د.أدير كورية
لم يحظ أثر ادبي قديم او حديث من آداب الشرق الاوسط باهتمام المثقفيين والباحثين الغربيين بمقدار ما حظيت به "ملحمة كلكامش" . فمنذ ان ترجمها جورج سميث الى الانكليزية في عام 1872 وهي تشغل الاوساط الادبية والفكرية والنقدية في اميركا والغرب. بعد ان نقلت الى الانكليزية ظهرت لها ترجمات فرنسية، و المانية، و روسية، و هولندية، و سويدية، و ايطالية، و اسبانية، و عربية، و تركية، و فارسية وعبرية وغيرها. وككل الاعمال الكلاسيكية الرائعة التي لاتستطيع ترجمة واحدة ان تستنفذ مضامينها ودلالاتها أخذت تظهر لملحمة "الرافدين" ترجمات عديدة ومختلفة في معظم بلدان العالم. ففي الولايات المتحدة وبريطانيا هناك الآن ما لايقل عن عشرين ترجمة انكليزية لذات النص، كانت أشهرها الترجمة الشعبية التي قامت بها ساندرز ونشرتها دار "بينكوين"، ثم تلتها ترجمة جان كاردنر وجان مئير التي نشرتها دار فينتج الشهيرة. وخلال العقد الاخير ظهرت ترجمات جديدة قام بها مختصون بالاشوريات امثال ستفيني دالي(1989) و مورين كوفاكس(1989) و سميا شابندر(1994) و اندرو جورج(1999) و ستيفن ميتشل(.(2004واخيرا حين لمس بعض الشعراء الاميركان بأن الترجمات النثرية عاجزة عن نقل الصور والمجازات والايقاعات الشعرية للنص الاصلي اخذوا يقومون بترجمتها شعرا. وخلال العقدين الاخيرين ظهرت ترجمات شعرية للملحمة قام بها هيربرت ميسن(1970)، و روبرت تمبل(1991) و ديفيد فيري(1992)، و داني جاكسن . (1997)
ان تأثير ملحمة كلكامش في الثقافة الغربية القديمة والمعاصرة لم يعد أمرا يحتاج الى برهان. فمنذ ان صارت الملحمة جزءا من برامج العلوم الكلاسيكية والادب العالمي - في الاربعينات - اخذ تأثيرها يظهر واضحا في الابحاث الكلاسيكية التي اعتمدت المنهج المقارن في البحث عن الجذور التاريخية والاسطورية والادبية لملاحم هوميروس وهيسيود وغيرها. كما اتبع باحثوا الاديان والاساطير المنهج التاريخي المقارن في دراساتهم للأصول القصصية في الكتاب المقدس لمعرفة مدى تأثرها بالحوادث الواردة في "ملحمة كلكامش". كما ان تطور منهجيات الادب المقارن المعني بقضايا "التناظر" بين مختلف الاعمال الادبية والفلسفية لشعوب مختلفة شجع بعض الباحثين في مجال الفلسفة على دراسة التناظر بين المضمون الفلسفي لـ "ملحمة كلكامش" و "مأدبة" افلاطون. و قام بعض علماء الانثروبولوجيا بقراءة بنيوية للملحمة مؤكدين على انها تعبير عن مبدأ التعارض بين الطبيعة والثقافة. وهناك ايضا من ينظر الى الملحمة على انها تنطوي على الاسس الدينية والفلسفية التي اعتمدها نيتشه في تفسيره لنشوء التراجيديا اليونانية.
أثر ملحمة كلكامش في الثقافة اليونانية القديمة
ظل الباحثون الغربيون ينظرون الى ملاحم هوميرس وهيسيود على انها نتاج متميز للثقافة اليونانية؛ وكانوا يعتقدون انه لاعلاقة لهذه الملاحم - سواء من حيث نشوئها، او اشكالها، او موتيفاتها، او مضامينها، او اساليبها - بثقافة الرافدين القديمة. وكانت حجة هؤلاء الباحثين انه لم يكن هناك اي تفاعل بين اليونان القديم وشعوب الرافدين او سورية الطبيعية خلال القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. هذه النظرة التي تتسم احيانا بالتعصب لمصادر الثقافة الغربية وتارة بالاحتقار لثقافات الشعوب الشرقية وصفها الباحث الالماني الشهير ولتر بيركيرت -- في ندوة ضمت مختصيين في الادب اليوناني القديم وذلك عام 1982 بمدينة ستوكهولم-- قائلا: " حتى الآن يعتبر الاستفسار عن الاثر الذي تركه الفن الشرقي للكتابة على الالياذة والاوديسا ضرب من الهرطقة ". أي لازال هناك من يعتقد ان عظمة الأدب اليوناني القديم تكمن في احادية مصدره اليوناني. وهنا يحضرني ما قاله كارل ثومبسن عن الطريقة التي يفهم فيها بعض الباحثين الادب اليوناني القديم: " غالبا ما توصف الثقافة الرائعة لليونان القديم بأنها معجزة انبثقت عن عبقرية خاصة بها ولا تدين بشيء لجاراتها ". ولكن هذا التشنج اخذ يتلاشى تدريجيا على اثر الحفريات الحديثة التي تؤكد ان انتشار "ملحمة كلكامش" لم يكن محصورا في ارض الرافدين، بل انتشرت في معظم كيانات سورية الطبيعية وآسيا الصغرى، اذ عثر على نسخة من الملحمة في ارشيف العاصمة الحثية في اناتوليا مكتوبة بالاكادية السامية. وكانت الملحمة قد ترجمت(حوالي 1350-1300) ايضا الى اللغات الحورية و اللغة الحثية التي هي هندو-اروبية. كما عثر على جزء صغير من الملحمة، وهو في غاية الاهمية، في منطقة مجيدو بفلسطين يشير الى وجود نسخة كنعانية او فلسطينية متأخرة. أما حفريات رأس شمرا(اغاريت القديمة)في الساحل السوري فقد كشفت النقاب عن قصة الطوفان التي يعتقد انها اشتقت من قصة الطوفان التي تشكل جزءا" من "ملحمة كلكامش". فمعظم الترجمات القديمة للملحمة كانت قد انتشرت في مناطق مختلفة من اسيا الصغرى(بما في ذلك اليونان) قبل ظهور هوميروس وهيسيود بما لايقل عن اربعمائة سنة.
الأمر الذي التبس على الباحثين الغربيين الذين يدرسون الاشكال الادبية وتقنياتها وخصائصها يكمن في انهم لم يميزوا بين المثاقفة التي قد يتعرض لها شعب في مرحلة بحيث تترك تأثيرها على تصوره لذاته وعالمه والهته وهو غير واع لها لأن ثقافته تمثلتها واعتبرتها جزءا من تراثه، وبين التأثير المباشر الذي قد يتركه تيار فكري او سياسي او ادبي على جيل من المثقفين او الكتاب. ليس "لملحمة كلكامش" تأثير مباشر على هوميروس وهيسيود شخصيا، بل على الثقافة اليونانية التي كونت، تاريخيا، المخزون الادبي والديني والاسطوري الذي منه انتهل كل من هوميروس و هيسيود المواد اللازمة لصياغة ملاحمهم. بمعنى آخر، ان المواد الاسطورية اليونانية، قبل ان تأخذ شكلها الملحمي عند هوميروس و هيسيود، كانت قد تشربت بعض خصائص ادب الرافدين. فتأثر هوميروس و هيسيود بـ "ملحمة كلكامش" هو غير مباشر وغير واع، هو تأثر بتراث يوناني متشرب لثقافة الشرق الاوسط القديم.
