آخر الأخبار

أوغاريت والعهد القديم

فراس سواح

حتى أواسط القرن التاسع عشر كان كتاب العهد القديم (التوراة العبرانية) يُعتبر بمثابة الميراث الأدبي الوحيد الذي خلّفته حضارة آسيا الغربية، والمصدر الوحيد لدراسة تاريخ هذه المنطقة وأديانها ومعتقداتها. ولكن الثورة الأركيولوجية التي ابتدأت منذ أواسط القرن التاسع عشر باكتشاف الحضارة الآشورية ثم البابلية فالسومرية، وما أفاضت به هذه الاكتشافات من مكتبات وأرشيفات تحتوي على نصوص أدبية وميثولوجية وطقسية وتاريخية، قد عكست الصورة القديمة، وتحول كتاب التوارة من ظاهرة مشرقية فريدة إلى نتاج ثانوي ومتأخر لثقافة الشرق القديم، وأخذت الدراسات المقارنة في الغرب تتابع أصول الكثير من الأفكار الدينية
والعناصر الأدبية في كتاب التوراة، وتعقد الصلة بينها وبين نتاجات الثقافة الرافدينية. ولكن اكتشاف نصوص مدينة أوغاريت قد أظهر الخلفية الكنعانية المباشرة لكتاب التوارة، والمصدر الأكثر قرباً لإلهام محرري أسفاره، سواء من حيث الأساليب الأدبية أم من حيث الأفكار الدينية المستعارة. وسنبدأ فيما يلي بتقصي تشابه الأساليب الأدبية بين هذين الموروثين ولا سيما فيما يتعلق بالمقاطع الشعرية في التوراة، ثم ننتقل بعدها إلى الاستعارات الدينية، وذلك من خلال أمثلة منتقاة تفي بالغرض.
إن العنصر الأساسي في الأسلوب الشعري الأوغاريتي يقوم على مبدأ التوازي حيث يتم توسيع فكرة واحدة من خلال التكرار وإعادة الصياغة أو التضاد. وبما أن الوزن الشعري والقافية مفقودان في هذا الشعر، فإن أسلوب التوازي هو الذي يعطيه الإيقاع والنغم. لنقرأ على سبيل المثال المقطع التالي من أسطورة بعل:
دعني أخبرك أيها الأمير بعل،
دعني أكرر يا راكب الغيوم.
نلاحظ هنا كيف تم تطوير الفكرة الواردة في البيت الأول عن طريق التكرار وإعادة الصياغة. فقد استُبدلت جملة «دعني أخبرك» في السطر الأول بجملة «دعني أكرر» في السطر الثاني. كما استبدلت جملة «أيها الأمير بعل» في السطر الأول بجملة: «يا راكب الغيوم» في السطر الثاني. أي إن مضمون السطر الأول قد أعيدت صياغته بشكل مختلف في السطر الثاني مع الحفاظ على المؤدى والمعنى. ثم يتابع الشاعر الأوغاريتي فيقدم لنا وحدة من ثلاثة أبيات بدل البيتين:
هو ذا عدوك يا بعل،
هو ذا عدوك الذي سوف تقتله،
ها أعداؤك سوف تفنيهم.
ثم يختم مقطعه بوحدة من بيتين:
ولسوف تفوز بالملك إلى الأبد،
وتبسط سيادتك على الكل دوماً.
بعد ذلك يأتي الشاعر التوراتي في سفر المزامير ليستعير الشكل والمضمون بعد استبدال اسم بعل باسم يهوه:
لأنه هو ذا أعداؤك يا رب،
هو ذا أعداؤك يبيدون،
كل فاعلي الإثم يتبددون. (المزمور، 9:9)
وأيضاً:
مُلكك مُلك كل الدهور
وسلطانك في كل دور فدور (المزمور 145: 13)
ولنتابع هذا الأسلوب في عدد آخر من المقاطع الأوغاريتية
* ليس لبعل بيت كبقية الآلهة،
ولا هيكل كأبناء عشيرة.
