دمشق مرجعية مسلمي لبنان والغرب مرجعية مسيحييه.. وبعض القوي حاولت جعل اسرائيل مرجعيتها
صورة عبدالناصر اهتزت بعد الانفصال امريكا انقذته في 56 وهزمته في 67 عندما تجاوز الخط الاحمر
صقر ابو فخر
في خضم الاضطراب العميم الذي شهدته سورية، ولا سيما بعد استقلالها في سنة 1943، كان نبيل الشويري شاهداً علي بعض جوانب هذا الاضطراب. فهو، منذ يفاعته الأولي، عرف ميشال عفلق كسـاحر وقديس معاً. وتدرج في مدارج السياسة وفي معارج الفكر السياسي علي يديه، وتفتح وعيه علي القومية العربية شبه العلمانية التي صاغها عفلق، ثم تمرد عليه وأسقط هالة القداسة عنه، وانحاز إلي أكرم الحوراني، ثم لم يلبث أن انخرط في التآمر السياسي والانقلابات العسكرية مع سليم حاطوم وبدر جمعة، وحُكم بالإعدام. وقادته مصائره اللاحقة في المنفي البيروتي، والباريسي، إلي إدارة الظهر للسياسة كلها، ثم راح، بهدوء، يعيد النظر في تجربته الشخصية، وأسلم عقله لحقبة من التفكير النقدي الهاديء. ولعل نبيل الشويري كان شبه مرآة عكست البعث نفسه وتجربته العاتية في الاضطراب السياسي والبلبلة الفكرية والتآمر وانقلاب الأحوال والأخطاء القاتلة، فضلاً عن النزوع الرومانسي إلي صوغ مشروع مستقبلي لدولة قوية موهومة.
لم يكن لنبيل الشويري أي شأن مباشر في سلطة البعث التي انبثقت في 8 آذار 1963، ولم يشارك في صنع الأحداث العاصفة التي شهدتها سورية منذ ذلك التاريخ فصاعداً، ولم يكن له أي دور في المصائر التي انتهي إليها البعث بشظاياه الكثيرة، إنما كان شاهداً راصداً لتجربة البعث في سورية، وكان، إلي ذلك، مناضلاً في ذلك الحزب إبان صعوده، ثم راقب بحسرة انحداره وتطايره في جميع الاتجاهات. وهذا الحوار هو خلاصة هذه التجربة. ومهما يكن الأمر، فإن أهمية هذا الحـوار لا تكمن في أنه يؤرخ لحقبة من التاريخ المعاصر لسورية، بل في محاولة إعادة قراءة الأحداث في ضوء التجربة الشخصية.
سورية ولبنان وامريكا
حصل توافق علي فؤاد شهاب بين الجمهورية العربية المتحدة والولايات المتحدة.
كما توافقوا علي الرئيس الياس سركيس؟
ربما.
روي لي ميشيل أبو جودة وكنا أصدقاء جـداً، أن الياس سركيس تضايق من زيادة حماسة السوريين له، فقال لميشيل أبو جودة: ما بال الإخوان في سورية يتصرفون وكأنهم هم الذين سيأتون بي رئيساً؟ أنا قبل ست سنوات سقطت بفارق صوت واحد (وكان سركيس يقصد: أين كان السوريون قبل ست سنوات؟ فأنا لي وجودي المستقل عنهم).
لكن هذا لا يمنع أن التوافق حينها كان بين الولايات المتحدة وسورية.
الرئيس الوحيد الذي جاء من خارج اللعبة الدولية في لبنـان هو سليمان فرنجية. والرئيس الوحيد، الذي جاء باختيار سوري وموافقة امريكية، هو الياس الهراوي. أما بعد الرئيس الهراوي فإن امريكا أصبحت بعيدة وغير معنية بلبنان، وهكذا جاء الرئيس إميل لحود.
علي الأرجح أي رئيس لبناني يأتي بالتوافق بين واشنطن ودمشـق، مهما يكن الحاكم في دمشق: عبد الناصر أو حافظ الأسد.
أنا أري أن اتفاقية سنة 1864 ما زالت سارية.
اتفاقية المتصرفية؟
نعم. الدول العظمي الست، أي النمسا وإنكلترا وفرنسا والمانيا وإيطاليا وروسيا هي التي تختار المتصرف في لبنان وتفرضه علي الباب العالي العثماني.
المتصرف يجب أن يكون مسيحياً ولكن من رعايا الدولة العثمانية.
مسيحي من طائفة تابعة للفاتيكان.
لكن من غير سكان الجبل اللبناني.
الباب العالي هو سورية اليوم أو من يحكم سـورية. اتفاقية المتصرفية ما زالت سارية حتي بعد الاستقلال اللبناني. سـورية تمثل المسلمين بالدرجـة الأولي وهي لم تعترف بلبنان نهائياً بل اعترفت به جزئياً من خلال الجامعة العربية. مات حافظ الأسد ولم يزر القصر الجمهوري في لبنان.
لكن الرئيس بشار الأسد زار القصر الجمهوري في 3/3/2002.
