(ميلانو، 29 أيلول 2010)
«الدّوم»، الكاتدرائية الباذخة. الى جوارها، في ساحة القصر الملكي، أعمالٌ للفنان الإيطالي ماركو روتيللي: صخورٌ بيضاء كبيرة تحتضن أقوالاً حُفِرت عليها باللون الأسود كلماتٌ لشعراء يحبّهم. بينهم أندريا زانزوتو، ديريك وولكوت، ياغ ليان، سانغوينيتي، أدونيس. على الصخرة الخاصة بأدونيس نُقشت عبارةٌ له، هي التالية: «الهواء مِنديلُ العُشب».
*
كلما رأيت كاتدرائيةً في بلدٍ أوروبي، أتذكّر قول الشاعر مالكولم دو شازال: «لولا المسيح، لكنا نُصبح كلّنا يهوداً مئةً بالمئة».
هل في هذا القول ما يجعلنا نفهم بِيُسرٍ عمل السياسة «الثّقافية» اليهودية على «محْو» المسيحية في الغرب، أو على إفراغ «الغرب» من بُعده المسيحيّ الخَلاّق، بشكلٍ أو آخر، بطريقةٍ أو أخرى.
أتساءل للمناسبة: هل ما يصحّ على الغرب، في هذه السياسة يصّح، بمعنىً ما، وفي مستوياتٍ وأُطُرٍ مختلفة، على العرب أيضاً؟
وهل العرب، في هذا السياق، هم «مسيحيو» السياسة الثقافيّة اليهوديّة في الشّرق العربيّ؟
*
تموت الأديان، إمّا بقوّة الجهل، وإمّا بقوّة العلم.
في الحالة الأولى، عندما تتحول الأديان الى مجرّد شعائرَ وطقوس وإلى مجرد تحليلٍ وتحريم.
في الحالة الثانية، عندما ترفض الأديان قبول الحقائق التي تكشف عنها المعرفة العلميّة.
*
الكاتدرائية في ميلانو (الدُّوم) ذاكرة تاريخيّة غامرةٌ، جماليّاً ودينياً. غير أنّها في الوقت نفسه، حضورٌ حيّاتيّ، فعّالٌ وآسِر.
هكذا، لا نشعر أن الذّاكرة هي التي تُهيمن على الحياة في ميلانو على العكس: نشعر أنّ ما يُهيمن يتمثّل في الحاضر الحيّ، المتعدّد، المشعّ. ونشعرُ أن هذا الحاضر مسكونٌ بهاجسِ المستقبل.
*
أعود الى مالكولم دوشازال يقول: «للذاكرة خمسة مداخل هي الحواسّ الخمس، وليس لها إلاّ مخرجٌ واحد هو المخيّلة».
قولٌ نُدرك في ضوئه مدى حاجتنا، نحن العرب، الى الخروج من الذّاكرة، ومدى افتقارنا الى المخيّلة. وهي ظاهرة تكاد أن تأخذ اليوم شكل الكارثة: لا تفعل ذاكرتنا اليوم إلاّ قَتلَ المخيّلة. وأعني قَتلَ المستقبل.
بقدر ما يفقد الإنسان مخيلته، يفقد الجوانبَ الإنسانيّة الخاصة التي تميّزه عن بقيّة الكائنات.
*
شابّان في ساحة الكاتدرائية (ذكرٌ وأنثى) يتعانقان.
يبدو أنهما يجهلان السحر الخاصَّ بالقُبَل.
قبلةٌ لا تمتزج بالرّيق، أو لا يسبح الرَيقُ فيها، خبزٌ بلا ملح.
خالد سليمان الناصريّ، شاعرٌ فلسطيني شابٌ، لاجئٌ، يقيم في ميلانو، «موقّتاً».
من كل جارحةٍ فيه، تتقطّر فلسطين وتتقطّر العروبة، حيَرةً وعذاباً، وتيهاً.
غير أن هذا الشعرَ مأخوذٌ بالمستقبل، وتلك هي قوّته التي لا تُغلبَ.
*
«الدّوم» تلبس جُبّةَ المساء:
ماشِياً، يُصافح القمر فضاءَها.
جالسةً، تصافحه الشّمس.
