا ننسى ان الزبون قد يكون مثلهم في هذا الخلق ولهذا تتخذ المساومة بينهم وبينه صورة المبارزة والمصاولة حيث يحاول كل فريق ان يخرج من الصفقة غالبا ويتألم اذا خرج منها مغلوبا والذي يتجول في الاسواق العراقية يجد هذه العبارة مكتوبة على بعض حوانيتها ( المباع غير مرجوع والدين ممنوع والعتب مرفوع والرزق على الله الكريم ! ) .ولست ادري كيف يمكن ان يكون الله كريما على رجل لايبيع بالدين ولا يرجع ما يباع ثم لايقبل العتب علاوة على ذلك . ان هذه العبارة تذكرنا بالمفهوم البدوي في امر الرزق فالرزق ياتي من السماء ولا اهمية بعد ذلك ان يرضى الزبائن عنك او يغضبون وليس من النادر في الاسواق العراقية ان يقع الشجار بن البائع والمشتري فالبائع الغالب لايحب ان يتنازل عن ربح اكتسبه بسيف المساومة وكذلك لايحب المشتري المغلوب ان يظل مغلوبا وقد ينتهي الامر بينهما الى الصفعات واللكمات احيانا مع الاسف الشديد . ولايقتصر اثر هذا الخلق على مجال البيع والشراء وحده بل يتعداه ايضا في بعض الاحيان الى مجال المهن اليدوية فانت اذ تستاجر صاحب مهنة للقيام بعمل ما ثم تغفل عنه تراه قد تكاسل في عمله او حاول الغش فيه والظاهر ان نزعة المغالبة التي ورثها من البداوة لا تتركه يعمل كما تقتضيه مصلحته الدائمة ان يعمل وهو لايبالي بعدئذ ان يأتي بأغلظ الايمان ليبرهن لك انه كان في عمله امينا والله شاهد على ما يقول !. الضائع من اخلاق المدن : كان حديثي يدور في معظمه حول الضائع من أخلاق الريف في العراق ومما تجدر الاشارة اليه إن أهل الريف هناك يؤلفون اكثرية السكان ومن الممكن القول ان حوالي الستين بالمئة من سكان العراق يعيشون في الريف او يتصلون به على وجه من الوجوه. بقي علينا ان نتحدث عن الضائع من اخلاق اهل المدن وكي نفهم ذلك يجب ان نرجع بابصارنا الى العهد العثماني وهو العهد الذي كان العراق رازحا تحت وطاته حتى الحرب العالمية الاولى ولا يزال كثير من أهل العراق يعيشون فيه بذاكراتهم وما ورثوا منه من قيم اجتماعية . وموضوع البحث في أحوال المدن العراقية في العهد العثماني موضوع طويل معقد لامجال الان للاسهاب فيه يكفي هنا ان نقول بان اهل المدن يومذاك لم يكونوا مطمئنين الى مقدرة الحكومة على صيانة ارواحهم وأموالهم فاضطروا من جراء ذلك الى اتخاذ نوع من التكتل القبلي فيما بينهم ليدرؤوا به عن انفسهم بعض شرور النهب والقتل اللذين كانا شائعين في ذلك العهد ومن هنا اصبحت كل محلة في المدينة كأنها قبيلة لها شيخها الخاص بها ونخوتها وتاريخها المملوء بمفاخر الرجوالة والبطولة . ومر زمن على العراق كان القتال فيه ينشب بين محلات المدينة كما كان ينشب بين عشائر الريف او قبائل الصحراء واذا قتل من احدى المحلات شخص على يد احد من محلة اخرى قامت المحلة تطالب بثأرها و تحتكم فيه الى الخبراء في العرف العشائري. وتحولت النخوة العشائرية في المدينة الى نخوة محلية فكان الناس ينادون ابن محلتهم (ابن طرفنا) والمفروض في الرجل ان يدافع عن ابن طرفه او ياثر له سواءا كان ظالما او مظلوما . وكانت التربية تؤكد على هذه النعرة المحلية في المدن فكان الاطفال يمارسون العصبية المحلية اثناء لهوهم في الازقة وأعظم لهو عندهم ان يحارب اطفال المحلة اطفال المحلات الاخرى ويكاسروهم ويدور حديث الاطفال عادة حول البطولات التي كسبتها محلتهم تجاه غيرها ومن الصعب على طفل ان يذهب الى محلة اخرى من دون