الرئيس بشار الأسد يقوم بأمور جديدة. لكن دمشق لا تقبل بافتتاح سفارة في بيروت وهي لا تبعد عن دمشـق أكثر من مئة كلم. في أي حال ما زالت دمشق مرجعية للمسلمين في لبنان، وما زال الغـرب مرجعية المسيحيين، مع أن آل الجميل وكميل شمعون حاولوا أن يجعلوا إسرائيل مرجعيتهم. لا معني للتوافق بين الباب العالي والدول الست الكبري ولا معني للتوافق بين دمشق وواشنطن، فموازين القوي شديدة الاختلال.
هذا صحيح جزئياً، لكن الامريكيين يعرفون تماماً انهم إذا لم ينجزوا توافقاً علي الشأن اللبناني مع سورية فكل ما يرتبونه قابل للفشل. بشير الجميل جاء علي دبابة إسرائيلية فقتل.
صحيح ولا أقول لا. لكننا نتحدث عن عبد الناصر وعن مجيء فؤاد شهاب نتيجة للتوافق مع واشنطن. فؤاد شـهاب كان قائداً للجيش اللبناني وأول ضابط مثقف في الشرق العربي، وهو خصم كبير لكميل شـمعون، ووارث الاتجاه الدستوري في لبنان، أي أنه معادٍ للاتجاه الانعزالي والكتلوي. كان ثمة إجماع علي فؤاد شهاب من ضباط الجيش السّنة والشيعة والدروز والمسيحيين. فهل من المعقول أن يقول عبد الناصـر لا لفؤاد شهاب عندما تختاره امريكا، ولا سيما بعد نزول الأسطول السـادس الامريكي علي الشواطئ اللبنانية؟ التوافق بين عبد الناصـر والولايات المتحـدة يعني في حسـاب موازين القوي 10 لعبد الناصر و90 للولايات المتحـدة. وكانت الولايات المتحـدة راضية عن السياسية الخارجية لعبد الناصـر. ماذا يعني اجتماع الخيمة بين فـؤاد شـهاب وعبد الناصـر عند الحـدود السـورية اللبنانية؟ هو اتفاق كان ريمون إده مستعداً للموت من أجله، لكن حافظ الأسد لم يقبل. الاجتماع كان عبارة عن اتفاق ينص علي أن السياسة الخارجية تقررها دمشق بينما بيروت تمارس السيادة علي الداخل(.
صحيح.
ومن يرفع رأسه من أنصار دمشق في لبنان يكسر ولا تتدخل دمشق في ذلك. ولهذا عندما أراد المكتب الثاني اعتقال رشيد شهاب الدين، وهو قائد المقاومة الشعبية، طوق سامي الخطيب منزله وأمهله ثلاث دقائق، وقال له: إما أن تسلم نفسك أو أنسف البيت بمن فيه .
أمريكا وعبد الناصر
لكن هل كانت الولايات المتحدة الامريكية راضية حقاً عن السياسة الخارجية لجمال عبد الناصر؟
بالتأكيد.
عبد الناصـر أسقط حلف بغداد وسار في مؤتمر عدم الانحياز في باندونغ مع تيتو ونهرو.
أنا أتحـدث عن أواخر 1958 حينما نزل الأسطول السادس في لبنان. الولايات المتحدة لم تكن معادية لعبد الناصر الذي يقمع الشيوعيين في سورية وينال المساعدات الامريكية ولا يثير المشاكل مع إسرائيل. ماذا تريد امريكا أكثر من ذلك؟
قضي علي حلف بغداد.
نحن نتحدث بعدما قضي عبد الناصر علي حلف بغداد. وأساساً حلف بغداد كانت بريطانيا راعيته، وكان وضع الامريكان أشبه بوضع الغني المستغني.
ساعد حركات التحرر في شمال إفريقيا وفي قلب إفريقيا، وهذا السبب الرئيسي للعدوان الثلاثي.
يا سيدي وأمير الناس. هذا لم يكن يضير الولايات المتحدة. كان يضير الاستعمار القديم الإنكليزي والفرنسي. من الذي حقق الجلاء عن سيناء؟ أليس الرئيس أيزنهاور؟ دول العدوان الثلاثي ماطلت في الانسحاب من تشرين الثاني حتي كانون الأول (ديسمبر) 1956، وظلت تماطل حتي أوائل 1957 عندها طرق أيزنهاور علي الطاولة وقال: عليكم الانسـحاب فوراً . إسرائيل طالبت بحرية الملاحة في خليج العقبة، فوافق أيزنهاور وفرض ذلك علي عبد الناصر.كان أيزنهاور ينظر إلي مصر كركيزة لقيادة المنطقة كلها.
وقوة في وجه الشيوعية.
ليس ضد الشـيوعية وحدها بل من أجل قيادة المنطقة. وفي الحد الأدني ألا تكون عدوة لواشنطن، وفي الحد الأعلي أن تصبح صديقة لها وتسير في سياستها الخارجية كما تريد. وما بين هذين الحدين لا صـراع مع مصر. لكن عندما خرجت مصـر علي الحد الأدني وقعت حرب الخامس من حزيران (يونيو) 1967. لدي الولايات المتحدة ثلاثة محرمات في ذاك الوقـت: البترول والاتحاد السوفييتي وإسرائيل. أي ألاّ يمس أحد البترول، وألاّ يدور أحد في فلك الاتحاد السوفييتي، وألاّ يهدد أحد أمن إسرائيل.
