قد تتكلم عشر لغات لكنكَ تحلم بواحدة و تعبد بواحدة و تعشق بواحدة و إتقانـُك للّغات العشر قد يجعلك لا تلغي الآخرين لأنك إذا ألغيتَهم حكمتَ على نفسك بالمِثل و بين إلغاء الوعي و وعي الإلغاء شعرة رقيقة هي التي بين الإنسان و ذاته، إنها الأنانية التي تفرض أن تعترف بالآخر ليعترف َبإنـّيتكَ و المسألة الروحية التي تأخذ اكتمالها في شكل الدين كان لا بد أن ترقى بالإنسان على مدى الأديان التوحيدية الثلاثة إلى ما يُشبه السلام أو التقبل الضروري الكافي للتعايش بين مختلف الناس على هذا الكوكب الصغير فكل الأديان نادت بالاستقامة و كلها نادى بالمحبة و كلها نادى بالخلاص فلماذا يحكم البشرية طيلة تاريخها قانون الحرب أو قانون الهدنة متمثلة في حالة من توازن الرعب قابلة للانفجار في كل حين.
قد يتساءل الكثيرون: هل يكفي الدين ليعيش الإنسان؟ طبعا لا. و لكن الإنسانية الخالية من الروحانية لا تعدو أن تكون غابة خطرة يستحيل ولوجها خارج المواصفات الحيوانية و شرط العقل و الحرية هو الذي يجعل الإنسان يسمو بذاته المحدودة في كل شيء ليتقبل الآخر المختلف عنه لكن العقل قد يؤدي للمعاداة لأن من صفاته الفصل و هكذا تبدو الفضيلة شرطا أساسيا و مكملا في نفس الوقت لإنسانية الإنسان و أساسها العاطفة لأن العاطفة هي التربة الصالحة التي تترعرع فيها الفضائل و كل خلل موجود في الحياة العاطفية للشخص ينتج بالضرورة خللا في حياته الأخلاقية فكم من زعيم سياسي ظالم كان يُعاني من تجاهل أحد أبويه أو كليهما و حرمانه من العاطفة و كم من طفل يجد ذكاؤه و مواهبه تربة عاطفية خصبة تجعله عالِما عبقريا يفيد البشرية و يداوي أمراضَها و يُساهم في حل مشاكلها. إن السياسة هوس رجالي و تكمن عبقريتها في استخدام شتى الوسائل التي تؤدي للهدف دون اعتبار لأخلاقيتها أو أخلاقية استخدامها و قد شهد الدين في عصرنا هذا استغلالا بلغ حدّا كبيرا عمد فيه الإعلام إلى تحويل جوهر الدين من عالم توحيد و جلب إلى عامل تفرقة و صدّ فهل إذا جاع مسلم و وجد في طريقه ديْرا ألا يدخل ليتناول ما يسدّ رمقه و هل تمنع الرهبنة ُ الراهبَ من إطعامه و هل إذا جاع مسيحي و طلب طعاما من مسلم هل يمنع هذا إسلامُه من إطعام الرجل و مدّ يد العون له أم عليه أن يسأل عن هويته قبل ذلك؟
لقد عمل الإعلام السياسي على تحويل جوهر الدين من طاقة موجبة إلى طاقة سالبة. ألم يصوّر الكاريكاتير السويسري المآذن في شكل صواريخ؟ أليس حظر المآذن في رمزيته خصاء للذكورية الحضارية العربية (أو ما بقي منها) بقطع النظر عن حق كل دولة في تحقيق أمنها بالصورة التي تريدها ؟ و هل أن الدين في جوهره هو التطرف و القتل أم أن السياسة هي المحظور الوحيد الذي يحدد المحظورات الأخرى و يجعل منها مآزق جدل و سلوكات بشرية غير سويّة تتطور في العتمة إلى عقلية انتحارية سببها الأساسي اقتصادي و اجتماعي و ظاهرها ديني. لا شك أن الدراسة الإجتماعية لبلدان العالم الثالث ستكشف من خلال إحصاءات نزيهة و عادلة مواطن الخوَر في هذه المجتمعات و آليات الحراك الطبقي و الفكري عند الأزمات لأن هذا الوضع المتأزم و المتزمن في ذات الوقت قد خلق انشقاقا يصعب رَدْمُهُ بين حساسيات المجتمع إذ أنتج سلوكات متناقضة بين التسيب و التطرف من جهة و سلوكات غامضة يختلط فيها النمطان بصفة تزيد و تنقص لعل سببها عدم التعامل على أساس المواطنة بل على أساس من الإقصاء المتبادل بين مختلف الكتل و الأقليات. إلا أنه من خلف الدين و السياسة يمكن رؤية العنف المتصاعد على المستوى الاجتماعي و الذي يتزامن مع تحولات جذرية طبقية و قيمية إذ يُعادُ توزيع الثروات بين فترة اقتصادية و أخرى و قد تميزت السنوات العشرون الأخيرة بتحولات لم يشهدها الاقتصاد طيلة تاريخه، تحولات لم تؤثر على الكتل في العالم وحسب بل على أفراد المُجتمع الواحد كما أن الإعلام الذي هو رديف الاقتصاد و المتكلم باُسم الأقوى قد أرسى العنفَ بطرق مباشرة و غير مُباشرة لأنه كان يسعى في كل مرّة لخلق الانفعال و توجيهه في اتجاهات مُختلفة باُستغلال البُعد الغرائزي في الإنسان بصفة مباشرة و غير مباشرة حتى يصير القاسم المشترك بين مختلف التعابير الثقافية. فالإثارة الجنسية الواضحة من خلال الإعلانات الإشهارية و الفيديوكليبات و الأفلام و التي تكون غالبا مجانية لا ينتبه الكثير من مستهلكي الثقافة لهذه اللعبة التي يكونون المستهدف الرئيسي فيها و الشريك أحيانا. و تكون الإثارة العاطفية و الحسية عبر البرامج الدينية على الفضائيات و التي تحتوي النزر القليل من العلم خاصة في ما يتعلق بالجماع و المرأة و ما يتعلق بها من المباح و المكروه و المستحبّ كما تتبوّأ الفضاءات الرياضية موقع الصدارة في رفع مستوى العنف و خلق مساحة لغوية و قيمية تمثل هامشا من التسيب و الانحلال يتداخل مع المعايير الأساسية ليجعل ابتذالها مسموحا.
