آخر الأخبار

سمير الاسكندراني الثعلب المصري (1)

نشأ سمير فؤاد الاسكندراني في حي الغورية ، وقضى فيه طفولته وصباه، وعاش مع والده الحاج فؤاد سهرات وأمسيات الأدب والفن والغناء، فوق سطح منزله هناك، وامتزج نموه بأشعار بيرم التونسي ، وألحان الشيخ زكريا احمد، وغناء والده بصرته العذب، وأحاديث السياسة والحرب والاقتصاد..

ولكن دوام الحال من المحال.. لقد انتقلت الأسرة من الغورية إلي شارع عبد العزيز، ليتغير هذا العالم كله، وتنقلب الحياة رأسا علي عقب، فالطباع المصرية الأصلية اختفت وتوارت، لتحل محلها عائلات وتقاليد إيطالية ويونانية وإنجليزية وتحول عم سيد الصعيدي البقال البسيط إلي جورج باباكرياكو البقال اليوناني المتغطرس، وعم عبد الفضيل أصبح الخواجة أرتين، ولم تعد هناك جارتهم الست نبوية، بل أصبحت سنيورا ماريا، وابنتها الفاتنة يولندا..

ويولندا هذه بالذات، كان لها أبلغ الأثر في حياة سمير، فقد وقع في حبها، وعشق من أجلها كل ما هو إيطالي، وقضى بصحبتها أمسياته الجديدة، فوق سطح منزل شارع عبد العزيز وأمتزج بعصبة أمم مصغرة، من الشبان الإيطاليين واليهود..

بل ومن أجلها، قرر أن يتعلم اللغة الإيطالية، ويتقنها، حتى يبثها حبه ولواذع قلبه بلغتها الأم..

===================================
و يتحدث سمير الاسكندراني عن هذه المحطة من حياته قائلا : ـ
===================================

أنا كنت ساكن فى قاهرة المعز فى الغورية ،انتقلنا من الغورية إلى قلب القاهرة حيث كان قلب القاهرة يعج بأنماط من المتمصرين، الإيطاليين ، واليونانيون، والقبارصة. وهناك وقعت صريعا لغرام جارتى "يولاندا" ذات الشعر الأشقر ، والعيون الزرقاء "يولاندا" لخبطت موازين حياتي ودفعتنى إلى حب اللغة الإيطالية لأنها وسيلة التعبير عما يجيش فى صدري وفى قلبى

كانت النتيجة انى التحقت بمدرسة ليلية لتعليم اللغة الإيطالية وعند التحاقي بهذه المدرسة صادفني موقف فى حياتي لم يسبق له مثيل، إن الأستاذ كان ينطق الكلمة الإيطالية ويكتبها على السبورة لمرة واحدة فتنطبع فى قلبى وفى وجدانى وفى عقلى ولا أنساها أبدا.

فهمت فيما بعد كيف كان من الممكن للإمام محمد ابن ادريس أو الإمام الشافعى كيف كان يمكن له ان يقرأ صفحة كاملة ويحفظها عن ظهر قلب، هو صدق التوجه والإيمان والتركيز فى بؤرة واحدة " سواء أكان هذا إيمانا دينيا أو حب"

وكانت النتيجة أنى سافرت إلى إيطاليا، درست اللغة الإيطالية. وبعد أربعة أشهر عدت أتحدث الإيطالية كما أتحدثها الأن. كل ما سمعته فى اى وقت التصق ولم أنساه

وعندما رجعت ذهبت إلى بيت حبيبة القلب قبل ان أذهب إلى بيتي لأنها جارتي فقابلتني أمها وقالت لى بالإيطالية

كيف حضرت الآن يا سمير؟

ورددت عليها بلغتها وأنا اقتحم الشقة لأنهم جيرانى وفى مقام أمى .
تدهلزت لأبحث عن "يولاندا" حبيبة القلب ولم أجدها، ووقفت متسائلا دون صوت ودون كلمة، ولكن السنيورة ماريا أم يولاندا قالت لى: ـ

عن ماذا تبحث؟

قلت : عن يولاندا

قالت : لقد هربت يولاندا مع "أورلاندو" إلى إيطاليا .. وراحوا أتجوزوا هناك

ولكن يولاندا تركت لى حب اللغة الإيطالية، والحضارة الإيطالية، وحب عصر النهضة ، وثقافة عصر النهضة. وانفتحت بعد ذلك على كلية الفنون الجميلة ، وعلى دراسات الفن التى برعت فيه إيطاليا . وهناك نتعلم ونقدم دراسات الماجستير والدكتوراه
ويولاندا قدمت لي بحبي لها كل ما أعرف الآن ، وكل ما وصل لى إلى مرتبة من مراتب المعرفة فتحت لي أبواب كثيرة .. انه الحب ولاشيء إلا الحب .. خرج منى وعاد إلي

------------------------------

وتفوق سمير في دروس الإيطالية ونجح في الحصول علي منحة دراسية في مدينة بيروجيا الإيطالية، لدراسة الأدب واللغة في جامعتها الشهيرة..