* أقيمي في الأرض وئاماً،
وابذري في التراب محبة،
واسكبي السلام في كبد الأرض.
* بعد ذلك جاء الظافر بعل،
وجاءت عناة العذراء،
وكرما الربة عشيرة البحر،
وتوسلا إلى خالقة الآلهة.
* والآن تريد أن تسحق لوياثان الحية الهاربة.
الآن تريد أن تجهز على الحية الملتوية،
شالياط العتبة ذات الرؤوس السبعة.
* كيف يرتعد بعل ارتعاداً
وكيف تزول قوة هدد
* أي عدو وقف في وجه بعل؟
أي ضرر أصاب راكب الغيوم؟
ألم أسحق «يم» حبيب إيل؟
ألم أقضِ على «نهر» الإله العظيم؟
* بينما هو يبكي غلبه النوم.
بينما دموعه تسيل أخذه السبات.
أخذه السبات بينما كان مستلقياً.
عندها في حلمه رأي إيل ينزل.
رأى أبا البشر يقترب.
* اطلب الحياة يا أقهات.
اطلب أيها الفتى البطل.
اطلب الحياة أعطيكها،
والخلود فأهبه لك.
إن أسلوب التوازي والتكرار هذا صار فيما بعد السمة الغالبة على المقاطع الشعرية في التوراة، ولا سيما تلك التي يُعتقد بقدمها وأسبقيتها على عملية التحرير الأخيرة التي ابتدأت منذ القرن الخامس قبل الميلاد. وهذه بعض الأمثلة المنتقاة.
نقرأ في أنشودة مريم، في سفر الخروج 15:
- يمينك يا رب معتزة بالقدرة
يمينك يا رب تحطم العدو
وبكثرة عظمتك تهدم مقاوميك
- من مثلك بين الآلهة يا رب
من مثلك مخوف بين القدوسين
- حينئذٍ يندهش أمراء أدوم
أقوياء مؤاب تأخذهم الرجفة
- حتى يَعبر شعبك يا رب
حتى يعبر الشعب الذي اقتنيته
تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك
المكان الذي صنعته يا رب لسكنك
المَقْدِس الذي هيأَته يداك يا رب
ونقرأ في سفر العدد 23 و 24:
- كيف ألعن من لم يلعنه الله
وكيف أشتم من لم يشتمه الرب
- وحي بلعام بن بعور
وحي الرجل المفتوح العينين
وحي الذي يسمع أقوال الله
ونقرأ في سفر التثنية 32:
- أنصتي أيتها السماوات فأتكلم
ولتسمع الأرض أقوال فمي
يهطل كالمطر تعليمي
ويقطر كالندى كلامي
كالطل على الكلأ
وكالوابل على العشب

من هذه الاستعارات الأسلوبية ننتقل إلى الاستعارات الميثولوجية والدينية، وهي كثيرة، مركزين بشكل خاص على المزمور 104 والمزمور 29.
يركز المزمور 104 على الأفكار المتعلقة بالخلق، ويحتفل بالتكوين وأعمال الرب الخلاقة بأسلوب شعري، مثلما تحدث الإصحاح الأول من سفر التكوين عن عجائب الخلق بأسلوب نثري. وقد لفت هذا المزمور نظر الباحثين منذ مدة طويلة، وأقاموا المقارنات بينه وبين الأدب الكلاسيكي ثم بينه وبين الأدب الرافديني. وفي عام 1905 قام عالم المصريات الأميركي الشهير ج.هـ بريستد بلفت النظر إلى الشبه القريب بين المزمور 104 وترتيلة الشمس (الطويلة) للفرعون أمنحوتب الرابع (أخناتون)، واعتبر أن الترتيلة المصرية تكشف عن أصل المزمور 104 في إعلائها لشأن الإله باعتباره صاحب الخلق الطيب والحسن. وإليكم هذه المقاطع المختارة من الترتيلتين، علماً بأن أبيات المزمور التوراتي ترد هنا في غير ترتيبها الأصلي:
ترتيلة أخناتون
المزمور 104
العالم في ظلام كأنه الموت.