حماية اذ ليس من النادر ان يستضعفه الاطفال فيما بينهم عصابة يهاجمون بها البساتين ليسرقوا منها الفواكه وهم يجدون لذة كبيرة في السرقة اذ هي تدل في نظرهم على البطولة وهم يحتقرون الطفل الذي لايسرق ولايعتدي فهو (مخنث) او (مكفخ) وقد يقع تحت وطأة الأقوياء منهم فيذلونه او يستغلونه او يلوطون به . واذا كبر هؤلاء الأطفال وبلغوا مبلغ الرجال ظلوا ينظرون الى الحياة بمنظار القوة والضعف او بمنظار الرجولة والخنوثة وترى الناس عند ذاك يحترمون الرجل المعتدي الجبار الذي يسطو على البيوت ويسفك الدماء ويقضي وقتا طويلا في السجن. وكان في كل محلة رجال جديرون بلقب البطولة والمحلة تعتز بهم وتعدهم من مستلزمات فخارها ازاء المحلات الاخرى والبطل سفاك بالنسبة لأعدائه وأعداء محلته ولكن في الوقت ذاته من اكثر الناس شهامه بالنسبة لأصحابه وأبناء محلته ولايكاد يستنجد به احد حتى يسرع الى نجدته بعد ان يفتل شاربه طبعا . أعرف رجلا مسنا من ابناء الجيل الماضي وطالما جلست اليه استمع الى ما يحدثني به عن ذكريات الايام الماضية انه ينظر الى الشبان المائعين الذين يمرون امامه فيطلق الحسرة تلو الحسرة على تلك الايام المجيدة التي كان الرجل فيها رجلا بمعنى الكلمة وليس هو كرجال هذا الزمان الذين لا يستطيعون ان يذبحوا .. ويمشطوا شعرهم ثم يتغنجوا كالنساء . انه يقول في اسف وحرقة (الرجال ماتوا ) وهو يعني بالرجال اولئك الذي كانت قلوبهم عامرة بالنخوة والرجولة اذ هم لايسمعون صوت الاستغاثة من صديق لهم حتى يشهروا خناجرهم معه دون ان يسألوه عن السبب انهم كما قال الشاعر البدوي القديم : يسالون اخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا وروى لي صاحبي عن رجال ذلك الزمان ان جماعة منهم سطوا ذات ليلة على بيت واخذوا يجمعون منه الاواني وبعض الاثاث فاحست بهم ام البيت وهي خائفة فايقظت ولدها قائلة له : قم ساعد خوالك على حمل ما سرقوا وسمع رئيس اللصوص قولها فامرهم ان يتركوا السرقة من هذه المراة انهم صاروا إخوانها وأخوال ولدها وليس من الجائز في شرعة الرجولة والفروسية ان ينهب الرجل اخته وابناء اخته. تلك هي اخلاق الرجال في تلك الايام وها هو ما قاله لي صاحبي في تمجيد الرجال الماضين انه يذكر شهامتهم وينسى انهم لصوص ولعله يرى اللصوصية من مفاخرهم ايضا اذ هي تدل على الشجاعة وشدة البأس والجبان هو الذي لا يستطيع ان يسرق او يسطو على البيوت الاخلاق في وضعها الاخير : ذلك ما كان عليه وضع الاخلاق في المدن العراقية قبل الحرب العالمية الاولى يوم كان العراق رازخا تحت وطأة الحكم العثماني ولست انكر ان هذا الوضع بدأ يتغير بتأثير الظروف الجديدة ولكن الذي يجب ان اعترف به ايضا ان بقية من القيم القديمة لا تزال مشهودة هنا وهناك لا سيما في المناطق التي لم تتأثر بالظروف الجديدة تأثرا كبيرا وهذا امر ليس من السهل غض النظر عنه والقيم الاجتماعية بوجه عام لا يمكن ان تزول من قلوب الناس فجأة انها متغلغلة في اعماق اللاشعور وهي تصّر على الصمود هناك زمنا طويلا حيث تؤثر في توجيه السلوك على الرغم من تبدل الظروف الملائمة لها . والذي يتجول اليوم في المحلات القديمة من المدن العراقية يجد الناس لايزالون يتفاخرون ويتنابزون على نمط ما اعتادوا عليه في زمن مضى ولاتزال المقاهي عامرة بروادها وهم يتحدثون عن السبع والمخنث وعن الغالب والمغلوب بشكل لا يختلف في اساسه عن حديث اهل البادية