النزول المصري في اليمن اعتبر تهديداً للبترول في السعودية حينذاك.
لا. لا. لم يكن عبد الناصر قد صار عدواً للولايات المتحدة بل كان يلعب ضمن الدائرة المسموحة له بين الحد الأدني والحـد الأعلي. جاء تدخل عبد الناصـر في اليمن نتيجة للانفصال، ووجد في هذا التدخل ما يعوض سمعته بعد الانفصال. ثم راح يتدخل في الجزائر ضد فرنسا وليس ضد امريكا التي كانت ترغب في الجلاء الفرنسي عن الجزائر. الولايات المتحدة لم تكن إلي جانب الإمام البدر، بل مع ثورة المشير أحمد السلال، ووافقت علي دخـول الجيش المصري إلي اليمن وشجعت قيام الجمهورية في اليمن. السـعودية هي التي قاتلت لخوفها من امتداد فكرة الثورة وفكرة الجمهورية إليها. وطالما ظل القتال علي الحدود فلا مشكلة جدية، وعندما بدأ جيش عبد الناصر يتكبد الخسائر ويهدد البترول جاء الإنذار الامريكي ووقعت حرب الخامس من حزيران (يونيو) 1967.
كيف تمكنت اللجنة العسكرية من أن تنفذ انقلاب 8 آذار (مارس) 1963 في سورية؟
حينذاك لم يكن اسمها اللجنة العسكرية ولم تكن معروفة علي الإطلاق. كان هناك تنظيم الضباط البعثيين في الجيش الـذي له صلة بفروع حزب البعث التي لم تُحل في عهد الوحـدة، والتي عرفت باسم التنظيم القطري ، وتوقع مناشيرها باسـم القيـادة القطرية . وهذه القيادة كانت ترغب في إعادة تكوين الحزب من غير التخلي عن الحزب القومي بل بالاتفاق معه. وفي ما بعد جري الكشف عن وجود لجنة عسكرية في القاهرة ظلت تعمل طوال عهد الوحـدة سراً. وبسبب هلهلة الحكم الانفصالي في سورية، وبسبب غياب زعامة في وزن جمال عبد الناصر ظهر فراغ كبير في الحياة السياسية. وهذا الفراغ ملأه تنظيم الضباط البعثيين أو ما سمي اللجنة العسـكرية . وكان الشرط الضروري للنجاح هو حمل راية الوحدة التي يقدسها الناس ثم التصدي لخصوم عبد الناصـر، في الوقت الذي لا يستطيع فيه عبد الناصر الرجوع إلي الحكم في سورية. وهكذا استطاعت اللجنة العسكرية البعثية أن تمسك زمام القيادة الفعلية للجيش والقوات المسلحة، بينما الحركة الشعبية غير موجودة.
صورة ناصر اهتزت
حكم الوحدة امتد نحو ثلاث سـنوات ونصف السنة. وحتي بعد انقضاء أكثر من سنة علي الانفصال ظل عبد الناصر معبود الناس.
طبعاً.
إذن، ليس صحيحاً الكلام الذي سار في الأفواه والأشداق عن القمع والتنكيل في عهد الوحدة.
لا. لا. انتظـر قليلاً. أنا تحدثت عن أن أكثرية الناس أو الذين أسميتهم العامة ظلوا علي موقفهم، ولم يسـحبوا البيعة مثلما سحبها أهل الحل والعقد. ولكنني لم أقل أن عبد الناصر بقي معبود الناس كما كان قبل الوحدة. عبد الناصر اهتزت صورته فعلاً. ولو جاء إلي سورية حُكم تقدمي وغير مشبوه بتهمة الانفصال التي لحقت بالشوام، ولو لم تأت إلي الحكم جماعة الاستئثار بالسلطة من ماركة مأمون الكزبري المكروهة، ولو لم تهدد هذه الجماعة مصالح الجماهير الفقيرة بقرارات العودة عن التأميم وعن مكتسبات العمال والفلاحين، لما بقيت صورة عبد الناصر علي بهائها. لا لم يكن عبد الناصر معبود الجماهير. كان معبودهم فعلاً في الفترة ما بين تأميم القناة وقيام الوحدة. أما خلال الوحدة فاهتزت الصورة كثيراً، مع أن الإعلام المصري حاول أن يصور الأمور السيئة التي حدثت في سورية بأنها من رذالات عبد الحميد السراج وجماعته.
بين الانفصال وقيام حركة 8 آذار (مارس) 1963 ألم يتسنّ لحزب البعث أن يعيد تنظيم نفسه؟ ولا سيما أن بعض المصـادر يذكر أن عدد أعضاء حزب البعث عشية انقلاب 8 آذار (مارس) لم يكن يتجاوز 400 عضو. ما مدي صحة هذا الكلام؟
400 عضو؟ هذا الرقم مبالغ فيه.
أقل من 400 عضو؟
أقل طبعاً.