تجعل ظلمة فيصير ليل
الأسود تخرج من عرينها،
فيه تدب كل حيوانات الوعر.
والحيات من جحورها،
الأشبال تزمجر لتختطف
والظلام يسود.
وتلتمس من الرب طعامها،
وعندما تشرق في الأفق،
تشرق الشمس فتجتمع في مآويها وتربض.
يتلاشى الظلام،
الإنسان يخرج إلى عمله وشغله.
وكل يذهب إلى عمله.
تشبع أشجار الرب، أرز لبنان
تزهر كل الأشجار والنباتات،
حيث تعشعش هناك العصافير.
والطيور ترفرف في أعشاشها،
الجبال العالية للوعول، الصخور ملجأ للوبار.
والخرفان ترقص وتثب على أرجلها.
هذا البحر الكبير الواسع الأطراف؛
السفن تمخر عباب الماء،
هناك دبابات بلا عدد، صغار مع كبار،
والأسماك في النهر تقفز أمامك،
هناك تجري السفن.
وأشعتك في وسط البحر العظيم.
ما أعظم أعمالك يا رب!
كم هي متعددة أعمالك!
كلها بحكمة صُنعت.
لقد خلقتَ الأرض وفقاً لمشيئتك،
ملآنة الأرض بغناك.
وكل ما عليها من بشر وحيوان.
الساقي الجبال من علاليه،
لقد خلقت نيلاً في السماء،
من ثمر أعمالك تشبع الأرض.
يرسل الماء على المخلوقات
المنبت عشباً للبهائم،
فيسقي حقولهم،
وخضرة لخدمة الإنسان.
ويجعل الجبال تفيض سيولاً.
صنع قمراً للمواقيت. الشمس تعرف مغربها.
أنت الذي خلق الفصول،
المخلوقات كلها إياك ترتجي رزقها،
وخلقت السماء فيها تغرب وتُشرق.
تفتح يدك فتشبع خبزاً،
عندما تسطع على المخلوقات تحيا،
تحجب وجهك فترتاع،
وعندما تغرب عنها تموت
تنزع أرواحها فتموت.
على الرغم من وجود هذا التشابه بين الترتيلة التوراتية والترتيلة المصرية الأخناتونية، إلا أن لغة شاعر المزامير تشف عن تشابهات كبيرة مع لغة نصوص بعل الأوغاريتية. فصاحب المزمور يصف إلهه يهوه بأنه «راكب السحاب»: «الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح» (البيت 3). وهذا الوصف هو من الأوصاف الرئيسية للإله بعل، ويتكرر مرات عديدة في نصوص بعل: «إن الظافر بعل حي، إن راكب السحاب موجود» (النص الحادي عشر- العمود الأول). وفي المزمور نقرأ عن النار واللهب باعتبارهما تجسيداً لخدم الرب: «الصانع ملائكته رياحاً، وخدامه ناراً ملتهبة» (البيت 4). أما النص الأوغاريتي فيتحدث عن استخدام النار واللهب في تحضير الفضة والذهب لبناء بيت لبعل: «وها يوم خامس وسادس وألسنة اللهيب في وسط الهيكل. ولكن في اليوم السابع خمدت النار في القصر، وألسنة اللهيب في الهيكل، والفضة صُبت ألوحاً، والذهب صب لَبنات» (النص الرابع- العمود السادس). في البيت 16 يتحدث المزمور عن أرز لبنان. وفي النص الأوغاريتي يجري استخدام أخشاب لبنان في بناء بيت لبعل (النص الرابع- العمود السادس).
