مقارنة بليغة
معلوم أن مجموع سكان اندونيسيا لا يختلف كثيراً عن مجموع سكان البلاد العربية.
والاندونيسيون يعيشون مبعثرين على عدة آلاف من الجزر الكبيرة والصغيرة. ومع ذلك استطاعوا أن يؤلفوا دولة واحدة قوية وموحدة.
في حين ان العرب ألفوا العديد من الدول، ولم يستطيعوا ان يجدوا إلى الوحدة سبيلاً ، وهم يعيشون الآن منقسمين إلى ثلاث عشرة دولة داخلة في هيئة الأمم المتحدة [ ألف الحصري كتابه هذا عام 1963 ، وقد ازدادت عدد الدول العربية منذ ذلك الحين فأصبح 21 دولة ( المحرر) ] ، فضلاً عن المشيخات والإمارات والسلطنات التي تعيش على هامش الحياة السياسية.
لماذا؟
لماذا استطاع الاندونيسيون أن يتحدوا في دولة واحدة في الوقت الذي بقي العرب منقسمين إلى دول عديدة؟
ما هي أسباب هذا التباين الكبير الذي حصل بين أحوالنا نحن العرب وبين أحوال الاندونيسيين، من حيث الوحدة وعدم الوحدة؟
هل الاندونيسيون أرقى منا ثقافة وعلما وحضارة؟
هل هم متفوقون علينا من حيث روح التضحية والفداء؟
هل هم أغنى منا برجال من ذوي الكفاءات العالية، في الإدارة وفي السياسة؟
إن كل ما هو معلوم عن أحوالنا وعن أحوالهم، يحملنا على الرد على هذه الأسئلة بالنفي البات:
كلا... إن الاندونيسيين لا يتفوقون على العرب، في أي ميدان من
هذه الميادين.
فلا مجال منطقياً لتعليل ما بيننا وبينهم من تباين عظيم في ميدان التكوين السياسي، بأمثال هذه الأمور.
وأما الأسباب الحقيقية لهذا التباين، فتعود إلى إختلاف الظروف التاريخية التي لازمت تكوين كل من الدولة الاندونيسية والدول العربية، في العصر الحديث.
إن التفاصيل التالية تظهر هذه الحقيقة بكل وضوح وجلاء:
إن البلاد الاندونيسية، استعمرتها دولة أوروبية واحدة هي هولندا. والاندونيسيون عاشوا عدة اجيال، خاضعين أو مخضعين للاستعمار الهولندي . وعندما أخذوا يثورون على الاستعمار، كانوا يثورون على الدولة الواحدة، ثورة موحدة.
وعندما تتوجت ثوراتهم هذه على الدولة المستعمرة المذكورة، كان من الطبيعي أن تتولد منها دولة وطنية واحدة.
وبتعبير آخر: ان الثورة الاندونيسية انتزعت الحكم والسلطان، مرة واحدة، من دولة مستعمرة واحدة، ولذلك كوّنت دولة أندونيسية واحدة.
وأما البلاد العربية، فقد نكبت باستعمار دول أوروبية عديدة : فرنسا وانكلترا، في الدرجة الاولى، وايطاليا واسبانيا في الدرجة الثانية. وهذا الاستعمارأنشب مخالبه في مختلف أجزاء البلاد العربية، في أزمنة مختلفة، وفي ظروف متباينة، وبأشكال متنوعة.
وكانت هذه الأشكال متنوعة جداً : من الاستعمار المباشر والسافر، والاستعمار المقنع بقناع الحماية الرسمية، أو الاحتلال الموقت، إلى الانتداب والوصاية، المقترنة بقرارات عصبة الامم المتحدة. وصار كل جزء من أجزاء البلاد العربية يكافح الاستعمار المسلّط عليه ، بوسائطه الخاصة، في أوقات مختلفة تبعاً للفرص المتاحة له، ضمن شكل الإستعمار المفروض عليه.
