في فترة الضجة الكبيرة التي نادت بالحداثة و ما بعدها و لم نعرف من الحداثة غير تبعية اقتصادية و فكرية لم نصطنع فيها يدا و لم نكتسب عِلما إنما "بفضل" الاستعمار الذي حدّث أشياء في حياتنا و أسقط عليها أشياء أخرى لم تكن فيها ليطيب مقامه في بلداننا و ليستطيع استنزاف خيراتها تطورت وسائل حياتنا اليومية و لم تتطور روحها.
و إن أغرت الحداثة الكثيرين فمشوْا في ركابِها إلا أنها ظلت مبتورة النهايات عديمة الجدوى لأنها لم تكن نابعة من أرضيتها الشعبية أو حتى النخبوية فالشعوب التي ظلت متخلفة حتى القرن التاسع عشر ثم أوقف الاستعمار تاريخها ليبدأ تاريخه الخاص في بلادها لم يُضِفْ إليها شيئا بقدر ما سلب منها و حتى حين عاد إلى قواعده خلّف شعوبا تهاجر من لغتها إلى لغته كي تجد بَرَاحًا و إبستيمية أوسع تتحرك فيها بعيدا عن التخلف و التشدد إلا أنه لم يقع التلاقح الفعلي بين التجارب الناطقة "بلغة المستعمر" و التجارب الناطقة باللغة الأم أو اللغة الرسمية المعتمدة.
و قد هوجِمتْ الحداثة الأوروبية لأنها كانت حداثة فكرية قبل كل شيء نابعة من تاريخ تلك القارة بكل صراعاتها الطبقية و العنصرية و الدينية و السياسية، تلك القارة التي أنهكتها الحروب و أعادت توزيع ثرواتها و سلطاتها وفق مبادئ ديمقراطية تحمي حقوق الأفراد في إطار المواطنة لكن النظام الرأسمالي الذي بلغ شأوَهُ في منتهى القرن العشرين و الحربان العالميتان و بروز أقطاب اقتصادية جديدة أدت كلها إلى الاستعاضة عن الحرب الكلاسيكية العسكرية بحروب اقتصادية و ثقافية و قد يلتقي هذان النوعان في عدد من البضائع الاستهلاكية فالثقافة ليست غذاء الفكر فقط بل هي كل ما يتعلق بسلوك الإنسان من أكل و لباس و عادات و لئن اُكتست العولمة ثوبها الأمريكي فإنها قد بدأت منذ النصف الثاني من القرن الماضي فالفكر الإشتراكي و عدوى الثورة الطلابية (1968) و موسيقى البيتلز و الجاز موضات ثقافية تحكمت في مناطق هامة جغرافيا و ديمغرافيا من العالم و العولمة في القرن العشرين صارت مصغرة و أكثر تأثيرا و لم تعد تُحسب بالكم الجغرافي بل الديمغرافي كما أنها لم تعد تُقدّر بالكم بالكيف أيضا أي نوعية الجمهور المستهدف و إن كان للعولمة طابعها الاستهلاكي فإن لِدُوَل العالم في أغلبها مساحات نفوذ اقتصادية و ثقافية تكبر أو تصغر تمارس من خلالها سيادة ما داخل الإقليم الواحد و عوض الحديث عن الكتل الاقتصادية و الصناعية الجديدة كالاتحاد الأوروبي و الصين و البرازيل و اليابان سأهتم بالمنطقة العربية التي شهدت و لا تزال عولمات ثقافية مصغرة فأغنية الراي الأمازيغية تستقطب جمهورا واسعا داخل المنطقة المغاربية و العربية و لدى الجاليات العربية و المغاربية في العالم إضافة إلى نسب متفاوتة لدى الجمهور الأوروبي و المسلسلات التجارية- المكسيكية و التركية و الكورية و السوري و الأفلام الهندية و من قبلها المسلسلات و الأفلام المصرية- تستفيد من قاعدة عريضة و نسبة مشاهدة عالية في العالم العربي و غيره من دول العالم الثالث كما أن الأغنية العربية تتخبط في حالة اغتراب داخلي و تميل هويات أفرادها مع أصحاب رأس المال و الإشعاع فتارة يغازلون اللهجة المصرية و طورا الخليجية دون رؤية مسؤولة للمشهد الثقافي المستقبلي و قد نلاحظ انتشار موضة "الراب العربي" بين الشباب في أقطار مختلفة إضافة لانتشار مشاريع للسياحة الثقافية و الطبية و التجميلية في مناطق عديدة من المحيط للخليج.