فانتشار الملحمة الواسع في مناطق جغرافية متعددة من آسيا الصغرى والعثور على ترجمات مختلفة
لـ "كلكامش "حمل الكثير من الباحثين على اعادة النظر في مسألة التفاعل الثقافي بين اليونان القديم والشرق الاوسط، وحثهم اكثر على متابعة الدراسات المقارنة لاستجلاء أوجه الشبه او التناظر بين ملحمة الرافدين والتراث الملحمي لليونان القديم، وهذا ايضا وفر لهم امكانية تحديد الاطار التاريخي والثقافي الذي احتضن عملية تفاعل تلك الثقافات. وتبلورت نتائج هذه المحاولات، التي ظهرت منذ الستينات، في اعمال العديد من الباحثين امثال وبيستر، و ولكوت، و لورد، و كريسيث، و ويست و بيركيرت، وغيرهم. وخلص هؤلاء الباحثون الى ان تأثيرات ادب الرافدين تجلت في التناظر القائم بين رسم سمات بعض الآلهة، و سيكولوجية بعض االشخصيات الملحمية، و سياق بعض الاحداث، واساليب شعرية اتبعت في ملحمة كلكامش وملاحم هوميروس.
يؤكد البيرت لورد، الباحث الاميركي الشهير بدراساته عن الفولكلور والادب الملحمي، ان "ملاحم الشرق الاوسط القديمة كانت معروفة لليونان المعاصرين لـ هوميروس، او كان لها تأثير على اليونان قبل هوميروس". ويشير لورد الى اوجه الشبه بين "كلكامش" و "الالياذة" قائلا: في "ملحمة كلكامش" يتحدى كلكامش و انكيدو ما حرمته الآلهة، وان قرار الآلهة في القضاء على انكيدو وليس على كلكامش يتكرر في الياذة هوميروس حيث تقضي الالهة على صديق البطل. وهناك تناظر آخر بين كلكامش و آخيل اليوناني، اذ ان كل من البطلين ثلثاه اله والثلث الآخر انسان. ويشدد لورد على تشابه في الروح بين الملحمتين من حيث خاتمتيهما المسالمتين: اي قبول كلكامش بفشله في اكتناه سر الخلود وقبول آخيل لـ برايم. وآخيل، مثل كلكامش، يصارع رهبة الفناء، وفي النهاية يذعن له.
أما ثومس وبيستر فيشير الى ان العلاقة بين الآلهة والابطال القدماء تشف عن عدد من المواقف المشتركة بين الشعر الشرقي واعمال هوميروس. ويرى تناظر بين المجالس الالهية في "ملحمة كلكامش" و "الالياذة" و الاوديسا". ويلفت وبيستر، مثلا، النظر الى تناظر بين قتال كلكامش مع الوحش همبابا و ثور السماء وقتال هرقل و بيرسوس ضد الغرغونة. ويتفق وبيستر و ولكوت على ان التناظر بين الاساليب الشعرية في ملحمتي هوميرس و ملحمة "كلكامش"، لاسيما في استعمال الصفات المتعددة عند ايراد اشياء او احداث جديدة. عندما يموت انكيدو، مثلا، يرثيه كلكامش قائلا: "مثل اسد رفع صوته، ومثل لبوءة حرمت من شبلها". ويذرع كلكامش المكان جيئة وذهوبا قرب سرير صديقه. ويناظر هذا المشهد - في الالياذة - آخيل الذي يعد مأتما" لصديقه. ففي الوقت الذي يندب الآخيون بتروكلس، يبدأ آخيل الرثاء، واضعا يديه المجرمتين على صدر صديقه وهو يئن بعمق مثل: "أسد ملتحي سرق الصياد اشباله". يصف وبيستر هذا التناظر بين الاستعارتين بانه مدهش للغاية. اما التناظر بين العلاقتين المزدوجتين بكل من كلكامش و آخيل فهو اكثر اذهالا: آخيل هو البطل الوحيد، في "الالياذة"، الذي لايمكن تصوره بدون امه وصديقه، وهذا يماثل علاقة كلكامش بامه و انكيدو. يميل وبيستر الى الاعتقاد بان هذه العلاقة المزدوجة التي اوحت بها "ملحمة كلكامش " قد تم اقتباسها في مرحلة مبكرة للغاية، اي قبل ظهور هوميروس
ولعب جيرالد كريسيث، الباحث الاميركي، دورا هاما في الكشف على العلاقة بين "ملحمة كلكامش" وملاحم هوميروس. يقارن كريسيث شخصية أتونابشتم(في ملحمة كلكامش) بشخصية السينوس في "الاوديسا"، كاشفا النقاب عن تناظر في رسم الشخوص ومنحى الاحداث. مثلا: يعيش السينوس في جزيرة نائية مع زوجته والملكة أريث. و السينوس، مثل اوتونابشتم، هو كائن ازلي. كما ان لدى السينوس و اوتونابشتم اداة نقل لاعادة الأموات الى اوطانهم، ويتم هذا في الملحمتين عبر قارب سحري. أم جزيرة اوتونابشتم وكذلك جزيرة السينوس فلا يمكن الاقتراب منهما الا بعد اجتياز مياه خطيرة وصعبة، ونجد البطلين - كلكامش و اوديسيوس - يصلان كل الى جزيرته بعد ان نال منهما التعب و ينامان في الحال رغم تحذير اوتونابشتم لـ كلكامش وتنبيه السينوس لأوديسيوس. ويورد كريسيث اوجه شبه اخرى كرمي انكيدو لفخض الثور في وجه عشتار الذي يناظر الجرح الذي يحدثه ديوميديس لأفروديت، الهة الحب في الاوديسا. ومثلما تهدد عشتار أنو - اله السماء - باطلاق سراح الاموات، هكذا تضغط هيليوس - في "الاوديسا"- على زوس مهددة بأنها ستهبط الى عالم الأموات وتنشر النور بينهم. ان هذا التناظر بين "ملحمة كلكامش" و ملاحم هوميروس ليس وليد الصدفة، بل يدل على تأثر ثقافة اليونان القديمة بثقافة الرافدين البابلية والاشورية المنتشرة بين شعوب آسيا الصغرى التي كانت قد عرفت "ملحمة كلكامش " عبر ترجمات حثية وحورية وعلامية.