وفي البيت 7 من المزمور نقرأ عن الرعد باعتباره صوت يهوه: «من صوت رعدك تفر». وفي النص الأوغاريتي يتكرر وصف صوت بعل الراعد: «سيفتح بعل كوة في السحاب، فيعطي بعل صوته القدوس. عندما يردد بعل كلماته ترتج الأرض والجبال تُروَّع. ترتجف الأعداء، أعداء بعل فيهربون» (النص الرابع- العمود السابع). ويصف المزمور في الأبيات من 10 إلى 13 يهوه بأنه ساقي الأرض بمطره: «المفجر عيوناً في الأودية، بين الجبال تجري تسقي كل حيوان البر... الساقي الجبال من علاليه، من ثمر أعمالك تشبع الأرض». وفي النص الأوغاريتي نجد أن بعل هو الذي يسقي الأرض بمطره وثلجه: «الآن يكثر بعل من مطره، البعل يكثر من إنزال ثلجه. يعطي صوته في السحب، ويرسل ضياءه إلى الأرض بروقاً» (النص الرابع- العمود الخامس). ويصف البيتان 14 و 15 يهوه بأنه المسؤول عن إنبات الزرع: «المنبت عشباً للبهائم وخضرة لخدمة الإنسان، لإخراج خبز من الأرض». وفي نصوص بعل تتشقق أخاديد الأرض لغياب بعل، وعند عودته يحيا كل نبات: «لقد تشققت أخاديد الحقول أيتها الشمس، أين الظافر بعل، أين الأمير سيد الأرض» (النص السادس- العمود الرابع). وعندما يعود بعل يرى الإله إيل حلماً: «في حلم الإله اللطيف، إله الرحمة، كانت السماء تمطر زيتاً والوديان تجري بالعسل» (النص السادس- العمود الثالث). فتطير الإلهة عناة لتعلن للجميع أن بعل سيعود إلى الأرض لينقذ حياة النبات: «وأنت أيتها البتول عناة طيري فوق الهضاب، ونادي: إن الظافر بعل حي، وإن راكب السحاب موجود، وإن البعل سيعود إلى الأرض حتى يحيي كل موات، وينجو النبات على يدي بعل المحارب» (النص الحادي عشر- العمود الأول).
ولدينا في هذا المزمور أيضاً مقطع لا يمكن فهمه إلا على ضوء ترويض الإله بعل للإله يم الذي يمثل المياه الهائجة التي تهدد نظام العالم. والإله يهوه هنا قد سيطر أيضاً على المياه وجعل لها تخماً لا تتعداه ولا ترجع لتغطي الأرض: «المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد. كسَوْتها الغمر كثوب. فوق الجبال تقف المياه، من انتهارك تهرب، من صوت رعدك تفر تصعد إلى الجبال، تنزل إلى البقاع إلى الموضع الذي أسستَه لها، وضعتَ لها تخماً لا تتعداه، لا ترجع لتغطي الأرض» (الأبيات من 5 إلى9).
وفي مواضع أخرى من النص التوراتي، خارج المزمور 104، نجد أصداء واضحة لصراع بعل مع الإله يم أو مع وكلائه من التنانين البحرية. نقرأ في سفر أشعيا 1:27، وفي العمود الأول من النص الخامس من نصوص بعل ما يلي:
أشعيا 27: 1
النص الأوغاريتي
في ذلك اليوم يعاقب الرب
والآن تريد أن تسحق لوتان
بسيفه القاسي العظيم الشديد
الحية الهاربة،
لوياتان الحية الهاربة،
الآن تريد أن تُجهز على الحية المتحوية،
لوياتان الحية المتحوية،
شالياط العتية ذات الرؤوس السبعة
ويقتل التنين الذي في البحر.