وأدّت ثورة كل جزء من أجزاء البلاد العربية إلى تكوين حكومة وطنية، تتمتع باستقلال جزئي، مقيد بقيود عديدة، مقترنة باحتلال عسكري فعلي.
وصارت هذه الحكومات الوطنية تتدرج من الاستقلال الجزئي المقيد، إلى الاستقلال التام الناجز، بوسائطها الخاصة، وبفضل جهود أهاليها، ومستفيدة من الفرص المؤاتية لها... وكل ذلك في أوقات مختلفة، معظمها متباعدة.
ولذلك كله تكونت في البلاد العربية، دول عديدة...
هذا هو السبب الأصلي في انقسام البلاد العربية إلى دول عديدة، خلافاً لما حدث في اندونيسيا.
دوافع الإقليمية
بعد أن تبينا أسباب تعدد الدول العربية ، يجدر بنا أن نتساءل : لماذا لم تتوحدهذه الدول العربية، بعد تكونها؟ ولا سيما بعد تحريرها من السيطرة الأجنبية تحريراً تاماً ، وبعد استقلالها استقلالاً ناجزاً ؟
إن أسباب ذلك جلية واضحة، لا يمكن أن تكون مدار جدل أو خلاف :
إن كل دولة من الدول العربية التي تكوّنت ثم استقلت في أوقات وظروف متباينة- كما أسلفنا- صارت مركزاً ،- بل بؤرة لوطنية خاصة بها، وأخذت تستقطب ولاء الأهلين لها. ولذلك تولد في كل واحدة منها نوازع المحافظة على الكيان السياسي القائم . وما نسميه اليوم باسم الاقليمية ما هو إلا مجموع هذه النوازع التي تعمل في اتجاه يخالف مقتضيات الوحدة العربية، وتعرقل إنطلاقها.
ويتبين من ذلك: ان الاقليمية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالدولة، فتكون نتيجة طبيعية لتعدد الدول العربية.
أقول نتيجة طبيعية، لأن الحياة السياسية الداخلية والخارجية في الدول القائمة، تغذي بطبيعتها النوازع الاقليمية.
لأن لكل دولة من الدول القائمة معالم خاصة، مشهودة وملموسة، وسلطات فعلية تظهر وتثبت وجودها بشتى المناسبات. لكل دولة علم خاص بها، وشرطة خاصة، بملابس وشارات خاصة، وجيش خاص، ونشيد رسمي خاص، وأوراق هوية وجوازات سفر وأوراق نقدية ونقود خاصة...
وبتعبير أقصر: ان لكل دولة من الدول العربية القائمة سلسلة من الامور الخاصة بها ، يراها كل فرد من أفرادها منذ نعومة أظفاره، ويألفها، ويرتبط بها نفسياً ، ويشعر من جرائها بأنه يختلف عن غيره من منتسبي الدول العربية الأخرى . وأما فكرة القومية العربية- عند تعدد الدول- فتكون محرومة من أمثال هذه المعالم المادية الملموسة. وتبقى في حالة نزعة معنوية، تجول في الخواطر وتختلج في الصدور، فلا تجد أية مساعدة من طبيعة الحياة الادارية والسياسية القائمة، بل قد تجد منها معارضة شديدة، وتصطدم على الدوام بالنوازع الاقليمية.
وفضلاً عن ذلك، فان هناك عوامل كثيرة تقوي وتنمي النزعات الاقليمية، على حساب الروح القومية.
لأن الدولة تسن القوانين، وتنظم الاقتصاد، وتتولى التربية والتعليم، وتوجه الثقافة والاذاعة... وتراقب الصحافة... ولذلك ينتج من تعدد الدول وإختلاف اتجاهاتها، الشيء الكثير من الفوارق الجديدة، من هذه الوجوه المختلفة، بين منتسبي الدول المذكورة.
هذا، ويتكوّن في كل دولة، طائفة من الزعماء والحكام والساسة... الذين ترتبط منافعهم ومطامعهم بالأوضاع السياسية القائمة، فينزعون إلى المحافظة على كيان الدولة، ولا يرضون بزوال الكيان، داخل دولة موحدة.
