لذلك، إنّ من يظنون أنهم يحتكرون التاريخ،المتعلق بهم خصوصاً،إنما هم يحتقرونه من حيث يدرون و لا يدرون. صحيح أنّ ثمة مسائل تاريخية غير مطْلقة، وتعتريها شوائب الشك، نظراً لمنهجية التأريخ المبنية على انبطاعات ومعتقدات وعواطف المؤرخ الذي هو في النهاية من بني البشر، تسوقه العاطفة قبل العقل أونةًً، ويقوده الانتماء قبل الواقعية أحياناً.
بيْد أن ذلك لا ينفي مسائل تاريخية تكون أقرب ما يمكن إلى الحقيقة،خصوصاً إذا كان ثمّة إجماع عليها سواء ممن هم من أهلها، أو من الباحثين والمؤرخين. إلا أن هناك دائماً من يريد تحريف تلك المسائل،حتى تتواءم مع انتمائه الديمغرافي والجغرافي وحتى الطائفي. وفي هذا المقام نأيٌ عن التاريخ المتعلق باليهود حيث لا يختلف اثنان من العرب عليه، لكن الكلام عن تاريخ يتعلق بالمشرقيين مسلمين ومسيحيين، سواء في ما يخص العلاقة بينهم، أو ما يخص العلاقة بين المسلمين أنفسهم أو المسيحيين أنفسهم.
لا يتسع المجال هنا للخوض في التاريخ المقصود حين يحتاج إلى مجلدات ومقارنات، لكن على الأقل يتسع للإشارة إلى طريقة اعتناق الأفراد لما يرونه حقائق تاريخية قد تكون وفق إجماع المؤرخين باطلة.وأول صور هذا الاعتناق هو الظن أن المِلَل والنِحل كلٌ منها أدرى بشعابها من الآخرين،وهذا مجافٍ للمنطق والعقل لأنّ المستشرق،مثلاً، أعلم من أكثر من نصف المشرقيين بثقافة الشرق نظراً لبحثه المستديم ومطالعاته وحتى رحلاته، تماماً مثلما يكون المؤرخ أو حتى المثقف الشرقي أكثر دراية من الغربي إذا كان اطلاعه عل ثقافات الغرب شاسعاً.
السبب الكامن في ذلك بسيط، وهو أن الفرد شرقياً كان أم غربياً، يتربى على كل ما يدغدغ عاطفته، ويجعل صورة تاريخه ناصعة البياض، كما لو وضعنا التاريخ بحلوِه وُمرّه في مسحوق غسيل، أو أجرينا له عمليات تجميل. لذلك تطغى الروابط الديمغرافية والجغرافية، أو الزمانية والمكانية، على الحقيقة التاريخية أو شِبْهِها، من منطلق أن لا أحد يحب أن يقول عن زيته إنه عكر، أو أن يسمع آخرين يصفونه بالوصف ذاته. من هنا،أصبح التاريخ عرضة للتنكيل به، وأراده البعض مثل "الملتينة" حتى يشكلوه وفقا لعلاقتهم مع الآخر، وبحسب روابطهم العاطفية، فيسلخون عنه ما هو أشبه بالحقيقة، إذا كانت الحقيقة تقول،مثلاً،إن نشأتكم كانت في تلك البقعة الجغرافية حتى لو كانت العلاقة الحالية مع تلك البقعة عدائية نظراً لاستراتيجيات وسياسات الحاضر.
هذا السلوك يفضي إلى خلق حالة يظن فيها الفرد أن المعلومة التاريخية الخاصة به ليست من حق أحد غيره إنْ لم يكن من ملته أو بلده حتى لو كان هذا الغير الأكثر اطلاعاً على حركة التاريخ ومجرياته ومتغيراته،وبذلك يصبح التاريخ مثل السلعة التي يحتكرها تاجر، والأوْلى أن يكون مدْرسة لاستقاء العبر.