*
بأغصانها، تتنزه شجرة الزيتون - مزروعةً في حوضِ اصطناعيٍِ، قريبٍ الى الدّوم. «عرِقٌ» من المتوسط، يَنغرسُ في تُربةٍ شماليّة.
للفضاء الذي تتحرك فيه الأغصانُ شكلُ دائرةٍ مُغلقة.
تعبُر الآن قربها امرأةٌ يُشبّه لي أنها وردةٌ حمراء - أرى عينيها، لكنني لا أرى شفتيها. كأنّما حجبتهما الحمرة.
حين تصبح الحمرة غطاءً كثيفاً على الشّفتين، تبدو كأنّها حجابٌ أسود.
*
سرب أطفالٍ يصرخون في ساحة «الدّوم».
يُحبّ الله المناجاة، أو هكذا يؤكّد أهل الإيمان. أفلا يعني ذلك أنّه يكره الصّراخ؟ لماذا، إذاً، نكذب عليه ونقول إنه يحبّ الأطفال؟
*
ساحة «الدوم» حبلُ سُرّةٍ يصِل جسم المدينة بوجه السماء.
كان لقمر تلك الليلة، 29 أيلول 2010، حواجبُ تنتشر فوق المدينة كمثل مِظلاّتٍ تستظلّ بها أعضاؤها التي أضنتها شمس النّهار.
*
ساحة «الدّوم» - صدر الأفُق ينحني عليها، فيما كانت «صخورُ» ماركو روتيلّلي، في ساحة القصر الملكي، تمشُطُ شعرها بيد ريحٍ خفيفةٍ، وفيما كانت الشّمس تضعُ قدميها على عتبة الغروب.
*
تعلوُ الأصواتُ في ساحة «الدّوم» كمثل كُرَاتٍ بيضاء تتقاذفُها أقدام الفضاء.
*
تسيرُ لذَّةُ النظر في شوارع ميلانو فوق سلالِمَ يمدّها الجمالُ على واجهات المتاجر، وعلى قامات النساء.
نبضُ هذه الوردة بطيءٌ.
لا تضعيها على صدركِ. إحذري العدَوى.
*
كلّ مكانٍ هجرةٌ. وكلّ شيءٍ كائنٌ للهجرة.
لماذا تكرهين المهاجرين؟
الكراهيةُ سكينٌ تحت العُنقِ لا تجرحُ، غالباً، إلاّ من يحملها.
*
لا أشعرُ بعجزي الكامل إلاّ أمامَ الصِّغار من البشر، وأمامَ الصغائر:
قلت لصديقةٍ من ميلانو تُحبّ أن تمتحن دائماً قُدرتي على المُجابهة.
*
عُصابُ ازدراء الآخر المختلف، وبخاصّة دينيّاً، وبأٌ ينتشر في أوروبا. غير أنّه مُنتشرٌ أيضاً في بعض أوساطِنا، نحن العرب.
*
كان الحوارُ بينهما غاضِباً.
لو كنتَ أيها القارئ تُصغي اليهما، لأيقنتَ مِثلي أن الجمالَ يقبحُ عندما يغضب.
الأنوثة لا تُشبه الذّكورة في شيءٍ، كما تُشبهها في الغضب، عندما تغضب المرأة الجميلة، تفقد هويّتها: تتحوّل الى رجل.
هل سأَنسى هذا الحوار، تلك الليلة، في ميلانو؟
*
الشخص الذي تُسيطر عليه العادة، يتعطَّل إحساسُه بالجمال. العادة محوٌ للجمال.
مهرجان الأزياء الأخير في ميلانو زادني يقيناً بهذا الذي أقوله الآن.
*
الغابة الصغيرة أمام فندق مانين، حيث أقيم، أوركسترا يقودها ليلُ ميلانو.
*
الساعة العاشرة، صباحاً، أتناول القهوة، منتظراً، في بار الفندق.
أحياناً، عندما أشرب القهوةَ، أشعر كأنني أمارس نوعاً من العبثِ الهانئ في سرير الضّجَر.
وكنتُ قد استيقظتُ، الساعة السابعة، متذكّراً صِبايّ الذي تبعثر في حقول قصّابين، مُطمئناً الى ما ثبت عندي في التجربة:
لا تُمجِّد المرأةُ إلا الحبّ، وتكرهُ أن يُمجَّدُ الرجلُ إلا ّ بين أحضانِها.
أدونيس
(الحياة)