و في الأخير: ينضم إلى هذه العوامل الداخلية المتنوعة، عوامل خارجية عديدة، تعمل في نفس الاتجاه، وتقوي النوازع الاقليمية.
لأن الدول الطامعة بخيرات البلاد، ترى من مصلحتها أن يستمر التباعد والتخالف بين الدول العربية، بل أن يزداد ويتفاقم. ولذلك تبذل كل ما في وسعها من جهود لإثارة الروح الإقليمية في مختلف البلاد العربية، وتقتنص كل الفرص للعمل على تقويتها حتى تضمن مقاومتها ضد نوازع الوحدة العربية.
الخلاصة : ويتبين من كل ما تقدم :
ان الإقليمية وليدة تعدد الدول العربية.
وتعدد الدول العربية وليد الإستعمار.
فيجب على كل فرد عربي ان يكافح الاقليمية كما كان يكافح الاستعمار. يجب عليه أن يكافح الاقليمية، أولاً في خبايا نفسه، ثم بين بني قومه، بكل قواه .
فهذه الحقائق يجب أن ترسخ في الأذهان رسوخاً تاماً ، فلا تغيب عن البال أبداً !
الاستعمار الأوروبي الذي جثم طويلاً على صدور مختلف الأقطار العربية، قد خلّف، قبل أن يزول، كثيراً من البذور والآثار الضارة.
إن أخطر وأضر هذه البذور والآثار كان : تجزئة البلاد إلى دول ودويلات عديدة، وفصل بعضها عن بعض بحدود مصطنعة، وتوجيه كل منها إتجاهاً يختلف عن اتجاه غيرها... وبالنتيجة : تهيئة البيئة الصالحة لتنمية الروح الاقليمية في كل واحدة منها.
إني كنت عبرت عن هذه الحقيقة، في الكلمة التي صدرت بها كتابي العروبة أولاً ، تحت عنوان: ما أغربنا ! سنة 1954. وأرى من المفيد أن أكررها الآن : ما أغربنا !
ما أغربنا !
اننا ثرنا على الانكليز، ثرنا على الفرنسيين... ثرنا على الذين استولوا على بلادنا، وحاولوا استعبادنا...
كررنا الثورات الحمراء عدة مرات، وواصلنا الثورات البيضاء عدة عقود من السنين...
وقاسينا في هذا السبيل ألواناً من العذاب، وتكبدنا أنواعاً من الخسائر، وضحينا كثيراً من الأرواح...
ولكنا:
عندما تحررنا من نير هؤلاء.. أخذنا نستقدس الحدود التي كانوا أقاموها في بلادنا، بعد أن قطعوا أوصالها...
ونسينا ان تلك الحدود، إنما كانت حدود الحبس الانفرادي و الاقامة الجبرية التي كانوا فرضوها علينا !
(دفاع عن العروبة- 1954).
جذور الإقليمية وبذورها
إن عمليات مكافحة النوازع الاقليمية و ترسيخ الايمان بوحدة الامة العربية ليست من الامور البسيطة السهلة، بل من الامور المعقدة التي تحتاج إلى عمل متواصل، مقترن بالشيء الكثيرمن التبصر واليقظة.
ذلك لأن النوازع الاقليمية تشبه- إلى حد كبير- النباتات البرية التي تنمو وتنتشر بفعل الطبيعة: انها تغرز جذورها في التراب، وتنشر بذورها إلى مختلف الجهات.
ولهذا السبب، إن قطع وحصد ما هو ظاهر وقائم منها، لا يضمن القضاء عليها، بل ان التخلص منها يتوقف على اقتلاع جذورها واتلاف بذورها.