إن محدودية العولمة نابعة من قصور أية دولة مهما كانت قدراتها الإعلامية و الاقتصادية و العسكرية عن أن تكتسح كل العالم و كل الشرائح العمرية و كل الطبقات الإجتماعية بنفس الكم و بنفس القوة إضافة إلى أن للبعد الجغرا-سياسي دورا كبيرا في تحديد مناطق النفوذ و تداخلها أحيانا.
إن عصرنا هذا مفتوح على كل التحديات و الإمكانيات كما أنّ العولمة لا تعني بالضرورة ترويج السلع الضارة و الثقافات المدمّرة بل هي تعني الاكتساح فقط و على أكبر مساحة ممكنة أما كيف تكتسح و ما هو المنتَجُ الذي تروّجه و ما هدفك من ذلك فيبقى أمرا نسبيا و مشروطا برؤية صاحب المشروع فهل نُساوي بين من يُعَولم آلة طبية مُفيدة للقلب و بين من يُروّج للإدمان مثلا. قد يكون رأس المال مُرتهَنا بدينامية معيّنة و بتوزيع محدود بين أطراف معروفة و لكن متى ننتقل من رأس المال إلى مال الرأس؟ إن ثروة الفكر و الخيال هي التي تصنع المالَ و ليس العكس و صاحب الفكر الخلاق هو الذي يجعل صاحب رأس المال يلهث وراءَه لكن صاحب رأس المال لا تهُمّه أخلاقية المشروع بقدر ما يهتم للمردود المادي و من يبيعُك ملابس داخلية غاية في الإثارة أو منشطات قد يبيعك غدا عباءات و أوشحة و سجادات للصلاة إذا وجد مردودا مساويا أو أرفع من السابق.
إن العولمة في جوهرها لا تتعلق بالخير و الشر، صاحب رأس المال وحده يجعل منها خيرا أو شرا وفق مصالحه و حسب أفكار المشاريع المتوفرة لديه. و لهذا عِوَض ان نُعَوْلم الوهم و الأحلام الكاذبة هربا من الواقع لماذا لا نُعَولم فِكرا حقيقيا و حُرّا يزرعُنا في واقعنا يبدأ من العائلة ليصل إلى العالم. أليس سقف حرية التفكير التي نمارسها الآن في واقعنا و حياتنا الفكرية و العقدية أشدّ انخفاضا مما كان عليه في عهد المعتزلة و إخوان الصفاء و اُبن رشد و اُبن خلدون و المفكرين المغاربيين و العرب طيلة القرن الماضي.
إن العولمة تحدّ و تجاوز للذات قبل أن تكون تحديا للآخر و هي مُساءَلةٌ دائمة للتاريخ و مقارنة دائمة للماضي القريب و البعيد و الحاضر ذلك أن الآخر يتعامل معنا و هو يحمل خلفية تاريخه (كمُستعمِر و كألف عام من النصوص القانونية و من النظم الإدارية) و لنتعامل معه بنِدّية يجب أن نعرف تاريخنا المشترك معه لأن التسامح عن جهل يصير ضُعفا و لأن المعرفة تَحدٍّ يُنتج تحدّيات واقعية تجعل الواقع ديناميا و ترفع عنّا المهانة و السأم اللذان يُكبّلانِنا.
07-04-2010