"ملحمة كلكامش و "مأدبة" افلاطون
قد لانجد تعليلا تاريخيا او ثقافيا للتناظر القائم بين النظرة الفلسفية التي تنطوي عليها "مأدبة" افلاطون
و "ملحمة كلكامش". وايراد الشبه بين هذين العملين لايعني مطلقا أن ملحمة الرافدين أوحت لأفلاطون بكتابة "المأدبة" أو ما تنطوي عليه من مقولات فلسفية. والتناظر هنا لايعني بالضرورة انه حصيلة تفاعل او انفعال عمل بآخر. كان جورج هيلد، استاذ الفلسفة في جامعة نيواورلينز، اول من لفت النظر الى التناظر بين هذين العملين. يعتقد هيلد ان الفكرة الاساسية وراء "ملحمة كلكامش" تكمن في ان الانسان قادر على تطوير نفسه وتحقيق طبيعته ليحصل على سعادة حقيقية، وذلك عبر التزامه بالفضيلة والبحث عن المعرفة، وليس السعي وراء المتعة. هذا ويرى هيلد ان الحب(EROS) في "ملحمة كلكامش" و "المادبة" هو قوة بامكانها ان تحول وتطور طبيعة الانسان. ويجد هيلد في ملحمة الرافدين بذور نظرة "اخلاقية غائية" مماثلة "لعملية الخطوات الثلاث للتطور" الواردة في "مأدبة" افلاطون. والاطوار الثلاث في "المأدبة" هي كما يلي: الطور الحسي(ينطوي على اللذة)، والطور العملي، والطور الفلسقي. ويؤكد هيلد ان هذه الاطوار الثلاث عند افلاطون تتجلى واضحة في سياق تطور احداث "ماحمة كلكامش". ففي بداية الملحمة يعيش كلكامش حياة تقوم على اللذة. يضاجع فتيات مدينة اوروك، الامر الذي يثير عداء وكره الشعب له. فالبداية تمثل اشكال الحب الدنيا. أما بعد لقاءه بـ انكيدو فيتبنى حياة عملية، يشرع في اتباع الفضيلة والبحث عن الشهرة من خلال القيام بالاعمال. وفي النهاية، حين يرهب موت انكيدو وبالتالي حتمية موته هو، يتبنى حياة ليست فلسفية فعليا"، ولكن تولد لديه النتائج اللازمة لحياة فلسفية، أي الحكمة والمعرفة. ونجد، مثلا، في رفض كلكامش لطلب عشتار(القائم على مبدأ اللذة) رفض لحياته السابقة ودليل على تقدم خلقي، لاسيما، بالمقارنة مع اشكال الحب الدنيا التي تجاوزها. ويرى هيلد ان رفض كلكامش لـ عشتار يماثل في شكله ووظيفته رفض سقراط لـ السبياديس في "المأدبة".
"ملحمة كلكامش" و بنيوية ليفي شتراوس
في فصل مطول من كتابه "الأسطورة: معناها ووظائفها في الثقافات القديمة وغيرها" يقوم ج.اس. كيرك -عالم الاساطير و الآداب اليونانية - بقراءة جديدة لـ "ملحمة كلكامش"، مستفيدا من معطيات المنهجية البنيوية لدى ليفي شتراوس. ينطلق كيرك في تحليله للملحمة من مقولة التناقض بين الطبيعة والثقافة التي صارت احدى أهم الاسس التي اعتمدها التحليل البنيوي، والتي على ضوئها درس ليفي شتراوس ثقافة هنود البرازيل وغيرها. يعتقد كيرك ان العلاقة بين الطبيعة والثقافة ليست غير محتملة بالنسبة لشعوب الرافدين، لاسيما ما دامت اساطيرهم تؤكد على التباين بين الارض المروية والارض القاحلة والآلهة المسؤولة. واذا كان الامر كذلك، يقول كيرك، عندها تكون علاقة الطبيعة-الثقافة قد بدأت تظهر ذاتها كواحدة من اكثر الاهتمامات العالمية والمركزية للاساطير التأملية، الى جانب قضايا الحياة والموت، والعلاقة القائمة بين انواع البشر والحيوان والخصب الزراعي.
وفي تعليقه على بعض التفسيرات والتحاليل لنص الملحمة، يقول كيرك ان "ملحمة كلكامش" هي قصيدة مذهلة وينبغي ان تقرأ وتدرس بعناية من قبل كل دارس للثقافة اليونانية. ويؤكد كيرك على اهمية دراسة الملحمة لذاتها لأنها تذكرنا، بكل بوضوح، بما لم تعنى به الميثولوجيا واللآداب اليونانية. وعلى الرغم من قصر هذه الملحمة - بالمقارنة مع ملاحم هوميرس و هيسيود - الا انها تثير بطريقة واضحة للغاية ومؤثرة اهم الاسئلة عن الحياة والموت. وعلى صعيد آخر، تشكل الملحمة قصة تتميز بالتنوع والفتنة، وتليت بحدة وحيوية درامية. وفوق كل ذلك، حافظت هذه الملحمة، رغم تاريخها الادبي الطويل، على هالة اسطورية حافلة بذلك النوع من الاستكشاف العاطفي لمعاني الحياة الدائمة التي فشلت الاساطير اليونانية ان تقدم نموذجا لها. ويستطرد كيرك قائلا: تمثل الملحمة، من خلال شخصية اسطورية، مواقف متعددة من الموت يمكن ان يتبناها البشر. فالقبول النظري بالموت قد تحطم كليا عند أول معرفة به من خلال فقدان شخص محبوب.وهناك ايضا الاشمئزاز من بشاعة تفسخ الجسد، والرغبة في تخطي الموت المتعلق بحياة الانسان ذاته، وذلك بواسطة الشهرة، او بتخيل الانسان نفسه خالدا. وفي النهاية كان هناك نوع من الاذعان، ولكن قبل ذلك كان هناك ايضا محاولة لتأخير مسيرة الموت بمحاكاة الصبا.
يعتقد كيرك ان العنصر الذي لم يشار اليه هو انكيدو كانسان متوحش من الصحراء. ان احدى الاهتمامات الاساسية لهنود البرازيل كانت تلك العلاقة بين الطبيعة والثقافة، بين المدجن والبري، بين الني والمطبوخ، والتناقضات والمفارقات التي عملت ما بين هذه التطرفات. أنا اعتقد، يقول كيرك، ان "ملحمة كلكامش" في شكلها الآكادي المتطور تعنى، الى حد ما، بتحري - شعوري او لاشعوري - لمبدأ تناقض الطبيعة -الثقافة. ان التناقض والتصارع بين نمطين للحياة، واحد تابع للصحراء وآخر تابع للارض المزروعة، يتخلل كل تاريخ الشرق الادنى. والعلاقة بين الطبيعة والثقافة لم تكن غير محتملة لسكان الرافدين، لأن اساطيرهم تركز على الفرق بين الارض القاحلة والارض الخصبة، كما تركز على الآلهة المسؤولة.