وكذلك الأمر في النوازع الاقليمية: فالقضاء عليها يتطلب اقتلاع جذورها من أعماق النفس، واتلاف بذورها. وإذا ما رأينا شخصاً اشترك معنا في استنكار الاقليمية، وقال معنا بوحدة الأمة العربية، لا يجوز لنا أن نستنتج من أقواله هذه، انه قد تخلص من النوازع الاقليمية تخلصاً تاماً ، لأن جذور الاقليمية قد تبقى كامنة في خبايا نفسه، وإذا ما ارتوت بماء المنفعة، انتعشت، ونمت، وظهرت إلى العيان.
ان أحداث الوحدة والإنفصال بين سوريا وبين مصر، أعطتنا أمثلة كثيرة وحية على ذلك ، كما سيتضح من الأبحاث التالية:
إني كنت حاولت إلفات الأنظار إلى أمثال هذه الأمور- بوجه عام- عندما شرحت في مقدمة كتابي حول القومية العربية التنازع الذي يقوم بين الفكرة الجديدة التي يكتسبها المرء، وبين بقايا الفكرة السابقة التي كان يعتقد بها قبلاً .
إذ قلت هناك :
... ان الأفكار والمعلومات الجديدة، قد تكون مخالفة لما كان قد استقر في أذهاننا سابقاً. في هذه الحالة، انها تحتم علينا أن نطرح من أذهاننا ونستبعد من نطاق تفكيرنا، كل ما كان مخالفاً لها.
غير أن الأفكار والمعلومات السابقة التي ذكرناها، كثيراً ما تكون قد ولّدت في أذهاننا فروعاً ونتائج كثيرة. إن رسوخ الأفكار الجديدة في نفوسنا تمام الرسوخ، في هذه الحالة، لا يكتفي بطرح واستبعاد ما كان مخالفاً لها مخالفة صريحة فحسب، بل يتطلب استبعاد كل ما كان ناتجاً عن الأفكار السابقة أيضاً .
ولكن نتائج الفكرة القديمة وفروعها المتأصلة في أذهاننا قد لا تبدو جلية الارتباط معها وظاهرة التناقض مع الفكرة الجديدة.
ولهذا السبب، كثيراً ما نجد الأفكار الجديدة تعيش في أذهان البعض مع فروع الأفكار المناقضة لها، لعدم تعمقهم في بحث النتائج واستقصاء المستلزمات .
وبعد ذكر بعض الأمثلة لتوضيح هذه الحقيقة بالنسبة إلى الفكرة القومية، نقلت البحث إلى المبادىء فقلت :
ولكني أود أن يلاحظ أن الامور التي ذكرتها آنفاً تكتسب خطورة خاصة في بعض الأحوال، ذلك عندما تكون الفكرة الجديدة من نوع المبادىء الأساسية .
من المعلوم أن كل مبدأ يتطلب توجيه التفكير اتجاهاً خاصاً، ولذلك يكون كثير المستلزمات.
فان المبدأ الجديد لا يكتفي بطرح واستبعاد الآراء والمعلومات المنافية له، حتى ولا بطرح واستبعاد كل ما كان لتلك الآراء والمعلومات من فروع ونتائج .. بل يستلزم- فضلاً عن ذلك كله- النظر إلى الأمور بنظرات جديدة . وذلك يقتضي - بطبيعة الحال- إعادة النظر في سلّم القيم التي كانت استقرت في الأذهان واستقرت في النفوس .
ان مبدأ العروبة - وبتعبير أدق : مبدأ العروبة أولاً من أبرز الأمثلة على ذلك: إن إعتناق هذا المبدأ يتطلب منا أموراً كثيرة ، أولاً : التحرر من جميع الآراء والنزعات التي تخالف المبدأ المذكور، ثم تقييم الأمور تقييما جديدا، ينتهي بنا إلى تكوين سلّم قيم جديد، يختلف عما كنا ألفناه سابقاً .
ولذلك كله أقول : يترتب على كل من يؤمن بقوميته أن يكمل ويوسع معلوماته عن الأمة العربية، ويعمق ويرسخ أبحاثه بوحدتها.. وفقاً للأسس التي شرحناها آنفاً .