في جميع أنحاء سورية؟
طبعاً. وحتي وقوع الانفصال لم يخطـر في بال البعثيين أن الانفصال يمكن أن يقع. ربما توقعوا أن يحدث نوع من الحركة الاحتجاجية، وحاول البعض، جدّياً، إعادة تنظيم الحزب، لكنه فشل، لأن ميشيل عفلق ظل مصمماً علي أن يبقي مستأثراً بالقيادة القومية للحزب، وصلاح البيطار مصمم علي العمل مسـتقلاً، لأنه أصبح غير قادر علي العودة إلي العمل المشترك مع ميشيل عفلق، أي في الموقـع الثاني. صحيح أنه كان بينهما عداء حقيقي، لكن الاثنين لا يريدان أكرم الحوراني.
حزب البعث، في تكوينه، فوق الطائفية والعصبيات العشائرية. هكذا كان، علي الأقل، في طوره الأول.
عندما انفرط عقـد حزب البعث عادت العصبيات لتطل بين البعثيين أنفسـهم. لنتحدث بهدوء، فهذه المسألة شديدة الحساسية. سورية سبقت مصر في مسائل، مثلما كانت مصر السباقة في مسائل أخري. سورية سبقت مصر بالوعي القومي العربي وبالتشديد علي الوحدة العربية، وفي إدراك الخطـر الإسرائيلي لأن هذا الخطر في قلبها. فلسطين تقع في قلب سورية وليس خارجها مثلما هي فلسطين لمصر.
فلسطين نقطة الدفاع الأولي عن الأمن القومي المصري.
مجرد خطر علي الأمن الوطني. خطر خارجي وليس في الأحشـاء. ثم إن سورية تفوقت علي مصر بمفاهيم الوحدة الوطنية وهي أقوي من الوحدة الوطنية القائمة في مصر. الوحدة الوطنية في مصر صنعها الأقباط بعد ثورة 1919.
ليلة 8 آذار 1963
ليلة 8 آذار (مارس) 1963 أين كنتَ؟ هـل وصلتك إشارات أو بعض المعلومات عن أن أمراً يجري تدبيره؟
نعم. كانت القصة مكشوفة، ولكن ليس لكل الناس بالطبع. عندما أصبح زياد الحريري رئيسـاً لأركان الجبهة بات واضحاً أن ثمة كتلتين في الجيش بدأتا تتسابقان إلي القيام بانقلاب عسكري: كتلة ضباط البعث وكتلة الضباط الناصريين. وجاء دخول زياد الحريري إلي جانب البعثيين ليرجح الكفـة لمصلحتهم. ومنذ أن وقع انقـلاب 8 شباط (فبراير) 1963 في العراق كان الجميع في الشـارع يتناقلون خبر الانقـلاب المقبل. الحكم صار في حال استسلام وراح ينتظر مصيره.
أي أنه فقد سلطته علي الجيش.
صحيح. هنا اتفق الضباط البعثيون مع الضباط الناصـريين علي تنفيذ الانقلاب في 9 آذار (مارس) 1963، وفي الوقت نفسه اتفقوا مع زياد الحريري علي 8 آذار (مارس)، ونفذوا الانقلاب في 8 آذار (مارس)، وفاجأوا به الناصريين. صلاح جديد، للحقيقة، كان عقلاً تنظيمياً رفيعاً. فقد أنجز، حينما كان مسرّحاً من الجيش، دراسة عن ضباط الجيش السوري واحداً واحداً. وعندما تولّي الشعبة الأولي، أي الشعبة المسؤولة عن الضباط، اكتشف أن معلوماته كانت أفضل بكثير من المعلومات المحفوظة في الأرشـيف الرسمي للشعبة الأولي. هذا العقل التنظيمي لمع حقاً عندما أصدر أوامر لجميع الضباط البعثيين الذين عادوا إلي الجيش أنذرهم فيها بأن من يقبل منكم وظيفة مكتبية، بما في ذلك الشـرطة العسكرية، سيُفصل من الحـزب. وعلي الجميع أن يلتحق بالقطعات العسـكرية الميدانية وأن يضحي بالامتيازات التي يمكن أن تعـرض عليه هنا وهناك. في المقابل كان الضباط الناصريون، كلهم بلا استثناء، يتزاحمون علي الوجاهة والامتيازات.
وهكذا سيطر الضباط البعثيون، بالتدريج، علي مواقع مهمة في الجيش.
اعتقد الناصريون أن منصب رئيس المخابرات مثلاً أو رئيس الشرطة العسكرية أو قائد شعبة التنظيم والإدارة شأن مهم جداً. لكن، عندما تندلع الصراعات فإن القطعات العسكرية هي التي تحسم الأمر.