يدرس كيرك الملحمة منتقيا تلك العبارات والافعال التي تشير الى التناقض بين الطبيعة والثقافة من خلال انكيدو ونظيره كلكامش. لقد تم التوكيد - اولا - على ان انكيدو قد خلق في سهل خال من الاشجار، وجسمه مكسو بشعر خشن كالحيوان، يعيش كالحيوان، يأكل ويشرب كالحيوانات. الا انه - بطرق معينة - يتصرف بشكل اذكى من الحيوانات، اذ يمزق المكايد التي ينصبها الصيادون لبعض الحيوانات. اذن رغم ان انكيدو هو انسان، فهو ايضا نقيض للانسان ولافعاله. ثم تأتي البغي التي تدله، ليس فقط على الجنس الذي تستطيع الحيوانات ايضا ان تمارسه، بل الى المأوى، والجماعة، والثياب، والطعام المطبوخ، والشراب وكل فوائد الثقافة. وحين يفشل في اللحاق بحيونات البرية التي رفضته، تواسيه البغي، مؤكدة على انه صار الان مثل اله. في كل هذا ثمت انقلاب في الادوار : في الصحراء يرفض انكيدو الحيوانات ويصير حكيما كاله، بينما في المدينة، كلكامش الملك الذي يجب ان يتصرف كحكيم، يتصرف كحيوان متوحش. وفي ذات الوقت يثبت انكيدو انه قد نسي مكان ولادته وياخذ باستخدام السلاح - احد رموز الثقافة - في مطاردة واصطياد الاسود والذئاب لكي يتمكن الرعاة ومربوا المواشي من العيش بسلام. أما كلكامش - فلكي يتمكن من تحقيق الشهرة ويقهر الموت - فينتقل من الثقافة(المدينة) الى برية الجبال ليقضي على خمبابا البدائي وليجلب شجر الارز الى اروك.
ويستطرد كيرك قائلا: يلعن انكيدو ثلاث ادوات تسببت في سقوطه: البوابة، والصياد، والبغي. اثنتان من هذه الادوات ترتبطان بانتقاله من الطبيعة الى الثقافة. ويعلل كيرك ان انكيدو واثق ان السبب الرئيسي لموته كامن في انتقاله من الطبيعة(البرية) الى عالم الثقافة(المدينة). لقد كان انكيدو يحتقر الموت عبر المرض والموات بحد ذاته. ويحتمل أن يكون المرض مرتبطا بالثقافة، لذلك لعن انكيدو البغي والصياد لأنهما جاءا به الى المدينة، الى عالم المرض والموت البطيء، بعيدا عن البرية حيث يأتي الموت فجأة قبل الشيخوخة والفساد(اي ان الانسان في البرية هو في صراع مع عوامل الطبيعة والحيوانات). وسواء كان كلكامش يأمل بالاحتفاظ بصديقه أم لا، لتعزيز روابطه بالثقافة، فهو في النهاية يستجيب للواقع بالانتقال الى عالم الطبيعة، رافضا الثقافة كليا. وتتسم افعال كلكامش بالتطرف: كلكامش الذي هو تجسيد للثقافة يرفض عالم الثقافة ويجول في البرية كالحيوان، ليس فقط كحيوان بل ملتحفا جلد حيوان البرية ايضا. وفي عودة كلكامش الى اروك، بعد ان استحم ولبس الثياب النظيفة، اشارة ليس فقط لقبوله بالموت، بل اشارة الى انه لايجوز ان تلام الثقافة بسب المرض ونواحي الفناء الاخرى. او ان الانسان، على الاقل، غير قادر على تجنب المرض والفناء الملازمين للثقافة. كما انه لامبرر لدى الانسان ان يغير حياته كما فعل كلكامش اثناء بحثه عن سر الخلود.
لقد امتد المجال الحضاري العراقي الى جميع المناطق القريبة منه. لقد اصبحت اللغة الاكدية وخطها المسماري، هلي لغة التجار والدبلوماسية الدولية انذلك. وقد استعملها جميع ملوك المنطقة في رسائلهم الخارجية، بما فيهم ملوك مصر.
على الرغم من النتائج القيمة التي جاء بها التحليل البنيوي، هناك ملاحظات وانتقادات عديدة وجهت الى كيرك من قبل المختصين بالعلوم السومرية والاشورية.مثلا، تعتقد ساندرز، الباحثة البريطانية، ان محاولة كيرك البنيوية تختزل انكيدو بممثل للطبيعة وتحيل كلكامش الى ممثل للثقافة. وبذلك يصبح هدف الملحمة تسوية التناقضات او ازالة التوتر القائم بين قطبي الطبيعة والثقافة. كما تؤكد ساندرز ان ربط الانسان المتحضر بالمرض والانسان الطبيعي بالصحة والسعادة ليس الا ضرب من الوهم. وتستند ساندرز، في ردها على كيرك، الى معطيات تاريخية لتؤكد ان انكيدو لم يكن انسانا نمطيا، وشخصيته اغنى من ان تنحصر في حدود الطبيعة. كما تأخذ على كيرك اغفاله لتمايز السياق التاريخي للمجتمعات. فهي تعتبر مقارنته للبئية الثقافية الرفيعة لمجتمعي بابل الالف الثاني و آشور الالف الاول قبل الميلاد بالعالم البسيط لليونان المعاصر لـ هوميروس و هيسيود وهنود البرازيل أمر في غاية الضلال.
"ملحمة كلكامش" و نيتشه
في الوقت الذي تؤكد فيه البنيوية على وحدة التناقض بين الطبيعة والثقافة كبنية اساسية للملحمة، يرى الباحث الاميركي - جان مئير -الذي ترجم "ملحمة كلكامش " بالتعاون مع الروائي الاميركي جان كاردنر) ان الملحمة تنطوي على وحدة الصراع الـ "ابولوني/ديونيسيوسي" التي اعتبرها نيتشه عاملا جوهريا في نشوء التراجيديا اليونانية. وطبعا هذا لايعني ان "ملحمة كلكامش " قد تأثرت بالتراجيديا اليونانية لأن الاخيرة حديثة العهد بالقياس لملحمة الرافدين. انما نظرية نيتشه، التي القت اضواء ساطعة على البنى الخفية للصراع في التراجيديا اليونانية، قد تعيننا ان نفهم بشكل افضل طبيعة الصراع في "ملحمة كلكامش". يمثل "أبولو"، عند نيتشه، ديانة العقل او الوعي، التي تأخذ بمبدأ العلة والمعلول وتخضع العاطفة لسيطرة العقل، في حين يرمز "ديونيسيوس" الى الاوعي الذي يطلق العنان للمخيلة والوهم والحدس(كل ما هو نقيض لمعطيات العقل والمنطق). بالنسبة لـ "أبولو" كل شيء في الوجود ينبغي ان يسخر من اجل المعرفة، بينما يفضل "ديونيسيوس" التجربة لذاتها، والتجربة الديونيسيوسية هي جمعية وطقوسية، والخمرة والرقص وسائل لبلوغ النشوة. واذا كان الانسان الابولوني تهمه الحياة الابدية، فالانسان الديونيسيوسي مهووس بالحيوية الابدية. لذلك البطل التراجيدي هو ذاك الذي يعيش الخطر ويجازف بالكل ليربح الكل، وهو الذي يتحسس ذروة واعماق التجربة. ولكي تكون الحياة جديرة بالعيش، لابد ان يكون الانسان متطرفا في بلوغه ذروة الشعور. فالانسان، حسب هذه النظرية، تتجاذبه قوى الوعي والاوعي، العقل والعاطفة، الواقع والخيال.