ان أحداث الوحدة والإنفصال بين سوريا وبين مصر، تستلزم بحث الأمور في ضوء هذه الحقائق .
ميول الموظفين
إن طائفة الموظفين تكون- بوجه عام- أشد ارتباطاً بالدولة القائمة، ولذلك تكون مرتعاً خصباً لنوازع الاقليمية.
لأن الموظف يعتاش بالراتب الذي يتقاضاه من صندوق الدولة، كما أنه يأمل أن يترفع في درجات الرواتب ضمن النظام المألوف، في إطار حاجات الدولة وممكناتها. ولهذا السبب يتهيب من تغير الأوضاع القائمة، فيكون أميل إلى إعتبار الدولة أساس الوطنية ، وينزع إلى ترويج مبدأ المحافظة على كيان الدولة .
إنى كنت لاحظت عمل نفسية الموظفين في قضايا الوطنية والاقليمية، في العراق منذ السنوات الأولى لقيام الحكم الوطني .
إن ظروف العراق في عهد الدولة العثمانية كانت جعلت عدد حملة الشهادات العالية محدوداً جداً. وعندما غادر البلاد مدرسو المدارس الثانوية الذين كانوا من الاتراك ، صار طائفة من معلمي المدارس الابتدائية يتولون مهام التدريس في المدارس الثانوية . وهذا فتح أمام أمثالهم آمال التقدم في وظائف التعليم الثانوي وفي الإدارة والتفتيش . ولكن، عندما تقرر اشتراط الحيازة على شهادة دراسة عالية لتولي التدريس في المدارس الثانوية واستقدام المدرسين الذين تحتاج إليهم المدارس المذكورة من سائر البلاد العربية، جاء ذلك بمثابة ضربة لآمال هؤلاء، فصاروا يعتبرون المدرسين الذين يأتون من خارج العراق دخلاء على البلاد، ويتوسلون بشتى وسائل الدعاية على هؤلاء وعلى إدارة المعارف التي استقدمتهم . ثم حاولوا أن يعززوا دعاياتهم هذه باستقالات جماعية.
إني لا أرى لزوماً لتفصيل الوقائع المذكورة في هذا المقام . غير اني أرى من الضروري أن أشير إلى ان كل ذلك كان يحدث في الوقت الذي كانت حدود المملكة العراقية غير مقررة بصورة نهائية.
وكنت قد أشرت إلى ذلك في الكتاب الذي وجهته إلى أحد كبار موظفي التعليم الذي كان استقال بدوره احتجاجاً على أمر الدخلاء .
قلت في الكتاب المذكور- وكان مؤ رخاً بتاريخ 22 أيلول/ سبتمبر سنة 1922:
إني لعاجز عن فهم معنى الوطنية التي تعتبر السوريين والمصريين دخلاء.
وأشرت إلى الحركة التي كانت قامت في جنوب العراق بغية فصل البصرة عن المملكة العراقية ، ثم سألت :
لو نجحت تلك الحركات، وانفصلت البصرة عن العراق، هل كنتم تعتبرون أهالي البصرة أيضاً دخلاء؟
وبعد ذلك أشرت إلى شمال العراق، وذكرت محاولة الفرنسيين إدخال الموصل في نطاق حكمهم الانتدابي، ومطالبات الأتراك الذين كانوا لا يزالون يقولون بوجوب ضم الموصل إلى تركيا، وسألت:
لو تحققت تلك المحاولات ونجحت تلك المطالبات، هل كنتم تدخلون الموصلاويين أيضاً في عداد الدخلاء؟
وفي الأخير، أنهيت كتابي بالعبارات التالية :
إني أخشى من شرور هذا النوع من الوطنية الكاذبة على الأمة العربية عامة وعلى البلاد العراقية خاصة، ألف مرة أكثر مما اخشى عليها، من مدرعات الانكليز ومفرقعاتهم، أو من طيارات الفرنساويين ورشاشاتهم .
إن نغمات الدخلاء ظلت ترن في الآذان مدة غير قصيرة.