هناك مسألة خطيرة ربما تفسـر، إلي حدّ كبير، هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967. فهذه الصراعات المتمادية في الجيش منذ حسني الزعيم حتي الانفصال، أدت إلي نزف هائل في صفوف الجيش، وذهب عدد كبير من الضباط المحترفين إلي منازلهم بالتتابع، حتي أن حركة 8 آذار (مارس) 1963 سرّحت 700 ضابط مرة واحـدة واستبدلت بهم بعثيين من حملة البكالوريا، أي أنهم لا يفقهون من شـؤون القتـال إلاّ ما تعلموه في الخدمة العسكرية. وفي ما بعد وقعت حركة 23 شباط (فبراير) 1966 لتسّرح نحو 400 ضابط أيضاً. وهكذا وصلنا إلي سنة 1967 والجيش السوري لا يمتلك ضباطاً محترفين من ذوي الخبرة والمعرفة. وهذا العقل التنظيمي الذي تتكلم عليه كان مرصوداً للصراعات والسيطرة علي السلطة لا لمواجهة العدو الصهيوني. كيف تعالج هذا الرأي؟
لا توجد فروق جوهرية في الجيش السـوري بين الذين ذهبوا إلي القطعات العسكرية، والذين ذهبوا إلي المكاتب. طبعاً الذين ذهبوا إلي القطعات أفضل عسكرياً. أما هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967 فهي هزيمة للجيش السوري بلا شك، ولكنها هزيمة للجيش المصري أولاً وأخيراً. متي احتلت إسـرائيل الجولان؟ متي فرض علي الجيش السوري التراجع بلا قتال؟ أليس بعد أن كُسر الجيش المصري، وطلب وقف إطلاق النار؟ من الذي أدار الأزمة في سنة 1967؟ من الذي أبعد القوات الدولية عن الحدود المصرية؟
إنها، في جميع الأحوال، فضيحة مدوية للجيشين.
يا أخي نحن نتحدث للتاريخ. إنها فضيحة لنا، ولأفكارنا عن النهضة العربية أو لما ظننا أنه نهضة. وفي أي حال يجب ألا ندخل عواطفنا في الموضوع. عواطفي ليست مع البعثيين ولكنها ليست مع عبد الناصر إطلاقاً. هذا جوابي وليس لدي جواب آخر.
نعود إلي بداية السؤال، ماذا فعلت ليلة 8 آذار(مارس)؟
كنا واثقين من أن قصة الانقلاب منتهية. وكنت انتظر أن تصـدر عبر الإذاعة أسماء الضباط الذين سيعودون إلي الجيش. وفي الساعة التاسعة من صباح 8 آذار (مارس) صدرت الأسماء التي نعرفها: محمد عمران وعبد الكريم الجندي ومصطفي طلاس وصلاح جديد..الخ.
وحافظ الأسد؟
حافظ الأسد لم أكن أعرفه، ولم أسمع باسمه من قبل. وعندما صدرت القائمة، وهي تضم أربعين اسماً لضباط أعيد توزيعهم علي القطعات العسكرية عرفت أن الانقـلاب المنتظر هو انقلاب بعثي خالص.
حكومة الجزم
ألم تفرح لانقلاب 8 آذار (مارس) 1963 كونك بعثياً؟
أنا فرحت لانقلاب 8 شـباط (فبراير) في العـراق، واعتقدت أن بالإمكان تحويل ذلك الانقلاب إلي حركة شعبية أو إلي ديمقراطية شعبية، وأن تعقب ذلك الوحـدة بين سورية والعراق، وأن ينكشف موقف عبد الناصر، فإما أن يتراجع عن عنجهيته ويقبل رئاسة دولة اتحادية ويكون حلم العرب تحقق بوحدة مصر وسـورية والعراق، وعندها تكون إسرائيل علي وشـك النهاية، وإما أن يقول لا، فتصبح الوحـدة السورية ـ العراقية هي مركز الثقل في المنطقة، ويصبح عبد الناصر أصغر من مصطفي النحاس بل أصغر من علي ماهر.
لكن محادثات الوحدة في سنة 1963 لم ينجم منها أي شيء.
محادثات الوحـدة كانت تجري في العلن، لكن الصراعات كانت محتدمة في السر. كان البعث يركز علي أخطاء السّراج وأخطاء السـوريين من جماعة عبد الناصر. وأول ردة فعل من عبد الناصر كانت قيامه بوضع السوريين من أنصاره الذين كانوا في القاهرة في طائرة وإرسالهم إلي دمشق.
أمثال جادو عز الدين وأكرم الديري.
وجاسم علوان وعبد الحميد السّراج ... الخ.
هل اعتقلوا فور وصولهم؟
لا. لم يرغب البعثيون في إغضاب عبد الناصر فمنعوهم من الدخول وظلوا عدة ساعات في المطار ثم أعادوهم إلي القاهرة. هنا أطلق ميشيل عفلق نكتة لئيمة فراح يردد: شو هالقصة يا أخي. نقول لعبد الناصـر إننا نريد الوحدة بلا أخطاء، فيرسل لنا الأخطاء بلا وحدة . أنا لا أستطيع الخروج من موقفي اللاناصري. أنا انقلبت من إنسان مؤمن بزعامة عبد الناصر مثل جميع الناس في سنة 1957 إلي إنسـان غير مؤمن بزعامته أبداً منذ أواخر صيف 1958 عندما حدثت التسوية في لبنان مع الولايات المتحدة الامريكية، فضلاً عن الأخطاء الفاحشة التي ارتكبت في العـراق والتي أدت إلي سيطرة عبد الكريم قاسم والشيوعيين علي العراق بدلاً من الوحدويين والبعثيين، وإلي سحل إخواننا في الشوارع.
تقصد أحداث الموصل.
لا. أحداث الموصل وقعت في سـنة 1959. ونتيجة لهذه الأخطاء استقال وزراء البعث، فراح عبد الناصـر يهاجمهم في الوقت الذي يسكت عن أنور السـادات الذي هدد الوزراء في قلب سورية بـ الدوس بالجزم ، وقال: يا سيادة الرئيس، دوسهم بالجزم .