ونقرأ في المزمور 74: 13 أيضاً عن صراع يهوه مع لواياتان ومع قوى مائية أخرى قبل مباشرته عمل الخلق، مثلما صرع بعل يم كمقدمة لنشاطاته في تنظيم العالم: «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رؤوس التنانين على المياه. أنت رضضت رؤوس لوياتان، جعلته طعاماً للشعب لأهل البرية. أنت فجرت عيناً وسيلاً. لك النهار ولك الليل أيضاً. أنت هيأت النور والشمس. أنت نصبت كل تخوم الأرض. الصيف والشتاء أنت خلقتهما». وفي المزمور 89 نقرأ أيضاً عن قيام يهوه بإخضاع البحر وقتل تنينه المدعو هنا «رهب» وهو اسم آخر للتنين لواياتان، وذلك قبل قيامه بتنظيم العالم: «أنت متسلط على كبرياء البحر؛ عند ارتفاع لججه أنت تسكنها. أنت سحقت رهب مثل القتيل. بذراع قوتك بددت أعداءك. لك السماوات ولك الأرض أيضاً. المسكونة وملؤها أنت أسستهما، الشمال والجنوب أنت خلقتهما». وفي سفر أيوب يُدعى «رهب» هذا بالحية الهاربة أيضاً: «بقوته يزعج البحر، وبفهمه يسحق رهب. بنفحته السماوات مسفرة، ويداه أبدأتا الحية الهاربة».
إذا كان المزمور 104 يشف عن استعارات واضحة من الأدب الكنعاني، فإن المزمور 29 يبدو بقضه وقضيضه ترتيلة كنعانية للإله بعل جرت استعارتها كاملة بعد تغيير اسم بعل إلى الاسم يهوه، أو الرب كما يدعوه النص التوراتي نظراً لإحجام محرري الكتاب عن لفظ اسم يهوه تهيباً ومخافةً. والمزمور عبارة عن ترتيلة شديدة الواقع والتأثير موضوعها مدح الإله وإظهار عظمته وقوته من خلال التوكيد على صلته بالبرق والرعد والعاصفة المطرية. وقد وردت المطابقة بين الرعد وصوت الرب سبع مرات، وهو الصوت الذي يهز الأرض ويستثير الروع في قلوب سامعيه. تتألف بنية النص من ثلاثة أفكار تتطابق مع أفكار أسطورة بعل. ففي البداية يتسلط يهوه من خلال صوته الراعد على المياه فيخضعها ويطامن من لججها. ثم يُسمع صوته الذي يقدح لهباً وناراً، كنايةً عن البرق، للأحياء والجمادات فتهابه وتخشاه وتسبح بمجده، وفي النهاية يجلس على كرسيه ملكاً إلى الأبد في هيكله، مثما اعتلى بعل عرشه في البيت الذي بناه عقب تغلبه على الإله يم:
صوت الرب على المياه، إله المجد أرعد.
الرب فوق المياه الكثيرة.
صوت الرب بالقوة، صوت الرب بالجلال.
صوت الرب مكسر الأرز، ويكسر أرز لبنان.
صوت الرب يقدح لهب نار.
صوت الرب يزلزل البرية، برية قادش،
يولد الأيل ويكشف الوعور،
وفي هيكله الكل قائل: مجدٌ.
الرب بالطوفان جلس،
ويجلس الرب ملكاً إلى الأبد.

يميل معظم الباحثين اليوم إلى القول بأن محرر سفر المزامير قد استعار هذا النص من ترتيلة كنعانية معروفة له في ذلك الوقت. ومن هؤلاء الباحث المميز في العهد القديم هارولد. جينزبرغ الذي تقدم في عام 1935 بفرضية مفادها أن المزمور 29 هو ترتيلة فينيقية وجدت طريقها إلى العهد القديم. وفي سياق دعمه لهذه الفرضية أشار الباحث إلى الأفكار الكنعانية في المزمور، لا سيما توكيده مراراً على صوت الرب، وما يوحي به هذا التوكيد من أن الترتيلة كانت موضوعة في الأصل لتمجيد إله العاصفة الكنعاني بعل. يضاف إلى ذلك وجود إشارات جغرافية في المزمور تدل على أصله السوري، مثل أرز لبنان وبرية قادش. كما أن بعض الخصائص النحوية في لغته توجهنا نحو الشمال السوري. وأخيراً فإن الترتيلة تُختتم بكلمات هي بقية من صيغة مستخدمة في النصوص الميثولوجية الأوغاريتية، عندما تقول: «الرب بالطوفان جلس، ويجلس ملكاً إلى الأبد».