حتى انه، عندما صارت فكرة العروبة تنتشر في المدارس، وقف أحد المدرسين يعلن :
إن فكرة الوحدة العربية، دسيسة اختلقها السوريون ليتنعموا بخيرات العراق .
ولكن عندما تقوت الفكرة وانتشرت أكثر من ذلك، لم يعد يجرؤ المعارضون أن يحاربوها مباشرة، وصاروا يقولون:
( نحن نحبذ الوحدة، ولكننا نريدها دون توظف).
وصار بعد ذلك تعبير : الوحدة دون توظف من الشعارات التي راجت مدة من الزمن، ولا سيما بين سنة 1930 وسنة 1935 .
إن شعار الوحدة دون توظف ، يعطينا مثالاً بارزاً على الاقليمية التي تتقنع بقناع الوحدة . كما انه يظهر- في الوقت نفسه- الدور الذي تلعبه منافع الموظفين في أمر الاقليمية والوحدوية، بكل وضوح وجلاء.
إن حسابات الموظفين النفعية، إذا كانت قد ظهرت إلى العيان في الظروف التي ذكرتها آنفاً في العراق، فانها لم تخل من التأثير في قضايا الاتحاد والانفصال في سوريا لسنوات أيضاً في السنوات الأخيرة.
[عدل] أسعد الأمم وأشقى الأمم
ما أسعد الامم التي حققت وحدتها القومية وما أشقى الامم التي ظلت بعيدة عن تحقيق وحدتها القومية
ما أسعد الأمم التي حققت وحدتها القومية، واستكملت شخصيتها السياسية، فاستطاعت أن تجعل حدودها الدولية منطبقة على حدودها القومية !
ذلك لأن مفهوم الوطن عند أمثال هذه الأمم يكون واضح المعالم ومستقر الشكل: الأمة تكوّن دولة مستقلة موحدة، فتتعين حدود الوطن عندها بحدود الدولة القائمة التي تجمع شمل الأمة بأجمعها تحت راية واحدة.
ولذلك، لا تكون الوطنية عند هذه الأمم موضع خلاف ومثار جدل. وجميع أفراد الأمة يفهمون الوطن على طراز واحد، ولا يختلفون في تقرير واجباتهم الأساسية نحو هذا الوطن المشترك العام.
ولكن ما أتعس الأمم التي ظلت بعيدة عن تحقيق وحدتها القومية، واستكمال شخصيتها السياسية، فلم تستطع أن تجعل حدودها الدولية منطبقة على حدودها القومية !
إن مفهوم الوطن عند هذه الأمم لا يكون واضح المعالم ومستقر الشكل، لأن تعدد الدول المسيطرة على شؤون الأمة يجعل مفهوم الوطن معقداً ومشوشاً في الأذهان .
ذلك لأن الوطنية عند تلك الأمم تتصل بمفاهيم عديدة : فيكون هناك الوطن الخاص الذي يتحدد بحدود كل دولة من الدول القائمة.. و الوطن العام الذي يشمل جميع الاراضي التي تسكنها شعوب الأمة على اختلاف دولها وأوضاعها السياسية.. و الوطن الفعلي الذي تعترف به الدول، و الوطن المثالي الذي تنشده نفوس المواطنين، وتتوق إلى رؤيته مظللاً براية مشتركة في المستقبل القريب أو البعيد ..
وبتعبير أقصر، يكون هناك الوطن الراهن و الوطن المنشود .. الوطن الدولي و الوطن القومي .
ولا حاجة إلى البيان : ان كل واحد من هذين المفهومين يحتم على المواطنين واجبات خاصة، من نوع خاص.
ولكن عقول جميع الناس لا يمكن أن تستوعب هذين المفهومين المتداخلين بسهولة. لأن أنظار الجميع لا تمتد إلى ما وراء الحدود القائمة على وتيرة واحدة، ولا تتطلع إلى المستقبل القريب أو البعيد بنظرات متشابهة. كما أن عقول جميع المواطنين لا تستطيع أن تؤلف بين مقتضيات هذين المفهومين تأليفاً منطقياً عملياً .