إن السلوك الشعبي خلال الأزمات يتمتع بعدوى لسلوكات غير مبرّرة تعبّر عن ثورة تـَرْشـَح بما في المجتمع فاُهتمامات المجتمعات المثقفة و ذات المستوى المادي المحترم حتى خلال الأزمات و نمط حركيتها و تعبيرها عن ثورتها يكون أفضل بكثير من المجتمعات التي يتفشى فيها الجهل و الفقر و يظل الاتجاه نحو التطرف الديني خاصية المجتمعات المتخلفة لأن المجتمعات المتطورة تزخر بإمكانيات عديدة تعبر بها عن نفسها خلال الأزمات كالتعبير الفني و الفكري بالأنساق الفلسفية و السمفونيات و الفلكلور الراقي و النحت و المسرح أما المجتمعات المتخلفة فإن التعليم يحتوي فيها فراغا لا يملؤه غيره و لا تقوم المنظومات التربوية بإدراجه و هو ما يصنع ثقة الفرد بنفسه و يحفزه على الإبداع و المبادرة و يجعل منه شخصا متوازنا يشعر بالمساواة مع غيره و يحب وطنَه و يعتز به و هذا لا يتوفر في مادة تعليمية واحدة بل يجب أن تتعلق به كل المواد و يمثل كفاية أفقية لكل المجالات التعليمية لأن لكل مجتمع شخصية تميّزه عن غيره و إذا كانت هذه الشخصية مهزوزة أو فاقدة لمقومات العزة و الكرامة و القرار فإن الأفراد يكونون كذلك و الفرد المستقيل هو سليل المجتمعات المستقيلة و الفرد الفعّال هو سليل المجتمعات المتقدمة و نواتَها الأولى و الفرد لدينا يتحرك في شكل مجموعة و يتخفى دائما خلف فكرة أكبر منه قد تكون القبيلة أو الأمة أو الحزب أو الله و لكنك إذا واجهته بقناعاته هو يفشل فشلا ذريعا و يتحصّن بخوْفه ليوهمك بأنك ضدّ القبيلة أو الأمة أو الحزب أو الله و لست في خلاف معه هو كشخص.
إن الدين يظل مكمّلا للإنسان و هو واحة سعادة و طمأنينة يلجأ إليها في نهاية نهاره أو بدايته و يجب أن لا يكون ساحة حرب بين الشعوب أو داخل الشعب الواحد. إن التطرف الديني ليس خاصية المجتمعات المسلمة بل في كل مبدأ ديني أو فكري يوجد معتدلون و مُغالون و إذا كان الإعلام العالمي لا يُنصِف التطرف إذ يَقـْصِرُهُ على الإسلام فإن أسباب التطرف الإسلامي كثيرة منها التشدد التقليدي الذي تتسم به هذه المجتمعات و تكريسها لتقاليدها عبر إصدار أحكام دينية على السلوكات الاجتماعية و التحريم و التحليل دون أساس منطقي أو علمي كما انه يعود إلى عدم حل المشاكل العقدية داخل المذهب ذاته و اُشتغال هذا المذهب و ذاك بإسالة الدماء لأسباب تاريخية و سياسية لا علاقة لها بالدين بالإضافة إلى غياب تقاليد الحوار حول المسائل المعرفية و مختلف الأسباب الاجتماعية و الاقتصادية.
لقد عمد الإعلام الحالي بكافة أساليبه إلى جمع تلازمي على مستوى الصورة بين المقدس و المُسدّس حتى صارت القضايا الدينية أكثر ما يطفو من القضايا و كأن هذه الشعوب الفقيرة المفتقرة للإرادة و السيادة على برامجها التعليمية و مواردها النفطية و غير النفطية قد حلّت مشاكلها و لم يبق لديها سوى حل مشاكل الزواج و تسمياته اللّامحدودة و اُرتداء الحجاب من عدمه و الخلافة الإسلامية من عدمها و الاختلاط من عدمه.
إن الشعوب النامية لا تحتكم على إرادات متبصرة تحدد أولوياتها و تُجدْولها و تسير وفقها إنها تتبع الموضات السياسية التي تمليها البلدان القوية و ها أن الدول القوية لا تُريدُ ديننا و لها الحق في ذلك فكيف على الدول المسلمة أن تتعامل مع ما تعتبره دين الدولة -و الحال أن الإسلام دين له قابلية واسعة للتطبيق- دون أن تكون سببا في خلق تطرف في هذا الاتجاه أو ذاك.