وسافر سمير قبل موعد الرحلة بثلاثة أسابيع، ليزور والدة الدكتورة ماريا هايدر، الأستاذة بجامعة فيينا، التي دعته لقضاء السهرة في مرقص صغير، راح يراقصها فيه بكل مرح وبراعة، وضحكاتها تملا المكان، حتى ارتطمت قدمه عفوا براقص آخر، التفت إليه في حده يسأله عن جنسيته، وعندما أجابه بأنه مصري، ارتسم الغضب علي وجه ذلك الراقص، ولوح بقبضته في وجهه، صائحا في مقت شديد:

- وأنا إسرائيلي، ويوما ما سنحتل مصرك كلها، وعندئذ سأبحث عنك أنت بالذات، وسط الخراب والحطام، وأقتلك مرتين، و....

وقبل أن يتم عبارته، كانت قبضة سمير تحطم فكه، وتحول المكان كله إلي ساحة قتال..

وفي بيروجيا، استقر به المقام عند سنيورا كاجيني، التي عاملته كابنها، وأكرمت وفادته، وقضى في منزلها منحته الصيفية، وعاد إلي القاهرة، وكله شوق ولهفة، للقاء حبيبة القلب يولندا، وسكب عبارات الغزل الإيطالية في أذنيها..

ولكن كانت هناك في انتظاره مفاجأة مؤلمة..

لقد رحلت يولندا مع أورلاندو، صديقها القديم، ليتزوجا في أوروبا ونسيت أمره هو تماما..

وكانت الصدمة قاسية عليه، ولكنها لم تحطمه، وإنما دفعته للاستزادة من دراسته للغة الإيطالية، حتى حصل علي منحة دراسية ثانية، في جامعة بيروجيا، التي سافر إليها في الصيف التالي، ليقيم أيضا عند سنيورا كاجيني..

وذات يوم، وهو يلعب البياردو في الجامعة، التقى بشاب ذكي، يجيد العربية بطلاقة مدهشة، ويتحدث الفرنسية والإيطالية والإنجليزية في براعة، إلي جانب إجادته لبعض ألعاب الحواة، التي بهرت طلاب جامعة بيروجيا، وأدهشت سمير للغاية..
وقدم الشاب نفسه بأسم سليم، وسرعان من توطدت أواصر الصداقة بينه وبين سمير، وأخبره انه يعقد بعض الصفقات التجارية، التي تتطلب سرعة التحرك وسريته، مما يبرر اختفاءه كثيرا عن بيروجيا، ثم ظهوره المباغت في فترات غير منتظمة، وهو يصطحب في معظم الأحيان فتيات فاتنات، وينفق عليهن في سخاء واضح..

وعلي الرغم من انبهار سمير بهذا الشاب في البداية، إلا أن شيئا ما بعث الكثير من الحذر في أعماقه، فراح يتعام معه في بساطة ظاهرية، وتحفز خفي، نجح في التعامل بهما في مهارة، وكأنه ثعلب ذكي، يجيد المراوغة والخداع..

وذات يوم، أخبر احدهم سمير أن هذا الشاب ليس عربيا، وانه يحمل جواز سفر أمريكيا، مما ضاعف من شكوك سمير وحذره، فقرر أن يراوغ سليم أكثر وأكثر، حتى يعرف ما يخفيه، خلف شخصيه المنمقة الجذابة، حتى كان يوم قال له فيه سليم:

أن طبيعتك تدهشني جدا يا سمير، فأنت أقرب إلي الطراز الغربي، منك إلي الطراز العربي.. كيف نشأت بالضبط؟

وهنا وجدها سمير فرصة سانحة، لمعرفة نوايا سليم ، فأستغل معرفته الجيدة بطبائع المجتمع الأوروبي واليهودي، التي أكتسبها من أمسيات سطح شارع عبد العزيز وابتكر قصة سريعة، أختلقها خياله بدقة وسرعة مدهشتين، ليدعي أن جده الأكبر كان يهوديا، واسلم ليتزوج جدته، ولكن أحدا لم ينس أصله اليهودي، مما دفع والده إلي الهجرة للقاهرة، حيث عرف أمه، ذات الطابع اليوناني، وتزوجها، وانه أكثر ميلا لجذوره اليهودية، منه للمصرية..