ولهذه الأسباب كلها، تكون الوطنية موضع خلاف ومثار جدل بين المواطنين .
فينقسم الناس إلى فريقين، إزاء قضايا الوطن والوطنية الاساسية : فريق الاقليميين وفريق القوميين.
فريق الذين يقصرون أنظارهم داخل حدود الدولة التي ينتسبون اليها، من غير أن يفكروا بما وراءها، فيعتبرون كل ما بقي خارج تلك الحدود أجنبياً .
وفريق الذين لا يرضون بالانحباس داخل هذه الحدود، بل يتطلعون إلى الحدود القومية التي تمتد إلى ما وراءها..
فريق الذين يكتفون بالوطن المعترف به دولياً .. وفريق الذين يرسلون أبصارهم إلى ما وراء ذلك، ويتوجهون بعقولهم وقلوبهم إلى الوطن المثالي ، الذي يجب أن يجمع جميع شعوب الامة تحت راية واحدة .
فريق الاقليميين الذين ينكرون وحدة الامة، ويقولون بتعددها تبعاً لتعدد دولها ، و فريق القوميين الذين يعتقدون بوحدة الأمة ، على الرغم من تعدد الدول .
إن اختلاف النظر بين هذين الفريقين يؤدي إلى اختلاف النزعات بطبيعة الحال، وهذا الاختلاف يكتسب شكلاً حاداً في بعض الأحيان.
يتهم الاقليميون معارضيهم بالتقصير في واجباتهم نحو الدولة القائمة، في حين أن القوميين يتهمون هؤلاء بعدم إدراك واجباتهم نحو الأمة.
يدّعي الإقليميون أن القوميين يسيرون وراء الأوهام والخيالات، في حين أن القوميين يقولون عن هؤلاء انهم لا يدركون سمو معاني الأمة والوطن فيتمسحون بأذيال الأحوال الحاضرة والأوضاع الراهنة.
ومن الطبيعي ان الدول الاجنبية التي تطمع في تلك البلاد، تجد في هذه الاوضاع والاختلافات مجالاً واسعاً للقيام بالدسائس والدعايات التي تضمن لها مصالحها الخاصة، وتعمل لاذكاء نيران الخلاف بتقوية الاقليمية بشتى الوسائل والاساليب، لتحول دون اتحاد الامة لتكوين دولة قوية.
هذا، والنفعيون من أهل البلاد أيضاً ، لا يتأخرون عن إستغلال هذه الاوضاع : فيسعى قسم منهم لتقوية الاقليمية، تارة للاحتفاظ بالمنافع التي اكتسبها، وطوراً للحصول على منافع جديدة وتحقيق أطماع كبيرة.
ويتخذ قسم منهم النزعة القومية مطية للوصول إلى أهداف شخصية، ويسيء إلى سمعة الفكرة السامية التي يستغلها بهذه الصورة لغاياته النفعية.
ويظهر بين النفعيين فريق آخر، يستفيد من هذه الاوضاع للتحلل من واجباته الوطنية والقومية، ولازدراء النزعات القومية والوطنية على حد سواء.
وتتضافر هذه العوامل المتنوعة والمتضاربة كلها... على زيادة البلبلة في الافكار والنزعات، وإشاعة الفوضى في البلاد واضرام نيران التفرقة بين المواطنين.
ان الامة الالمانية قبل سنة 1870، والامة الايطالية قبل سنة 1860، كانت في هذه الحالة.
والامة العربية لا تزال في هذه الحالة.
كنت كتبت المقالة المدرجة أعلاه في 22 آذار 1951، ونشرتها في مقدمة كتابي آراء وأحاديث في القومية العربية .
أعيد نشرها ههنا، وأنا أشعر بمرارة الشقاء الذي أشرت إليه فيها، بشدة أعظم من ذي قبل، بسبب أحوالنا الحالية.