من أسوأ الأمور أن تتحكم جُزَم العسكري بأي مجتمع مدني.
انتقلت من مؤمن بقيادة عبد الناصر إلي مشكك فيها فإلي مؤمن بأنه غير صالح للقيادة إطلاقاً، ثم فقدت الأمل بقيادته ورأيت أن المخـرج هو في الوحدة السورية ـ العراقية. وكنت أنظر بعين الأمل إلي علي صالح السعدي، الذي هو صديق شخصي لي، وراهنت علي أن تتفوق عقليته الاشتراكية علي نزعته الشعبوية ويتوقف ميشيل عفلق عن مناوراته، ويستعيد الحزب وحدته بعودة أكرم الحوراني وغيره وأنا معهم. لكن حينما سقط الحكم في العراق في 18/10/1963 يئست تماماً وسافرت إلي فرنسا.
علي السعدي المظلوم
يروي عن علي صالـح السـعدي أنه عندما جاء إلي دمشق عقب انقلاب 8 آذار (مارس) 1963 وزار رئاسـة الأركان، وكـان يرتدي جلابيـة علي مـا يبدو، رفع ذيـل ثوبه قبل أن يجتاز الباب الرئيسي، ثم تلفت يميناً ويساراً وقال: أين الدم؟ فقالوا له: لا دماء هنا. أي أن حركة 8 آذار (مارس) كانت بلا ضحايا، بل مجرد انقلاب ابيض. فعلق بالقول: ثورة من غير دماء ليست ثورة . هل هذه الحادثة صحيحة؟
علي صـالح السـعدي، في ذاك الوقت، كـان جدياً جـداً. هذا الرجـل مظلـوم وظلمته الأقـدار، وظلم نفسه بنفسه لأن طموحه كان أكبر من إمكاناته، وفرضت عليه الأوضاع أن يتصدي لقيادة ميشيل عفلق وهو الزعيم المطلق للحزب. لو كان أكرم الحوراني ما زال في الحزب في تلك الأثناء، ولو كان الحزب ظل موحّداً، فإن مستقبلاً باهراً كان ينتظر علي السعدي، لأن علي السعدي يصلح لأن يكون واحداً من قيادة فاعلة، أما أن يكون رأساً لقيادة ثلاثة أرباع أعضائها أولاد والربع الباقي مشبوه، فلن ينجـح علي الإطلاق في طموحه. وهذه تشنيعات خصومه من العفالقة والناصريين. وحتي لو كانت صحيحة فهذا هو جو البعث في العراق. بل هذا هو جو العراق منذ الآشوريين مرورا بالحجاج وإلي يوم الناس هذا.
قامت حركـة 8 آذار (مارس) 1963 أخيراً. ولكن فـي أول يـوم بعد قيامها صـدر البـلاغ رقم 4 الذي أوقف جميع الصحف عن الصدور، ما عدا الوحدة العربية و بردي و الفجـر . وفي 13/3/1963 ألغيت الامتيازات الصحفية كلها وصودرت المطابع، ووضعت أمـوال أصحاب الصحف تحت الحراسة القضائية، ومنعت الأحزاب، وفُرض العزل المدني علي الكثير من السياسيين. ألم تكتشف في هذه الاشارات كلها مقدمة للدكتاتورية؟
كأنك تقصد من هذا السؤال السخرية. هل ثمة شك في أن الانقلاب العسكري، أينما كان، يؤدي إلي الدكتاتورية؟ لم يكن لدي أي شك في هذا الأمر.
سورية في ظل البعـث
منذ الأيام الأولي لسيطرة حزب البعث علي السلطة في سورية ظهرت نغمة تقول إن هذا الحكم هـو حكم العدس (ع د س) أي حكم العلويين والدروز والاسماعيليين. إلي أي مدي كانت هذه النغمة صحيحة؟
أساس هذا المصطلح هو أن أهم الضباط في الجيش الذين تسلموا مراكز شـديدة الحساسية بعد 8 آذار 1963 كانـوا من منشأ أقلوي: علويين ودروزا واسماعيليين. وبرزت من بين هؤلاء الضباط أسماء مشهورة أمثال صلاح جديد وعبد الكريم الجندي وسليم حاطوم وأحمد المير.
وحمد عبيد وفهد الشاعر.
حمد عبيد نعم. أما فهد الشاعر فلم تكن له أي علاقة بالسياسة، بل كان مجرد ضابط محترف وعضواً في حزب البعث يتلقي أوامره من القيادة القومية. وكانت له حركات مضحكة طالما تندر بها أو هزأ منها جمال عبد الناصر. وفي هذا السياق أقول إنه لولا ردّات الفعل التي بدأها أمين الحافظ في داخل الحزب عن سني ـ علوي، وهي في الأسـاس تشنيع ناصري ـ رجعي، لما تفاقمت هذه الظاهرة وانتشرت. ومهما يكن الأمر فالضباط منحوا الموقع الأول لرجل سني هو أمين الحافظ نفسه. وأمين الحافظ السـني تحالف مع صلاح جديد العلوي ضد محمد عمران العلوي، وهزم محمد عمران في ذلك الوقت. القيادة القومية لحزب البعث في ذلك الحين كانت عبارة عن مجموعة من الأفراد علي رأسها ميشيل عفلق وصـلاح البيطار ومنصور الأطـرش وجبران مجدلاني ومنيف الرزاز وشبلي العيسمي. لو بقي الحزب موحدا، ولم يخاصموا جمال عبد الناصر، ولو أقيمت جبهة متحدة من البعث والتقدميين والشيوعيين والمستقلين، لكان في الإمكان إعادة تأسيس برلمان ديمقراطي وسلطة تحكم بالأكثرية. لكن من دون هذا كله، ماذا كانت تمثل القيادة القومية مع أمين الحافظ؟
400 نفر.