وسقط سليم في فخ الثعلب المصري ، وأندفع يقول في حماس:

كنت أتوقع هذا.. أنا أيضا لست مصريا يا سمير ، أنا يهودي.

وابتسم الثعلب الكامن في أعماق بطلنا في سخرية، عندما أدرك أن لعبته قد أفلحت، ودفعت سليم لكشف هويته..

ولكن اللعبة لم تقتصر علي هذا، فبسعة قدم سليم صديقه الي رجل أخر، يحمل اسم جوناثان شميت، ثم أختفي تماما، بعد أن انتهت مهمته، باختيار العنصر الصالح للتجنيد، وجاء دور جوناثان لدراسة الهدف وتحديد مدى صدقه وجديته..

وأدرك سمير انه تورط في أمر بالغ الخطورة، ولكنه لم يتراجع، وإنما مضى يقنع جوناثان ، الذي لم يكن سوى أحد ضباط الموساد الإسرائيلي، بكراهيته للنظام، ورغبته في العمل ضده، حتى عرض جوناثان العمل لصالح ما أسماه بمنظمة البحر الأبيض المتوسط، لمحاربة الشيوعية والاستعمار، مقابل راتب شهري ثابت، ومكافآت متغيرة، وفقا لمجهوده وقيمة الخدمات التي يمكنه تقديمها، فوافق سمير علي الفور، وبدأ تدريباته علي الحبر السري، والتمييز بين الرتب العسكرية، ورسم الكباري والمواقع العسكرية، وتحديد سمك الخرسانة، ثم طلب جوناثان من سمير التطوع في الجيش، عند عودته إلي مصر، وأعطاه مبلغا كبيرا من المال، ومجلة صغيرة للإعلان عن ناد ليلي في روما، مطبوعة فيه صورته وهو يغني في بعض السهرات، كتبرير لحصوله علي المال..

وعاد سمير إلي بيروجيا ليستقبل شقيقه الوحيد سامي فؤاد الاسكندراني ، الذي حضر ليقضي معه بعض الوقت، قبل سفره إلي النمسا، وقضى سمير فترة أجازة شقيقه كلها في توتر شديد، ثم لم يلبث أن حسم أمره فأيقظه في أخر لياليه في بيروجيا، وقبل سفره إلي النمسا، وروى له القصة كلها، ثم طالبه بالكتمان الشديد..
وأصيب سامي بالهلع، لما رواه له شقيقه، وطلب منه الحرص الزائد، والتوجه فور عودته إلي مصر، إلي المخابرات العامة، ليروي لها كل ما لديه..

وكان هذا ما قرره سمير بالفعل، وما استقر رأيه عليه، ولكنه في الوقت ذاته كان يصر علي ألا يخاطر بما لديه من معلومات، وبالا يبلغ بها سوي شخص واحد في مصر..

--------------------------------------
الرئيس جمال عبد الناصر نفسه...
--------------------------------------

وفور عودته إلي القاهرة، وعن طريق احد أصدقاء والده، تم الاتصال بالمخابرات العامة وبمديرها صلاح نصر، الذي بذل قصارى جهده لينتزع ما لديه من معلومات، ولكن سمير أصر في عناد شديد علي ألا يبلغ ما لديه إلا للرئيس جمال شخصيا.. وقد كان

ولقد استمع الرئيس جمال في اهتمام شديد، إلي القصة التي رواها سمير، وشاهد مع مدير المخابرات تلك الحقيبة التي أعطاها جوناثان له، بجيوبها السرية، والعملات الصعبة، والحبر السري وغيره من أدوات التجسس، التي تطلع إليها الرئيس كلها، ثم رفع عينيه إلي سمير وقال له :

أعتقد أن دورك لم ينته بعد يا سمير.. أليس كذلك؟

أجابه الشاب في حماس :

أنا رهن إشارتك يا سيادة الرئيس، ودمي فداء لمصر.

وكان هذا إيذانا ببدء فصل جديد من المعركة..