آخر الأخبار

على ضفاف البوسفور (2)

قرأت قصة تركية منذ سنوات خلت , للكاتب الساخر عزيز نيسن , تقول :
هرع رجل من حان قريب للخارج وهو يصيح :النجدة , هناك جريمة قتل ترتكب في الخان ..يا بوليس .
رد عليه شرطي: آسف أنا شرطي مرور ولا أستطيع ترك مكاني وإلا حدثت فوضى عظيمة.
أسرع الرجل نحو شرطي آخر يقف على الزاوية يستنجده , فاعتذر الشرطي قائلا: أنا شرطي بلدية ولا صلاحية لي للتدخل. وثالث شرطي صادفه اعتذر أيضا لأنه من البوليس السياسي.
زاد صراخ الرجل , وأسرع راكضا ليلتقي بسيارة بوليس ,ليتبين أنهم من الشرطة العسكرية ولا صلاحية لهم أيضا .
وتكرر الأمر مع بوليس الجمارك وشرطة المواكب الرسمية والفرع الخارجي وشعبة المعلومات ...
وانتهى به المطاف ليقف في الساحة وسط الحشد , منهكا ..يائسا .
إلى أن اقترب منه رجل وهمس بأذنه ببضعة كلمات , فتقدم الرجل وبدأ بالصراخ : ماهذه الحقارة , ما هذه النذالة , ماهذه الحكومة ..تسقط الحكومة .
لينقض عليه بضعة أشخاص من الحشد وليمسكوه من أطرافه , وفي ثوان اجتمع البوليس السياسي والعسكري وشرطي البلدية وشرطي المرور وشرطة الحراسة وبوليس الشعب الخاصة والفروع الداخلية والخارجية.
وهم في طريقهم للمخفر مروا بالقتيل المرمي في الشارع, وكان لا يزال يتخبط في دمائه.

 

 

هذه القصة , تلخص إلى حد كبير ما هي عليه الأمور في بلداننا .
كان لا بد من الوعي أن السياسة لا تأتي من فوق , بل هي نتاج لبنى وأنظمة مجتمعية واقتصادية تحتية تفرز النظام الحقوقي والسياسي الفوقي, والتركيب والتنظيم يجب أن يبدأ من الأدنى .
يصل عدد سكان اسطنبول ل 15مليون نسمة ومع ذلك تسير الحياة فيها بشكل منتظم ,ولنأخذ النقل مثالا:
لديهم أربعة وسائط نقل عامة ضمن المدينة, مترو تحت الأرض وترومواي كهربائي , وباصات للنقل لها خط محمي ضمن شوارع المدينة لا تقف إلا في المواقف الرسمية وممنوع على السيارات المرور فيها , وأخيرا السرافيس الصغيرة وطبعا سيارات الأجرة .
الأمر الملفت اليوم هناك هو حضور الدولة بشكل قوي ولكن غير معلن , بدءا من عامل النظافة والبستنجي الذي يهتم بالورود والحدائق إلى البوليس الذي يراقب من بعيد .
وصلوا لمرحلة متقدمة من أهم مراحل النهوض:الدولة-القانون , أساس أي تقدم مأمول .
ترى الإعتزاز بروح الأمة في كل مكان , علمهم يرفرف بجلال على كل هضبة وكل منشأة .إعلامهم قوي , وصحافتهم لها تجربتها المميزة في الإستقلال والجرأة .
إقتصادهم ينمو باطراد ،ويعتبر الاقتصاد التركي واحدا من أقوى 17 اقتصادا في العالم، وبعد أقل من أربع سنوات على بدء إجراءات الإصلاح الجذري التي اتخذتها الحكومة التركية للخروج من الأزمة الاقتصادية، بدأ الاقتصاد التركي بقطف ثمار ها حيث حقق في العام الماضي نمواً في أجمالي الناتج القومي وصل إلى نسبة 9.9 بالمئة.وسط أزمة اقتصادية عالمية.
 

 

تحتفل اسطنبول هذه الأيام باختيارها كعاصمة للثقافة الأوروبية لعام2010 , وتحاول أن تستعيد ما سبق ونبذته من كنوز التراث البيزنطي واليوناني، إضافة إلى العثماني , في محاولة لإضفاء طابع العالمية على المدينة .
وسيكون في وسع زوار آيا صوفيا التي حوّلها محمد الفاتح إلى جامع بعد دخول القسطنطينية في العام 1453، أن يستمتعوا بالجداريات البيزنطية البديعة والقبة الشاهقة.