وقد قام باحثون آخرون بتطوير نظرية جينزبرغ في السنوات التالية، ومنهم ثيودور هـ. جاستر الذي اقترح أن المزمور 29 هو مزمور كنعاني من حيث الأصل، جرى تعديله فيما بعد بحيث تم استبدال اسم بعل باسم إله العهد القديم. وهذه العملية تشبه، في رأيه، ما تقوم به بعض الجهات الدينية اليوم من تبني الأغاني الدنيوية بعد تحويلها إلى أغانٍ دينية من خلال المحافظة على اللحن واستبدال الكلمات. أما الباحث الآخر فرانك. م. كروس من جامعة هارفارد، فقد اعتبر أن البينات كاملة بخصوص انتماء المزمور 29 إلى الشعر الكنعاني، واعتبره نموذجاً كلاسيكياً لدراسة طبيعة ذلك الشعر. وهنالك وجهة نظر معتدلة للباحث الكندي بيتر. س. كريغ، الذي يقول بأنه ليس في حكم المؤكد أن هذا المزمور قد اقتُبس حرفياً من ترتيلة كنعانية، على الرغم من توافر الحجج اليوم على أن الشعر الكنعاني قد مارس نوعاً من التأثير على مؤلف المزمور. ولعل من الأسلم أن نفترض بأن هذا الشاعر قد تعرف على ترتيلة كنعانية أثرت به تأثيراً عميقاً، فعمد إلى تقليدها بعد إدخال تعديلات عليها، لكي تُعبر عن فهمه لإلهه باعتباره إلهاً للطبيعة مثلما هو إله للتاريخ. وهو يقصد إلى القول بأن التعابير المستخدمة في عبادة بعل، من امتلاكه لسلاح البرق والصاعقة، وتسييره للسحاب وإنزاله للمطر، لا تنطبق عليه لأنه ليس إلهاً حقيقياً، ومن الحري أن تُستخدم هذه التعابير في وصف الإله يهوه وحده.
وبعيداً عن هذه الاستعارات الأسلوبية والفكرية، فقد قدمت نصوص أوغاريت للباحثين في العهد القديم معونة جُلى في تفسير مئات الكلمات الغامضة في النص التوراتي الذي كُتب بالخط الآرامي المربع الذي ابتُكر خصيصاً لتدوين أسفار التوراة، وبلغة مقاطعة اليهودية خلال العصر الفارسي، وهي لهجة كنعانية فلسطينية اصطُلح على تسميتها بالعبرية. ونظراً لقرب هذه اللغة من اللغات السامية الغربية مثل الفينيقية والمؤابية والآرامية، واحتفاظها بالبُنى والتعابير القديمة جداً والمتصلة بهذه اللغات، فقد جاءت نصوص أوغاريت لتقدم فرصة للباحثين في العهد القديم للمقارنة بين اللغتين، وإلقاء الضوء على كثير من غوامض العهد القديم اللغوية والأسلوبية. وسوف نعرض في هذا الحيز الضيق لمثال واحد يُظهر الكيفية التي ألقت بها لغة أوغاريت ضوءاً على بعض الكلمات التي بقيت غامضة في النص التوراتي حتى حل رموز الكتابة الأوغاريتية.
