عند ثبوت رؤية هلال رمضان في سورية، يتنادى الجميع الى تهنئة بعضهم البعض، وعندما أقول الجميع فأنا اعني تماما أن كل الناس يهنئون ويتلقون التهنئة، مسلمون او مسيحيون او طوائف اخرى، يقولون "مباركة طاعتكم" وتعني هنا الطاعة للاله من خلال فريضة الصوم.
الجميع يلقون التهنئة، وليس من الضروري ان يكون المبادر او المتلقي مسلماً، والجميع تتغير برامج يومه، لا بل لن اكون مبالغاً إذا قلت أن الجميع ينتظر شهر رمضان ليتنفس اجوائه القدسية.
عتد ثبوت رؤية هلال رمضان، اتصلت بالكثير من الاصدقاء المسلمين لانقل لهم مودتي الخالصة ومحبتي لهم واقول لهم "مباركة طاعتكم"، لكن الشيء الملفت أن الكثيرين اتصلوا ليهنئوني، وهم يعلمون تمام العلم باني مسيحي، والملفت الأكثر - والذي اعتبره فخرا ووساماً لي - أن رجال العلم الاسلامي هم اكثر المتصلين .
عدت بذاكرتي الى يوم كنت صغيراً لا يتجاوز من العمر سنواته الاربع، وكنت استيقظ فجرا على صوت آذان جميل يأتيني من مسجد مجاور، ولما كنت طفلاً، كنت اطلب من والدي أن يأخذني الى "عمو الله اكبر"، وهكذا بدأت محبتي بالله جل جلاله، باطلاقي عليه اسماً محبباً، وهكذا احببته بدون خوف وبدون تكلف، بل هي علاقة بين طفل صغير، وصوت يأتيني عند الفجر.
كبرت وبدأت افهم التراتيل الدينية في كنيستي، ورحت احلق في جو من الخشوع من خلال الالحان البيزنطية والبخور والرسوم الدينية الذين ينقلوني الى أجواء روحانية، وكبرت اكثر قليلاً، الى أن جاء يوم - اذكره كانه يحدث الآن - كنت العب مع صبيان في الحارة التي اسكن بها، وكان الوقت بعد الظهر، عندما حضر والدي ولما رآني آكل تفاحة، طلب مني الصعود الى المنزل سريعاً وعندما وصلت الى البيت، اذكر تماماً غضبه مني (والذي لم اكن اعلم له سبباً) وقال لي أن اميل قس نصر الله لا يربي اولادا غير مهذبين، دُهشت من الكلام ومن غضب والدي - الذي لم يؤنبني مرة في حياتي - وبعدها شرح لي اننا في رمضان وهو شهر للصيام، وان المسلمين في الحارة صائمين ولا يجوز ان نأكل أمامهم، ومنذ ذلك الحين وأنا اتحاشى ان آكل وأن اشرب أمام من يصومون تعبداً للاله الذي أعبده ولكن بطريقة تختلف في ظاهرها عنهم.
لم يرني أحدٌ خلال شهر رمضان - منذ حادثة والدي - آكل أو اشرب، وعندما كبرت قليلاً واصبحت يافعاً كنت انتبه احياناً أن والدي كان يقف عند سماعه الاذان أو ينزل رجله عن الاخرى، او يتوقف لبضع ثوانٍ عن الكلام، وعندما سألته ابتسم أنه من الادب ان تقف احتراماً عند سماعك الآذان، وهو ما أفعله الآن .
يستغرب الكثير من الناس أن اتابع أنا المسيحي ترخيص جامع، ولكن الناس لا يعلمون أن الفضل في ذلك يعود الى شخصين رحمهما الله، هما والدي وجارنا الدكتور مختار علواني.
كنا نعيش في اللاذقية (مثلها مثل كل المدن والقرى، نموذج لسورية) وفي بناء للمرحوم الدكتور مختار علواني، وكنت مع اخي ومع اولاد جارنا فداء ومحمد ونزيه والبنات ايضاً في عمر متقارب، وفي وقت الاعياد الدينية - الذي أنا مصر أنها في سورية اربعة اعياد، الفطر والاضحى والميلاد والفصح - كنا انا واخي نأخذ خرجية من جارنا مثل اولاده ونذهب سوية لنحتفل بالاعياد وفق رؤيتنا الطفولية، فمن دار للسينما الى مدينة للالعاب ومن الفول المدمس الى البوظة، كنا نمارس الحياة المشتركة دون كتب ومحاضرات وارشادات ومؤتمرات.
كانت طائفة الروم الكاثوليك التي انتمي اليها، تفتقر الى كنيسة ومسكن للكهنة في اللاذقية، فاتفق والدي مع الدكتور علواني على استئجار الطابق الارضي بشقتيه، فكانت واحدة تُستخدم ككنيسة والشقة الاخرى كمسكن للكهنة وفي الطابق الاول منزل علواني ونحن في الطابق الثاني.
من هنا تعلمت اهم درس في حياتي حول الحياة المشتركة، وعلمت أن سورية باطيافها تزخر بهكذا قصص، لن يستطيع الكثر ان يفهموه، ولكن لن يستطيع الجميع ان يحطموا صيغة الحب بينهم.
هذه النماذج من سورية هي الصورة المضيئة التي علمتني كيف احيا مع اخي المسلم، وعلمت المسلم كيف يحيا مع اخيه المسيحي، وعلمت الجميع كيف يحيوا مع بعضهم البعض.
الى روحكم الطاهرة يا والدي اميل ويا جارنا العزيز الدكتور مختار علواني، ارفع لكم كل الحب وكل العرفان بالجميل، واتقدم من اصدقاء طفولتي من آل علواني فداء ومحمد ونزيه وسامية وكيندا، لاقول لهم "مباركة طاعتكم".
*مستشار مفتي سورية