ولكن هذا ليس قصة نجاح بدون منغصات ,فمنطقة البوسفور تعتبر من أكثر الأماكن تلوثا نتيجة مرور السفن الضخمة والناقلات , وحركة البناء تلتهم مساحات نفيسة من الشريط الأخضر وتطال الإنتقادات الحكومة والسلطة وهاهو أورهان باموك الحائز على نوبل ينتقد حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، والعسكر، ،وتحتاج تركيا برأيه إلى لحظة جامعة للأقليات القومية والدينية وتراثها الثقافي، ونظام سياسي ليبرالي يتضمن احترام حرية التعبير، للوصول إلى تركيا أكثر رفاهاً.

لماذا لا يوجد من يتمشى على الجسر يا سيهان ؟
لقد منعت الحكومة ذلك بعد تزايد حالات الإنتحار من على الجسر , وهناك مثل لدينا يقول : ثلاثة لا يؤتمن لها , الطقس ومياه البوسفور وفتيات اسطنبول.
ففي القصة , أن فتاة طلبت من عاشقها أن يبرهن على حبه لها , فأخذت هذا الحمية وأعلن أنه مستعد ليلقي نفسه من على جسر البوسفور ليثبت حبه , وحين قالت أنها لاتصدقه , رمى هذا بنفسه من فوق الجسر , فقالت الفتاة: هالحمار كان يحبني فعلا ..وذهبت لتبحث عن سواه.
لا تستطيع أن تلم بهذه المدينة فهي متحف مفتوح وحي وهي التي تنتشر على قارتين وتغادر ضفاف البوسفور لتصل إلى أعماق البر الأسيوي والأوروبي بكثافة عمران مذهلة , يربط أوصالها الجسرين الشهيرين وآلاف الطيور من النوارس والغربان , التي تزاحم المارة ..وتحط بين الناس .
تتذكر أبيات لبدوي الجبل يوم كان في فيينا وكانت رفوف الحمام تحط على كتفيه وكفيه:
فيا خجلة الصحراء لم ينج جؤذر
و لا قرّ عينا بالأمان ظليم
و لم تهن بالعشّ البعيد حمامة
فصيّادها صعب المراس عزوم
في زحمة المدينة والأسماء تبحث عن الإنسان هنا , عن العادات والأغاني ,عن الشاعر والفلاح والعاشقة والأم , تحاول التسكع في شوارع فرعية , لتجد نفس المنظر , سياح يجلسون على طاولات في مقاهي رصيف أو مطاعم عادية , وتيار لا ينتهي من البشر , تحاول الهروب إلى الحدائق العامة وأنفاق المترو , لتجد أناس تعبين يفترشون المقاعد ويتلهون بكأس شاي يقدمه باعة متجولون أو عاشقين يضمان بعضهما ويغرقان في "سحبة" طويلة من القبل , تعلم أنهم يعاملوك كسائح وجل همهم هو أن تشتري وأن تنفق ما لديك من نقود , ويعلمون أن السائح لا يتعامل في العادة إلا مع الأشياء الخارجية ومع الأشياء اللامعة والمرتبة والجميلة ..
تتمنى لو تستطيع أن تأخذ بما يوصيك به ناظم حكمت , الشاعر الذي طردته تركيا وتعرض للسجن وسحبت منه الجنسية وكاد أن يشنق بسبب تبنيه للماركسية, " في عام 2005، اعتقلت السلطات شابا تركيا تلا احدى قصائد ناظم حكمت في مدرسته بتهمة ممارسة نشاط يقوض اركان الدولة".
ثم كرّمته ومجّدته وأعادت له الجنسية مؤخرا (2009) في خطوة متأخرة 46 عاما (توفي1963) وأقامت له تمثالا:
لا تحيا على الأرض
كمستأجر بيت
أو كسائح
ولتحيا على الأرض
كما لو كان العالم بيت أبيك
ثق في الحب وفي الأرض وفي البحر
ولتمنح ثقتك قبل الأشياء الأخرى للإنسان

...يطول الكلام , وتطول المقارنات ,مع قوم كانوا بالأمس يعانون من الأشياء الممضة والمتلفة التي نعاني منها , وهاهم ينجحون في الخروج من هذه الهوة المهلكة للروح وللجسد ويخلفون وراءهم المتقاعسين اللاهثين وراء أبسط مقومات الحياة ..

تكسر أجنحة الكلام مرة أخرى , فقد أنهكنا منه ..ويبدو أنه آخر شيء نحتاجه في أية محاولة جدية للحاق بغيرنا ..