يعتقد مئير ان الثنائية الابولونية/الديونيسيوسية لها نظير في "ملحمة كلكامش". يرى مئير ان الاله شاماش هو مثل "ابولو" يأخذ بمبدأ العقل. وكذلك نينسون - والدة كلكامش - تنزع نزوعا عقلانيا في تفسير الاحلام، وتقديم النصائح لـ كلكامش. كما ان شاما ش - بعكس عشتار التي تأخذ بالتجربة الذاتية والشعورية - لايظهر نفسه جسديا ليتحدث الى الابطال، بل يكشف عن حقائقه عبر الاحلام التي تتطلب التعليل والتأويل، أي تستدعي اعمال العقل. ويبدو دور شاماش مدهشا في توعية انكيدو الذي يلعن البغي التي قادته الى المدينة حيث المرض. ونجد في نصيحة شاماش الى انكيدو اجلال لدور العقل الذي يمثله ابولو:
لماذا يا انكيدو تلعن كاهنة الحب، / المرأة التي اطعمتك طعام الالهة، / والتي جعلتك تشرب الخمرة التي
يشربها الملوك، / وكست جسدك بثوب رائع، / ومنحتك كلكامش الوسيم صديقا؟
فيما بعد يكتشف انكيدو ان الحياة المتحضرة التي قدمتها له البغي كانت حياة غنية، فيستجيب مباركا عملها. فالدور الذي يلعبه شاماش وتأثيره في انكيدو يؤكد على اهمية انتصار العقل وقيمه.
أما عن الطور الديونسيوسي فيرى مئير ان اللوح السابع من "ملحمة كلكاش" قد كرس برمته لتصوير حزن كلكامش ومدينة اوروك. ويؤكد مئير ان المرثية الطويلة التي يتلوها كلكامش تعبر عن انتهاء آخر أثر للطور الابولوني وبداية الطور الديونسيوسي، اي طور الشقاء الشعوري. ويصف شاماش هذا الشقاء قائلا :" سيحمل كلكامش علامات الشقاء في جسده وسيرتدي ثياب الكلاب جائلا في البرية ". ان سمة الشقاء والمعاناة الحادة والتحولات الفزيائية التي تظهر على جسد كلكامش، اثناء الرحلة، تماثل شقاء ديونسيوس وتمزيق الجبابرة لجسده -- وهذا الشقاء الديونسيوسي كان، برأي نيتشه، اول شكل تراجيدي عرفته اليونان. كما ان تمزيق الجبابرة لديونسيوس يقدم مجازا يعبر عن عمق التحول في حياة كلكامش الذي خلع ثيابه الملكية وهجر المدينة، وبذلك فقد كل ما يشده الى المجتمع والثقافة. ان هذا التحول في حياة كلكامش هو عودة الى نمط حياة انكيدو السابقة على اقترانه بالبغي. وعند دخول كلكامش البرية واتحاده بها تشبه معاناته بمعاناة قرينه انكيدو. ان رحلة كلكامش هذه هي رحلة جوانية تنقل صاحبها الى ما وراء حدود الثقافة، حيث لاتقيم اعتبارا لموازين العقل والمنطق. هذه التجربة الشعورية تهدم كل ماهو كائن ومتعارف عليه، باحثة عن جوهر دائم لايمكن العثور عليه الا وراء الظواهر. وكالبطل التراجيدي يعيش كلكامش الاخطار ويجازف بالكل ليربح الكل. لذلك في كل هذا يماثل كلكامش الاله ديونيسيوس، ولكن، كما يعود البطل التراجيدي الى حاضرة العقل في التراجيديا اليونانية، هكذا يعود كلكامش الى حاضرة شاماش - ممثل العقل.
وان كنا قد حصرنا بحثنا في تأثير "ملحمة كلكامش " على الأدب اليوناني القديم، الا ان أثر الملحمة استمر فاعلا في اداب الشرق الاوسط حتى بعد سقوط الامبراطورية البابلية عام 539 قبل الميلاد. طبعا ليس هناك ادلة حسية على وجود نصوص للملحمة كانت في متناول الشعوب التي عاشت في المرحلة الهيلنية، ولكن ورود معلومات مشتقة من الملحمة دليل قاطع على انها كانت حية ومختزنة في ذاكرة شعوب الشرق الاوسط التي حافظت عليها وتناقلتها عبر العصور، الى ان تلقفها بعض الكتاب وادخلها في كتاباتهم مع بعض التحوير الناتج عن تغير في اللغات والرؤية الثقافية. فلقد عثر بين مخطوطات البحر الميت، التي اكتشفت في بداية القرن العشرين ويعتقد انها تعود الى القرنين الثاني او الاول قبل الميلاد، على كتاب بالارامية بعنوان - "كتاب اينوخ" - ورد فيه كلكامش وكأنه احد الجبابرة. كما جاء ذكر همبابا(الوحش الذي قتله كلكامش وانكيدو) في "كتاب الجبابرة" الذي الفه ماني في القرن الثاني بعد الميلاد. وبعد ان وضعت ستيفني دالي بحثا مطولا وموثقا عن علاقة ملحمة الرافدين بـ "الف ليلة وليلة"، أكدت فيه عن تأثير "ملحمة كلكامش" على "حكاية بلوقية" التي هي جزء من كتاب "الف ليلة وليلة". وفي القرن السابع بعد الميلاد ذكر ثيودور بار قوني السرياني في موسوعته الدينية بأن كلكامش كان احد الملوك القدماء ومعاصرا لـ ابراهيم الخليل.
ومنذ ان تم اكتشاف " ملحمة كلكامش " في نهاية القرن التاسع عشر عادت من جديد لتلعب دورا هاما في تراث الانسانية، مفجرة طاقات ابداعية في مجالات شتى كالرواية، والمسرح، والموسيقى، والفنون الجميلة. فكما نشأت قصة كلكامش في احضان الواقع الاجتماعي لـ سومر لتتحول، في تفاعلها مع واقع اشور وبابل، الى ملحمة متكاملة فنيا وفلسفيا، لتحرض على ولادة ملاحم اخرى لدى شعوب اخرى، هكذا صار دور الملحمة حديثا. اذ أخذت الترجمات الحديثة توحي للكتاب والفنانين والموسيقيين الغربيين بابداع روائع جديدة. ان الملحمة التي تحرض على الخلق باستمرار لابد ان تمثل بذاتها عالما ينطوي على قوى ديناميكية ذي ميزة ازلية تخترق حدود الزمان والمكان، لتتجلى ابعادها في ظواهر تاريخية وثقافية مختلفة توحي للكتاب والفنانين باعادة صياغة مداليلها وفق اشكال جديدة متلازمة وشروط حياتهم الاجتماعية والثقافية والفكرية. وهذا يفسر ما قاله البرت شوت بعد ترجمته لـ "ملحمة كلكامش" الىالالمانية. اذ كتب يقول: "ان سعيك للحصول على معنى الملحمة هو كسعيك لفهم العالم ". أي ان معنى "ملحمة كلكامش"، وان ظل الكتاب والفنانون يحاولون استكنائه، الا انه سيظل ذلك المعين الذي لاينضب ولا تعرف له حدود.