ونراهم يتمسكون بعقيدتهم الدينية تمسكا شديدا ويقدسون الانبياء والاولياء تقديسا لا حد له وهم قد يعتدون على من يشك في صحتة عقيدتهم او يستهينون بالانبياء والاولياء ولكنهم في الوقت ذاته لايحترمون من يقتدي في اخلاقه بسيرة الانبياء والاولياء ولو فرضنا ان رجلا منهم اراد ان يلتزم بتعاليم الانبياء فيرد الاذى بالعفو والسيئة بالحسنة لعدوا ذلك منه خنوثة وضعفا ورمقوه بنظرات الاحتقار وتجد احدهم يظهر الخشوع والتقوى ويذرف الدموع حين يحدثه الواعظون عن مخافة الله ولكنه لا يكاد يجتمع الى اقرانه حتى يأخذ بالحديث عن غزواته وفتكاته وكيف غلب فلانا او خدع فلانا او (كسر) عين فلان وهو يضحك عند ذلك بملء شدقية فخارا . انهم لايسألون عن الفائدة العملية التي يجنيها الرجل مما فعل المهم عندهم ان يكون الغالب على اية صورة فذلك في نظرهم من معالم الرجولة فيه وتتضح هذه النزعة فيهم في مسألة الانحراف الجنسي فقد شهدنا في الغرب ان الناس هناك يعاملون المنحرف جنسيا بشيء من العطف باعتباره مريضا يحتاج الى علاج وهم لايفرقون في ذلك بين المنحرف السلبي او المنحرف الايجابي والمعروف في بعض الامم الراقية انهم يستنكرون الانحراف الايجابي اكثر مما يستنكرون الانحراف السلبي حيث يعدون الاول منهم سببا والثاني نتيجة . اما عند اصحابنا فهم ينظرون في هذا الامر على عكس ما ينظر فيه أولئك فهم يحتقرون المنحرف السلبي كل الاحتقار بينما هم ينظرون الى المنحرف الايجابي بعين الاحترام احيانا انه بحسب مفاهيمهم غالب والويل كل الويل لمن كان في هذا المجال مغلوبا اذ يبقى في عرفهم (مكسور العين) تجاه غالبيتهم فلا يجرأ ان يرفع عينه عليهم امدا طويلا . وهم ينظرون الى الزنى بمثل هذه النظرة المزدوجة فمن الفخار للرجل ان يكون زانيا بنساء غيره ومن العار عليه ان تكون احدى نسائه مزنيا بها ويقع عبء ذلك على المرأة في معظم الاحيان فقد ورث الناس من البادية امر احتقار المرأة وعادة قتلها عند الاشتباه بسلوكها ولكنهم تركوا ما كان عليه البدو من شهامة وعفة واباء ولهذا اصبح قتل المرأة في العراق ظاهرة اجتماعية تلفت النظر ولا يكاد يمر يوم دون ان تسمع عن رجل قتل احدى قريباته غسلا للعار ثم سلم الى الشرطة خنجره الملطخ بالدم خلاصة الامر على اي حال ان الاخلاق في العراق لا تزال تحمل في ثناياها بعض قيم البداوة في احترام الغالب واحتقار المغلوب ولكنها قيم ممسوخة حيث خرجت من محيطها الاول وفقدت وظيفتها الاجتماعية انما بقيت توجه السلوك كالعقدة النفسية من غير ان يكون هدف لها يلائم محيطها الجديد . ملاحظات ختامية : يجب علي قبل ان اختم البحث ان اورد بعض الملاحظات التي اراها ضرورية له وهي اربع : الملاحظة الاولى : اني كما قلت سابقا قد حصرت الموضوع ضمن اطار الصراع بين البداوة والحضارة ومما يجدر ذكره ان هذا الاطار لا يستوعب جميع الضائع من الموارد الخلقية فهناك نواح اخرى منه لعلها اهم مما ذكرته ولكن مقصدي من هذا التركيز او الحصر هو لفت النظر الى ناحية وجدتها مهملة لدى كثير من اخواني الباحثين الاجتماعيين في البلاد العربية واتمنى ان تتاح الفرصة لي او لغيري فندرس الضائع من الاخلاق العربية من حيث صلتها بصراع الاديان والمبادىء او من حيث صلتها بالمدنية الغربية التي اخذت تتغلغل في العالم العربي وتؤثر في مختلف شؤونه الاجتماعية . الملاحظة الثانية : ان بحثي هذا يمثل الجانب القائم من اخلاقنا