في سفر القضاة 5 لدينا ترنيمة تنشدها القاضية دبورة بعد انتصارها على الكنعانيين تفتخر فيها بالنصر وتستنزل اللعنات على القبائل العبرانية التي لم تهب لنجدتها وتشارك في المعركة. وفي الفقرة 17 تشير إلى قبائل جلعاد و دان وأشير قائلة:
جلعاد في عبر الأردن سكن.
ودان لماذا استوطن عند السفن؟
وأشير أقام على ساحل البحر وفي فُرضه سكن؟
إن السطر الثاني من هذه الفقرة قد طرح إشكالية على باحثي العهد القديم على الرغم من أنه يؤدي معنى واضحاً ولا لُبس فيه. والمشكلة تكمن في أن قبيلة دان، كما نعرف عنها في بقية أسفار الكتاب، لم تسكن على شاطئ البحر ولم تمارس أي نشاط بحري على ما يشير إليه هذا السطر. فما الذي تعنيه دبورة إذن بقولها إن دان استوطن عند السفن؟ لقد خمن بعض الباحثين منذ وقت مبكر أن كلمة سُفن الواردة في السطر، وتكتب بالعبرية «أن ي وت» هي كلمة متشابهة في اللفظ ومختلفة في المعنى مع كلمة أخرى. وهذه حالة شائعة في اللغات السامية التي تكتب بحروف ساكنة. ولكن ما هي الكلمة الأخرى التي تتشابه في اللفظ مع كلمة «أن ي وت» في العهد القديم؟ لقد بقي هذا السؤال معلقاً حتى جاءت نصوص أوغاريت لتقترح حلاً. فقد وردت كلمة «أن» وشكلها الآخر «آني» في ثلاثة نصوص أوغاريتية، وهذا التكرار يجعلنا على ثقة من معناها، فالكلمة تعني يسترخي أو يستريح. ولكن الملفت للانتباه أن هذه الكلمة قد وردت في أحد النصوص بعد كلمة «ج ر» التي تعني يمكث أو يبقى. وهذه واقعة حيوية بالنسبة لموضوعنا هنا، لأن كلمة «ج ر» الأوغاريتية هذه هي المعادل الأوغاريتي للفعل العبري «ج و ر» الذي ورد قبل كلمة «أن ي وت» في السطر الثاني من المقطع إياه والذي ترجم بمعنى استوطن أو أقام، بينما وردت في النص الأوغاريتي قبل كلمة «أن ي» التي تعني استرخى أو استراح. وهذه البيّنة يمكن لها أن توجهنا إلى ترجمة مختلفة للفقرة 17 من أنشودة دبورة التي يمكن أن نترجمها الآن على الشكل التالي:
جلعاد في عبر الأردن سكن.
ودان لماذا بقي مستريحاً ومسترخياً؟
وأشير أقام على ساحل البحر وفي فُرضه سكن؟
إنه تعديل طفيف ولا شك، ولا يؤثر كثيراً على معنى العهد القديم. ولكن عندما تتضاعف أمثال هذه التعديلات بضع مئات من المرات، يستطيع المرء أن يتصور الأثر البعيد لمعرفتنا بالأوغاريتية على ترجمة العبرية القديمة.
المراجع:
1- أنيس فريحة: ملاحم وأساطير من أوغاريت، دار النهار، بيروت 1980.
2- من أجل نص ترتيلة أخناتون، راجع ترجمة Griffit وترجمة E.W. Budge. وترجمة J.H. Breasted، الواردة في كتاب:
- Savitri Devi, Son of the Sun, Amorc, San Joes, California, 1981.
3- Allan cooper and Michael Coogan, Canaanite Religion, in: M. Eliade, Encyclopedia of Religion, MacMillan, London, 1987.
4- Peter C. Craigie, Ugarit and the old Testament, Erdmans, Michigan, 1983.
5- W.F. Albright, Yahweh and he Gods of Canaan, Anchor Books, New