أثر "ملحمة كلكامش" في الأدب الغربي
كثيرا ما يعتمد كتاب الغرب على التراث اليوناني القديم في اختيار عقدة قصصية، او شخصية اسطورية لها طاقة رمزية تستجلي مصير الانسان عامة في تجربة الانسان الخاصة، مؤكدة على استمرارية الاسطورة في التاريخ. ولكن "ملحمة كلكامش" قد شغلت اهتمام الادباء الغربيين ليس فقط من خلال عقدتها او شخوصها، بل حتى من خلال رؤيتها الفلسفية، تلك المعاناة الانسانية التي اعتبرها ريلكه --الشاعر الالماني -"اعظم شيء يمكن ان يختبره الانسان". واليوم نحس بحضور هذه المعاناة البابلية في الرواية الاميركية. يقول جان مئير عن رواية "حوارات في ضوء الشمس"(1973) للروائي الاميركي جان كاردنر: "ان فكر الرافدين يطغي على هذه الرواية. انها تحتوي على اوضح ما كتب كاردنر عن كلكامش، وان جاء ذلك عبر شخصية قصصية. ان احداث "حوارات في ضوء الشمس" تقع في بتافيا التابعة لولاية نيويورك، لكنها مرتبطة بأربعة الاف سنة من حضارة الرافدين. وأحد شخوص الرواية - رجل ضوء الشمس - مقتنع ان الحضارة الغربية آخذة بالتدهور، ويرى ضرورة تخطي التقاليد اليهودية-المسيحية واليونانية-الرومانية والاخذ بقيم بابل القديمة لمواجهة ما يجري في مجتمعنا الحديث ". ويخلص بطل كاردنر الى الحقيقة التالية : " عندما تتلاشى كل اوهام الخلود الشخصي يبقى هناك فعل واحد وهو حماية حرية الفعل، لأن الفعل هو الحياة ".
أما قصة هيربرت ميسون، التي تحمل عنوان "كلكامش(1970)"، واعيد نشرها عدة مرات، فتختلف عن رواية كاردنر في انها اتخذت عقدتها وشخوصها وحتى مضمونها الفكري من " ملحمة كلكامش". في الواقع، ليست قصة ميسون اكثر من صياغة جديدة لملحمة الرافدين، ولكن باسلوب حديث يجمع بين الشعر والنثر. ويعترف ميسون بانه كتب قصته نتيجة معاناة شخصية. وفي حاشية ارفقها بقصته يقول: "عندما قرأت الملحمة لأول مرة شعرت بجرح داخلي آخذ بالظهور. كان والدي قد توفي وانا في السابعة. ولأن موته كان فجيعة لي، فلم اتمكن من اعتاق نفسي من الانشغال بالموت حتى ان بلغت الصبا. وفتح هذا الجرح ثانية حين عدت الى جامعة هارفرد واكتشفت "ملحمة كلكامش ". ثم يتحدث ميسون قائلا: "لقد اعدت كتابة قصة قديمة، وحاولت ان امزجها بفيض من العاطفة والمباشرة والحكمة المميزة التي اكتسبت ". ويذكر جان ماركس في تقديمه لقصة ميسون : "أن انجاز ميسون الرائع يكمن في اعطاء تفسير لـ "ملحمة كلكامش" غير متناقض والنص الاصلي، ولكنه يركز اشعاعات قوية على السؤال المركزي المتعلق بالموت". هذا ويشير ماركس الى ان الكاتب السويسري باخمان وضع رواية بعنوان "كلكامش" بعد ان شعر ان معاناته الخاصة هي صدى لمعاناة كلكامش القديم.
والرواية الاخيرة التي استوحت "كلكامش" كانت للكاتب الاميركي روبرت سيلفيربيرك الذي حاز على جائزة نيويورك لاربع مرات وعلى جائزة هوغو لمرتين. نشرت رواية سيلفيربيرك عام 1984 تحت عنوان "الملك كلكامش". يصف سيلفربيرك روايته قائلا: "كنت معنيا بـ كلكامش التاريخي، ولكن اهتمامي بشخصيته الاسطورية التي صارت بطلا لاقدم نص تراجيدي في العالم لم يكن أقل اهمية ". كمحاولة لتجذير احداث الملحمة في اطار تاريخي، اعتمد سيلفربيرك على سجلات الحفريات والمصادر المكتوبة، وقائمة ملوك السومريين، واساطير سومرية عديدة، فضلا عن النسخة البابلية للملحمة. وفي محاولة لاضفاء واقعية على الاجواء الاسطورية، أخذ سيلفيربيرك بالاسلوب الواقعي في سرد الاحداث، فجاءت الرواية وكأنها مذكرات وضعها كلكامش نفسه. وفي هذه المذكرات نعثر على الكثير من المعلومات التاريخية التي تتعلق بطفولة كلكامش ومعاناته الاولى للموت. و يستحضر الروائي كلكامش طفلا من ملعبه لحضور مأتم والده لوكالبندا. هذا ويستعرض سيلفيربيرك - خلال الفترة الواقعة بين الطفل كلكامش الذي يخشى الموت) موت ابيه)وكلكامش الملك الوقور- قصة داموزي الذي يلاحق لوكالبندا ويصبح خطرا على كلكامش الذي يلجأ الى أكا ملك كيش. وبذلك يعطينا سيلفيربيرك فكرة عن خلفية كلكامش وعلاقاته وحروبه مع جيرانه في الشمال. وبعد هزيمة أكا تنحرف الرواية باتجاه احداث الملحمة البابلية حيث كلكامش يأمر ببناء اسوار مدينة اوروك. واثناء تتويج داموزي، يلتقي كلكامش بفتاة من اتباع أنانا وتصبح قوة اساسية في حياته، اذ يلعب حبه وكرهه لها دورا كبيرا في تحديد مسار حياته. وتنتهي مذكرات كلكامش بعد سنوات من زيارته لأوتونبشتم وعودته الى قصره. لقد ازال سيلفيربيرك الهالة الاسطورية عن قصة الطوفان ليقدم معاناة كلكامش وكأنها معاناة عصرية يخرج منها كلكامش متحررا من عقدة الموت وشاعرا بسلام داخلي. وتوحي الخاتمة بأن كلكامش قد توصل الى قناعة بأنه لابد من القبول بالحدود التي رسمت له كانسان.
ككل الروائع العالمية التي تشغل اهتمام الكبار والصغار، شقت ملحمة الرافدين طريقها الى ادب الاطفال. قامت برناردا برايسن - الكاتبة الاميركية - بتحويل "ملحمة كلكامش" الى قصة للاحداث، نشرت عام 1969 تحت عنوان "كلكامش : قصة أول انسان ". اعتمدت برايسن، في كتابة قصتها، على مراجع عديدة، منها تاريخي، واسطوري، وأدبي، وزودتها برسوم توضيحية. وفي محاولة لتعميق مفهوم الصداقة بين كلكامش وانكيدو أضافت قصة هبوط كلكامش الى عالم الاموات ليلتقي بصديقه ويموت الى جانبه.