أولئك المتهمون بأنهم عدس هم أصحاب الشوكة في سورية في ذلك الوقت.
أصحاب الجيش.
القوة بين أيديهم. وعندما تتكون لديهم عصبية يحكمون. أليس هذا ما تقوله النظرية الخلدونية؟ وعندما يظهر بينهم قائد ذكي وواقعي وعملي يتخلص من الآخرين وينفرد بالسلطة.
تقصد الرئيس حافظ الأسد؟
نعم. حافظ الأسد عندما تخلص من خصومه أصبح طليقا، واعترف به الناس ومشي الجميع في ركابه كصاحب شوكة وصاحب عصبية معا. هذا هو تاريخنا منذ أن فشلت دولة الخلفاء الراشدين حتي اليوم. أقول فشلت دولة الراشدين، وأصر علي ذلك، وإلاّ لماذا حدثت الفتنة الكبري؟ ببساطة لأن دولة الراشدين فشلت. مهما يكن الأمر، فقد سار الناس خلف القيادة الجديدة للرئيس حافظ الأسد لأن هناك فتاوي تحض علـي طاعة الحاكم، حتي لو لم يحكم باسم الشرع. أما الذين حاولوا تطبيق فتاوي خاطئة في شأن الحاكم فقد ذبحوا ذبحا.
تقصد الإخوان المسلمين؟
نعم. أو الفرع المقاتل في الإخـوان المسلمين. وفي النهاية قبلت سورية وبعض لبنان وربع الفلسطينيين وجزء من الأردنيين والعراقيين بقيادة حافظ الأسد. أقول هذا وأنا محكوم بالإعدام في عهد حركة 23 شباط (فبراير) 1966 وفي عهد حافظ الأسد. وخفض الحكم إلي المؤبد نظرا لتاريخي النضالي. ثـم صدر العفو عني حينما صرت بلا شوكة أو حيل، وبعدما قلنا إننا مستعدون للعودة إلي السجن. وتلاشت قصتنا بعدما استقر حكم حافظ الأسد، ولم يبقَ له معارضون جديون.
ما كانت تهمتك؟
مقاومة حركة 23 شباط (فبراير). جوابي عن قصة عدس هو أنك لو قعدت مقعدهم فسيظهر لك أن الحق إلي جانبهم. ولو قعدت مقعد خصومهم لوجدت أن الحق إلي جانب خصومهم.
والحقيقة؟
لا يمكنك اتهام هؤلاء بالطائفية من دون أن تتهم خصومهم بها أيضا.
هذا يعكس الانحطاط الذي بلغته سورية إذن؟
لا تستطيع اتهام جماعة 23 شباط (فبراير) بالطائفية ما لم تتهم المجتمع بأمه وأبيه بالطائفية. سورية كانت تتقدم رويدا رويدا نحو المجتمع الديمقراطي شبه العلماني. لكن حكم جمال عبد الناصر أدي إلي التراجع خطوة إلي الوراء في هذا الشأن. ولن تُحل المشكلة الطائفية إلا بإعادة النظر في التراث.
هذا موضوع فكري في الصميم.
وفي التاريخ.
وفي الدين أيضا.
يجب إعادة النظر في طريقة فهمنا للدين. لا يوجـد أنبياء اليوم ليعيدوا النظر بالديانات التي جاؤونا بها. خاتم الأنبياء مات فـي السنة الثالثة عشرة للهجرة. لم يعد هناك أنبياء ليعيدوا النظر بالدين. يجب أن نعيد نحن النظـر في طريقة فهمنا للدين. أنا لا أتحدث هنا كمؤمن، لكنني لا أوافق هؤلاء الذين يعتقدون أنهم بإعلان الإلحاد يحلون المشكلة أمثال صاحبك ابن العظم. قصة عـدس لا يجوز أن نتناولها بخفة. فإذا كانت هناك شبهة طائفية علي جماعة 23 شباط (فبراير)، فثمة شبهة طائفية علي خصومهم. لم يقل العلويون والاسماعيليون والدروز ان هناك تعصبا سنيا، بل إن أمين الحافظ هو الذي أشاع وجود التعصب الطائفي في الجيش. حسنا، لماذا قبل تسريح أعداد كبيرة من البعثيين بتهمة الانفصالية أو الناصرية، وبعض هؤلاء ليس مسلما بل مسيحي؟
أمثال مَن؟
سليم إبراهيم مثلاً، وهو من أكثر ضباط الجيش ثقافة ومعرفة، وكان يساري الميول وأفضل ضابط مدفعية في الجيش. اعتبروه من أنصار أكرم الحوراني وسرحوه. لماذا سكت أمين الحافظ علي هذا الأمر؟ خذ مثلا بدر جمعة الذي أعدم مع سليم حاطوم. كان بدر جمعة يقول إنه لا يشتري أمين الحافظ بقرش. هو قال لي ذلك شخصيا، وكـان يعتبر نفسه أهم من أمين الحافظ بمئة مرة. حسـين ملحم أيضا. إن قيادة حزب البعث ظنت أن في إمكانها إمساك العصا مـن الوسط، فلم تتصدَ للمسألة الطائفية بشكل جدّي، لأنها لا تريد إغضاب هؤلاء أو أولئك، بل تريد دوام الحال علي ما هي عليه وأن يكون الحكم لها في نهاية المطاف. أن يظن ميشيل عفلق نفسه بأنه زعيم وقادر علي قيادة الناس ففي الأمر نوع من المزاح السمج وثقيل الدم، لا أكثر ولا أقل، ولكنه مع الأسف كان مزاحاً مكلفاً.