ولعله لايخلو من مبالغة او غلو وعذري في ذلك اني مكلف من قبل هيئة الدراسات العربية ان ادرس الضائع من الموارد الخلقية لو كنت مكلفا بدراسة غير الضائع منها لربما كان بحثي على غير هذا الذي رايتم وهناك ناحية اخرى اود ان الفت انظاركم اليها هي ان زمان الغرور القومي قد ولى وحل محله زمان الفحص عن الادواء الاجتماعية والتحري عن الحقائق مهما كانت مُرة ومن الضار بنا ان نبقى نمدح انفسنا ونعد قومنا خير الاقوام واخلاقنا احسن الاخلاق وحيث نطلع على ما يكتب الباحثون الغربيون عن معائب مجتمعهم والضائع من اخلاقهم لوجدناهم يأتون منها بأفظع مما جئت به والمجتمع الذي ينكر وجود مرض فيه هو كالمسلول الذي ينخر المرض في رئته وهو يابى ان يستمع الى ما ينصحه به الطبيب . الملاحظة الثالثة : اني ركزت بحثي في المجتمع العراقي وحده واخشى ان يغضب مني اخواني اهل العراق ويخيل لي ان بعضهم سيسمعون بخبر هذه المحاضرة فيقولون عني ان تعمدت فضح العراق امام البلاد الاخرى وليس من العسير ان اتصور احدهم يقول لي ( لقد فضحتنا يا اخي ) الواقع اني اعتز بالعراق واتشرف بانتسابي اليه ولكني مع ذلك اتبع في بحوثي المبدأ الصوفي القائل ( اللهم افضحنا ولا تسترنا) وغاية املي ان يسير الباحثون الاجتماعيون في البلاد العربية الاخرى على هذا المبدأ فيعمدا الى فضح قومهم امام الناس دون حياء ولا حياء في العلم ولست اشكل اننا لو درسنا احوال البلاد العربية الاخرى لوجدنا فيها من الفضائح والادواء الاجتماعية ما لايقل عن تلك التي شهدناها في العراق على وجه من الوجوه . الملاحظة الرابعة : اني خصصت بحثي في وصف الداء دون ان اصف الدواء وفي رأيي اننا ما دمنا قد عرفنا على وجه التقريب الاسباب التي ادت الى ظهور الداء من المسؤولية في هذا الصدد يقع على عاتق الحكومة اذ هي تستطيع ان تضع الخطة الرصينة التي تجعل الناس ينسون تراثهم البدوي وينهمكون في اقتباس القيم الجديدة التي تقوم عليها الحضارة العالمية . انها تستطيع مثلا ان تقضي على الاقطاع في الريف وتنشر فيه الملكية الصغيرة وتمنع عنه اذى المرابين عن طريق الجمعيات التعاونية والتسليف الزراعي بحيث تجعل الفرد الريفي يحس بان نزعة الاستحواذ والغلبة التي ورثها من الماضي لا تجديه في الحياة الملائمة شيئا وان الاهتمام بالانتاج واكتساب الاخلاق الملائمة له السبيل الوحيد الذي يؤدي به الى النجاح والكرامة . يحدثنا الاستاذ حليم نجار في كتابه ( تراثنا الاجتماعي واثره في الزراعة ) عن قرية صغيرة قرب معرة النعمان في سوريا ان الفلاحين فيها يملكون الارض ويستغلونها لانفسهم أي ان الملكية الصغيرة شائعة فيها بينما القرى المجاورة لها تعيش تحت نظام الاقطاع يقول الاستاذ نجار ان اخلاق تلك القرية تستلفت النظر حيث يتصف اهلها بعزة النفس وكرم الخلق وصدق المعاملة بالاضافة الى النشاط والمثابرة والطموح اما سكان القرى المجاورة الذين لايختلفون في دينهم او علمهم او جنسهم عن اهل تلك القرية فاخلاقهم تناقض تلك التي ذكرناها اننا لا نستطيع اصلاح اخلاق الناس عن طريق المواعظ والنصائح على منوال ما كان القدماء يفعلون قديما الاخلاق وليدة الظروف الاجتماعية التي تحيط بها وما لم تتغير تلك الظروف فاننا لا نأمل ان تتغير الاخلاق كما نهوى وبهذا يصدق قول القائل ( غير معيشة المرء تتغير اخلاقه ) [url=http://www.jablah.net/node/5844]الجزء الأول[/url]

د.علي الوردي