تقسم برايسن قصتها الى فصلين : الاول يدعى "مزاج الآلهة" والثاني "تجوال كلكامش"، وفي الجزء الاول تقوم بتعّريّف المكان والزمان والشخوص تمهيدا لتقديم معاناة شعب اروك المنهمك في بناء اسوار المدينة. ثم تتجلى تلك المعاناة، بشكل حسي، في شكوى الشعب من قلة العمل وانتشار الظلم والقرف، فتستغل عشتار ذلك الوضع وتحيل الشعب الى الالهة ارورو التي تصنع انكيدو من الطين وتبعث فيه الحياة. وبعد ذلك يتبع الحدث القصصي في تطوره السياق العام للملحمة. غير أن برايسن لاتتردد في ادخال بعض الاضافات المشوقة كمجيء الراعي الذي يشكو لانكيدو من اسد دخل حظيرة ماشيته وأكل بعضها، فيذهب انكيدو ويمسك بالاسد ويطرحه ارضا دون ان يقتله، ثم يطلق سراحه ويبدا بالاهتمام بالخراف الجريحة. واتسم رسمها للشخوص والاحداث بالواقعية التي تجلت بالتفاصيل الدقيقة التي استوحتها من كتابات الرافدين، كما عمقت احساس القاريء بانسانية انكيدو من خلال رفضه لقتل الاسد وعطفه على الحيوانات الجريحة. وأولت اهتماما خاصا بالتحولات النفسية عند كلكامش المعني بقضايا شعبه. نلمس مثل هذا التحول في قتل كلكامش لثور السماء وتوزيع لحمه على شعب اروك. كما ان التقنية القصصية التي اعتمدت اسلوب الوصف الذي تتخلله مقاطع حوار درامية قد اضفت حيوية فريدة على النص واعتقته من رتابة الافراط في الوصف. أما التركيز على قيم الصداقة، والتضحية، والمحبة، والتعاون فقد جعلت من قصة برايسن احدى روائع أدب الاحداث في اميركا.
ومن ضمن أدب الاطفال قامت لودميلا زيمان الكندية بكتابة قصة للاطفال، مستوحية عقدتها واحداثها من ملحمة الرافدين، ونشرتها دار توندورا بوكس بعنوان "كلكامش الملك ". ولأن المؤلفة تتوجه لاطفال لاتتجاوز اعمارهم سبع سنوات، فلقد بسّطت العقدة القصصية واختزلت احداثها دون التفريط بعناصر التشويق، والاثارة، والمفاجئة التي رافقت القتال بين كلكامش وانكيدو، القتال الذي ينتهي بصداقة يعز نظيرها، ويتوج في خروج كلكامش من عزلته الخانقة بعد استدراكه للاخطاء التي ارتكبها بحق شعبه، وعلى أثر ذلك يكرس كلكامش حياته، بالتعاون مع انكيدو، لخدمة الشعب ورفهايته. بالرغم من قصر النص وتبسيطه تمكنت الكاتبة ببراعة فذة ان تمد القاريء الصغير بالدوافع والمبررات الازمة للتحولات النفسية والاخلاقية عند الشخوص القصصية. والجميل في هذه القصة هو الدور الذي لعبته شامهاة، كاهنة المعبد، التي تسببت في خروج انكيدو من عالم الحيوان وتأنسنه. أعطت المؤلفة لـ شامهاة دورا كبيرا، اذ كان لها حظور دائم ومشاركة فعالة في احداث القصة. بالاضافة الى النص هناك رسوم توضيحية ترافق الاحداث في كل خطوة وتعوض عما يسهى عنه القاريء الصغير. ولكي تعمق شعور الصغار بقدم النص استوحت الكاتبة في رسومها الخط المسماري وفنون النقش النافر والنحت والعمارة لحضارة آشور وبابل.
لقد اتى الآثاريون الاوربيون الى العراق وهم يحملون(التورات) لكي يثبتوا صحة حكاياتها عن سليمان وداوود وومملكة اسرائيل العظيمة التي خضعت لها الجن والانس، وعن وحشية اهل بابل ونينوى وتخلفهم.. لكن الصدمة الكبيرة كانت انهم وجدوا كل ما هو معاكس تماما للاساطير التوراتية!!
أثر "ملحمة كلكامش" في المسرح الغربي الحديث
ليس بالأمر الغريب ان نجد عملا كـ "ملحمة كلكامش " يثير اهتمام كتاب ومخرجي المسرح الغربي الحديث لأن هذا النص يتميز بخصائص درامية ومسرحية هائلة. وهناك الآن بعض الادلة التاريخية التي تزعم ان الملحمة كانت تعرض على الخشبة. ذكر روبرت تمبل، الذي ترجم "ملحمة كلكامش" الى الانكليزية شعرا، نقلا عن بعض علماء الاثار ان أميرة علامية ذهبت الى ارمينيا للزواج من ملكها. ورافقتها في الرحلة فرقة قدمت عرضا لـ "ملحمة كلكامش " في حفلة زفافها. والنص العلامي، على حد قول تمبل، هو على شكل مخطوطة مسرحية، ومعظم ما هو محكي ينطق به كورس. وهناك مبررات جوهرية اخرى سهلت حديثا أمر تحويل الملحمة الى مسرحية، نذكر منها قصر النص الذي لايتطلب تمثيله اكثر من ساعتين، خلوه من الوصف المطول والسائد في الادب الملحمي القديم، كثرة الحوار، والمشاهد الحسية التي يسهل عرضها على الخشبة، قلة الشخوص وتنوع تكوينها النفسي، ومحدودية مكان الفعل. والبعد الدرامي الآخر يتجلى في تعددية انواع الصراع :هناك صراع عامودي بين كلكامش والالهة أنانا، صراع افقي بين كلكامش وانكيدو، صراع سيكولوجي داخلي بين كلكامش وذاته، لاسيما بعد موت انكيدو. واذا درسنا نص الملحمة على ضوء نظرية أرسطو للتراجيديا لوجدنا ان " وحدة الفعل " التي اعتبرها أرسطو أهم عنصر في الدراما تشكل المحور الاساسي للملحمة. ولا يعني ارسطو بوحدة الفعل مجرد حدث او سلسلة احداث، بل ذلك الدافع الرئيسي الذي يحرض الشخوص على فعل يتطور عبر الزمان والمكان باتجاه هدف محدد. وهذا الهدف هو السمو الذي يتجلى في محاولة كلكامش المستمرة لتجاوز ذاته. ونجد في الملحمة عناصر درامية اخرى كالمفاجأة والترقب والتشويق، فضلا عن عنصر "النقض"، الذي يحيل كل ما هو موجب الى سالب. كما يعتبر ارسطو ان العنصر الاخير وسيلة درامية هامة لانها تكشف للبطل المنتشي بانتصاره دون ان يعلم انه يسير الى خيبة او هزيمة مرتقبة. وهذا الانتقال من الموجب الى السالب يتجسد في الملحمة بالافعى التي تسرق نبتة الخلود من كلكامش وهو في اوج انتصاره، وبذلك تستحيل كل انجازات كلكامش الى خيبة، ولكنها خيبة كل ابطال التراجيديا الذين لابد ان يواجهوا الحقيقة ويقبلوا بها.