ميشيل عفلق وحده؟
ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومنصور الأطرش... إلخ. لو شاء أكرم الحوراني أن يفعل مثلهم لكان أصبح رئيسا للجمهورية في سنة 1949 أو في سنة 1952 أو في سنة 1957 إبان عصيان قطنا. خلاصة الواقع أن البعثيين السنّة ما كانوا متعصبين للسنّة في الأصل، ولم يكن البعثيون العلويون متعصبين للعلوية. المسألة، باختصار، مسألة صراع علي السلطة. علي شريعتي له كتاب مهم جدا عنوانه: إسلام علوي إسلام صفوي . ولو كان شريعتي حيا بعد الثورة الإيرانية لأعدمه الخميني مع أن شريعتي كان من الثائرين علي الشاه. وهذا الكتاب يتحدث عن الصفويين وكيف جعلوا التشيع علي مذهب الإمامية تيارا متطرفا كي يتاح لهم مقاومة العثمانيين والانفراد بحكم إيران.
استتب الحكم لحزب البعث في سورية بعد صراعات طاحنة. أنت ماذا فعلت بعدما رجعت إلي دمشق؟
بناء علي معرفتي الشخصية أقول لقـد استتب الحكم لأحد أحزاب البعث وليس لحزب البعث. دان الحكم لذاك الحزب الذي كان يشكل المجموعة الأكثر فاعلية في المؤتمر التأسيسي والتي فرضت الاتجاه الاشتراكي علي الحزب. أما ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومنصور الأطرش والأسماء الأخري الطنانة الرنانة فكانوا ملوكا بلا جيوش. إن شخصيات محترمة أمثال شبلي العيسمي ومنصور الأطرش لا يمثلون شيئا في جبل الدروز أو في حزب البعث. لماذا؟ لأن جبل الدروز ليس العاصمة، وليس من المراكز الحاسمة في سورية. ونحن هنا نتكلم علي الثقل السياسي في مواجهة القوة العسكرية.
العسكر هم من دانت لهم السلطة، وعفلق والبيطار والآخرون مجرد واجهات مدنية.
نعم.
ما دام هؤلاء القادة كانوا ضعفاء جداً، وأقصد عفلق والبيطار ومنصور الأطرش... إلخ، لماذا بقي أكرم الحوراني علي الحياد؟
كان ضد الانقلاب.
ألم يؤيد حركة 8 آذار (مارس) ولو تقية؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أكرم الحوراني فر وخشي الإعدام ولجأ إلي مكان آخر. وعندما سمحوا له بالظهور بعدما استتب الأمر لهم في سنة 1964 لم يلبث أن اعتقل أكثر من مرة.
ما هي المشكلة الجوهرية إذن بين أكرم الحوراني واللجنة العسكرية؟ أنا أفهم الخصومة مع ميشيل عفلق، لكن خصومته مع ضباط اللجنة العسكرية تبدو غامضة.
بدأت القضية منذ أن أرادت جماعة اللجنة العسكرية محاربة خصوم عبد الناصر كي يتسني لها الإمساك بالقيادة. وربما اعتقد بعضهم أنهم وحدويون بينما أكرم الحوراني انفصالي. وما دام الحكم صار لهم وحدهم فلماذا يشركون أكرم فيه؟ أكرم الحوراني لا يقبل بأن يكون واجهة مدنية للعسكر. هو يقبل أن يكون شـريكا حقيقيا فقط. في تلك الأثناء كنت في فرنسا وعلمت من خلال جريدة البعث أن علي صالح السعدي فصل ومجموعته من الحزب لأسباب أخلاقية. فغضبت غضبا شديداً، وكتبت رسالة إلي خالد الحكيم وأرسلتها إلي عنوان اتحاد النقابات لكي تُراقب وتُقرأ، وقلت فيها رأيي وتحدثت بكلام ضد ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأعلنت أنني مع علي صالح السعدي مع أنني لم أكن من أنصاره.
تضامنت معه إذن؟
نعم. ناصرته علي الظلم. وعندما رجعت إلي دمشق قال لي خالد الحكيم إن الرسالة وصلته بعد عشرين يوما وهي معلوكة لكثرة ما تداولتها الأيدي. في هذه المرحلة بالتحديد انبعثت فكرة تأسيس حزب جديد بقيادة علي صالح السعدي وياسين الحافظ وحمود الشوفي.