تحاول أن تجد مكانا لك , وسط حشد يسير كتيار البوسفور الجوفي الذي يجري باتجاه البحر الأسود جاعلا السباحة فيه مستحيلة أو محفوفة بالمخاطر .
ولكن لا تلبث أن تكف عن محاولتك تلك , فمن يهتم ؟
تدرك بسرعة أنك رقما يضاف لآلاف الأرقام التي ترد يوميا على هذه المدينة التي تؤاخي البحار وتمتد على مسافات شاسعة تصل لمئات الكيلومترات , وريثة امبراطورية حكمت ثلاث قارات يوما ما وأغرقتنا في سبات دام لأربعة قرون , أذاقتنا خلالها شتى أنواع القهر والظلم . وتتساءل :
ماالذي يستطيع أن يعرفه ويلم به عابر بهذه المتاهات ؟
فتمر بك الأماكن والأسماء بشكل غزير , بحيث تختلط عليك وتلتبس التفاصيل , الجامع الأزرق , آيا صوفيا ,المسلة , السور البيزنطي ,قناة المياه الحجرية الضخمة, التوب كابي , جوامع ..أيضا وأيضا , تتناسخ وتتشابه في التفاصيل وتختلف بالحجم .
وجميعها تستنسخ آيا صوفيا , حيث أن أولها وهو الجامع الأزرق قد بني قبالتها بالضبط متحديا لها , رغم أنك تعلم أن التحدي لا يكون بالإستنساخ والتقليد.
على الرغم من ذلك يفاجئك أهل هذه المدينة بعدم اتقانهم لأية لغة أجنبية , ويردون عليك حين تخاطبهم بأي من هذه اللغات باعتذار خجول .
يعرض الأتراك مهارتهم في إبراز مالديهم وما ورثوه من أيام امبراطوريتهم الغابرة , ويتجاوزون ذلك لمستوى أصغر التفاصيل وأقل الأشياء , فيجمعون أشياء مثل سن عظم وشعر وعظام وعمامات وأقمشة وسيوف ويدعون أنها لأنبياء وشخصيات تاريخية , رغم أن هذا الأمر بعيد عن أية قيمة تاريخية وعلمية وينقصه التوثيق والدليل .
ولكنهم ينجحون في هذا الأمر بحيث ترى على مدخل آيا صوفيا آلافا تنتظر دورها لترى هذه الأشياء.
ولا بد أن تشعر بالأسى والحزن , وأنت ترى ذلك , حين تقارن هذا بما يحدث في بلدك , فهنا ينسبون كل شيء لأنفسهم من شعر اللحية إلى الآيا صوفيا نفسها , وهناك ينكرون ويهملون حضارة أجدادهم جوابو البحار ومعلمو البشرية , مبتدعو الأبجدية والموسيقى والعمران والفن والتشريع .
تجمع اسطنبول المتناقضات , تتباهى بعمران جوامعها وقلة من يقصدونها للصلاة , يحكمها حزب ذو توجه إسلامي وترى الناس يقبلون بعضهم في الشوارع والساحات ,ويكاد يختفي الحجاب الإسلامي فيها , وتحوي بارات وملاه وأسواق للمتعة كما في المدن الأوروبية .
تحوي الأبينة العملاقة والأبراج الشاهقة بجانب الأبينة القرميدية والفيلات والأسواق الشعبية والتاريخية .
تتقافز الأسئلة , ويبدأ سيل من المقارنات لا ينتهي , كيف استطاع هؤلاء القوم أن ينجحوا في عبور البرزخ الفاصل بين عالمين يتناقضان في كل شيء . وكيف فشلت كل هذه الدول المترامية بين المحيط والخليج في أن تكون دول أو شبه دول , وكيف جعلت مواطنيها يشعرون بعقدة حتى من أبسط الأشياء وجعلت هذه حلما .
تتعبك الأسئلة , تحرمك من متابعة الأشياء والتفاصيل , أنت الهارب منها ..
أليس من أفق لهذا التيه وهذه الدوامة؟
تعود في المساء ..منهكا تردد مع الشاعر التركي أحمد ارهان:
كسرت أجنحة الكلام
آه أيها العالم, انني متعب جدا
حصنت معقلي الداخلي
في برج الوحدة الأخير, ابتعد في صمت وحيدا كالظل في سفح حائط الوجود
لقد ادركت أن هذا العالم لا يقوى أبدا على اسئلتي
لا يوجد أدنى غصن لأقبض عليه حتى أستطيع التوقف وارتاح.