منذ بداية الثمانينات قدم المسرح الاميركي - في ولاية نينورك وحدها - لا اقل من عشرة عروض لـ "ملحمة كلكامش ". كانت هذه العروض لفرق طليعية واختبارية تعمل على تخطي المسرح التقليدي الذي كرسته برودواي. ولكن أول عمل مسرحي متكامل كان للشاعر الكندي - ميشيل كارنو - الذي وضع مسرحيته الشعرية "كلكامش" بالفرنسية وذلك عام 1970، وتم اخراجها في مونتريال عام.1972 كان كارنو في كتابته لمسرحيته حريصا ليس فقط على روح النص البابلي بل ايضا على تقنيته. لذلك جاءت مسرحيته مشحونة باجواء الشعائر الموحية بالطقوص القديمة والمتداخلة مع روح الحكاية التي تجسدت بالحكواتي. ولكي يضع جمهوره في تماس مع معاناة كلكامش ادخل كارنو الحوار الدرامي في ثنايا النص فجاء متناغما ونسيج الشعائر والحكاية اللتين تتميز بهما الملحمة.
قدمت فرقة(Growing Theatre) اول عرض مسرحي لـ "ملحمة كلكامش" في 13 كانون الاول عام.1975 اعتمد الاخراج على الحركات الايمائية كوسيلة لرسم الشخوص واثارة الدلائل والمعاني. كما لعب الرقص الحديث دورا هاما في تحديث العمل، اما بعض الاحداث الخارقة التي تخللت العرض فقد اضفت عليه سمات الاثارة والتشويق. أما العرض الذي قدمته فرقة(Direct Theatre) النيويوركية في 8 ايار 1975، فجاء اكثر تكاملا، اذ استخدم المخرج الانماط التجريبية التابعة لفترة الستينات دون ان يقع في فخ الكليشيهات المملة. نوهت جريدة "ذي ويستسايدر" بهذا العرض قائلة : "كان كل شيء ناضجا وملازما للنص، الامر الذي خلع على العرض هالة الاعمال الكلاسيكية ومعانيها دون السقوط في هوة الادعاءات. ان هذا الاخراج الجريء اعاد بناء المسرح برمته ليقوم برسم ابعاد شعائرية تثير الاحساس بمكان لاحتفالات طقسية قديمة، وهذا ادى الى خلق مكان رائع لاداء الممثلين عز نظيره في نيويورك".
وفي تشرين الاول من عام 1981 قدمت فرقة(The National Theatre of the Deaf) على خشبة مركز الفنون التابع لمسرح جامعة ولاية نيويورك. وفي هذا العرض استعيض عن الحوار بالايماء والاشارة والحركة، فكانت االمسرحية سلسلة من المشاهد المتحركة. أما عرض فرقة(Charas' Teatro La Terraza) في تشرين الثاني من عام 1982 فكان مجموعة متكاملة من مشاهد قصيرة ولكن شيقة. كان اداء الممثلين مؤسلبا، واستخدمت الاقنعة بغية تحويل بعض الممثلين الى شخوص مثل همبابا وثور السماء. كما تمكن المخرج ان يوحي بغابة همبابا عبر اربعة ممثلين وقفوا، بلا حركة، على شكل لفافات خضراء.
وفي شهر تموز من عام 1984 عرضت مسرحية "كلكامش" في متحف "المتروبولتن " للفن في نيويورك. قامت بهذا العمل فرقة(New York Open Center) التي تشرف عليها المخرجة بيفا روستن. اعتمدت المخرجة في صياغة النص على ترجمة سنادرز للملحمة. كان عملها نسيجا من الحكاية، والحوار، والحركة المؤسلبة. واستخدم الايماء في بعض ما كان يرويه الحكواتي، وتم توظيف اداء الممثلين ليس فقط لنقل انفعالات داخلية بل كاداة لخلق الديكور وخلفية الحدث. استفادت المخرجة كثيرا من الفنون التشكيلية، ولكن دون ان تستخدم موادها، اذ كانت حركة الممثلين هي التي تقوم بدور الفنون التشكيلية في رسم المشاهد. وكانت الاقنعة التي صممتها باربرا بوليت صورا ممسرحة ومعمقة عن فن الرافدين. لم يكن هم المخرجة التقيد بحرفية النص، بل ارادت ان تخلق جوا يماثل في تاثيره ما كان للنص الاصلي على جمهور الرافدين. واعيد عرض هذا العمل ثانية في اذار من عام 1986 ولقي اقبالا جيدا.
مسرحية (كلكامش) في مسرحية انكليزية في الـ(الهايدبارك)..
أثر "ملحمة كلكامش" في الموسيقى الغربية الحديثة
ليس هناك من فن نزع الى التجريد اكثر من الموسيقى. ففي الموسيقى نجد اللغة قد تحررت من قيود الدلالات والمعاني المحددة التي يسقطها الانسان على الالفاظ. فالموسيقى، بمعنى آخر، هي اللغة قبل ان تتقولب وتنال من مطلقيتها حتمية المعاني اللفظية. ومجازية "ملحمة كلكامش" كمجازية الموسيقى لها طاقة ايحائية، الا انها تتجاوز محدودية الموحى به. ومن هنا شغف موسيقيين أمثال نيقولاي بيرزوسكي، و بوسلاف مارتينو، و الفرد بوهل، بالملحمة البابلية. وضع بيرزوسكي مقطوعته "كلكامش" عام 1947، وقدمت في صالات الموسيقى الاميركية. أما مارتينو التشيكي فقد الف مقطوعته الموسيقية "ملحمة كلكامش" عام 1958 قبل وفاته في سويسرا عام 1959، وظهرت مقطوعة يوهل النمساوي عام 1956، الا انه اعاد نسخها بين عامي 1968 و.1969
هناك مجالات اخرى كالفنون التشكيلية وقعت بدورها تحت تأثير "ملحمة كلكامش"، ولكن الاطلاع عليها يقتضي القيام بمسح شامل لكل ما انجز حول العالم، اذ هناك بعض الفنانيين الذين وضعوا بعض اللوحات من وحي الملحمة البابلية. يقال، مثلا، ان الفنان الايطالي دينو كافاليري قد رسم لوحات عديدة بوحي من قراءته لـ "ملحمة كلكامش"، ولكن لم يتسنى لي رؤيتها.
كثيرا ما تقف الترجمة عائقا بين الخصوصية اللغوية والقومية للاثر الادبي والشعوب المتلقية له، الا ان الترجمات المتعددة لـ "ملحمة كلكامش" لم تقف عقبة في انتشارها، لأن هذه الملحمة تستمد اصالتها من الافاق الانسانية وليس من التقاليد الادبية وحدها، لهذا خرجت من سجن الترجمة منتصرة، وانفتحت على كل لغات العالم لتفجر فيها ابداعات متميزة وتمد شعوبها برؤى جديدة. ان تجاوز ملحمة الرافدين للحدود الجغرافية والثقافية واللغوية يماثل تجاوز كلكامش لذاته، وانفتاح الملحمة على شعوب العالميشبه انفتاح كلكامش على الآخر محبة وعطاء وسموا.
*استاذ جامعي سوري ـ امريكا