آخر الأخبار

أولاد إبراهيم أو مشكلة الدولتين

"لم ينصهر المجتمع الإسرائيلي بعد في دولة-أمة فاليهودي الروسي يعتبر نفسه روسيا قبل أن يكون إسرائيليا و اليهودي الأمريكي يعتبر نفسه أمريكيا قبل أن يكون إسرائيليا. خـُذ مثلا على ذلك عندما أرسل السوفييت أول قمر صناعي سمع يهودي روسي بالخبر فركض في الصباح الباكر إلى الحي الأمريكي ليقول ليهودي أمريكي:"لقد سبقناكم إلى غزو الفضاء" و لهذا نحن في حاجة إلى عدو خارجي لننصهر في أمة"
ديفيد بن غريون/لوموند-فبراير1967

قد يبدو للناظر للمشهد الفلسطيني في صراعه ضد المستعمر أن لا شيء قد تغير منذ 1948 فمازال التهجير و الضغط و الاستيطان قائما و متغلغلا و مازالت انتفاضات أصحاب الأرض من حين لأخر تشهد على صمودهم العجيب رغم العقود الطويلة و رغم الحصار و رغم ضعف الإمكانات الحربية مقابل جيش يعيش عالة على العالم. و قد يبدو للبعض أن الإعلام لم يقتصر منذ عشريات خلت سوى على عرض صور الحرب و الدمار التي صارت مادة يومية إلى أن أخذت تزاحمها مشاهد من العراق و لبنان و أفغانستان و السودان و لكن الإعلام قد تغير خلال هذه الفترة الطويلة من التجاهل إلى القفز على الحقائق و صناعة حقيقة يروج لها هو ففي فترة الثمانينات إلى منتصف التسعينات وقع التعريف بالقضية الفلسطينية من طرف أبنائها من كتاب و شعراء و فنانين و تبنتها عديد الأصوات في أمريكا و الدول الغربية داعية إلى رفع الحصار عن الشعب الفلسطيني من خلال التظاهرات السلمية و اللقاءات الفكرية و المعارض التشكيلية حتى دخلت القضية الفلسطينية مرحلة التدويل -إعلاميا على الأقل- و صارت تندرج ضمن حق الشعوب في الحرية و تقرير المصير و بدأ الإعلام يشهد تحركا على المستوى الإخباري لتقديم رسالة فحواها أن هذا الشعب يتعرض لمَظلـَمة منذ عقود و أننا في زمن حقوق الإنسان لا في عهد الاستعمار المباشر الذي قادته من قبل دُول كفرنسا و انجلترا و لكن سرعان ما اُنتبه قادة الإعلام في العالم تحت ضغط الساسة و رأس المال اليهودي إلى ضرورة التحكم في المادة الإخبارية و توجيه الخطاب الإعلامي و السينمائي فيما يخص القضية إلى السعي إلى السلام بين الجانب الفلسطيني و الجانب الصهيوني و البحث عن نقاط الالتقاء التي تدعم التعايش و خلق علاقات جديدة أساسها الاعتراف المتبادل و المصلحة المشتركة فكلا الشعبين "أولاد إبراهيم" عليه السلام على حد تعبيرهم و على الأولاد أن ينصهروا ضمن العائلة الواحدة و يُذيبوا الفوارق بينهم لصنع مستقبل أفضل للطرفين دَعمًا لِ"حل الدولتين" كمخرج سياسي من الأزمة فصاروا يقدمون صورا فوتوغرافية تركز على الشبه الجيني بين الشعبين يجعل الفوارق السياسية سخيفة و الحرب بلا داع و يشبّهون الجدار العازل الذي يعزل أهل الأرض داخل أرضهم ب"حائط برلين" الذي يجب أن يعمل الطرفان على هدمه لصناعة وحدة جديدة أساسها التسامح الديني قبل أن تكون سياسية و قد تجرأ الإعلام الغربي باُستخدام الأفلام الوثائقية إلى تقديم صورة تقوم على بقاء الأصلح فدمج الشعبين يقتضي إدارة واحدة و يقتضي إدارة "الأصلح" للأقل صلاحا دون اٌُعتبار حق صاحب الأرض في تقرير المصير فالمؤسسات متطورة أكثر من الجانب الصهيوني و هي الأقدر على تسيير البلدين في حال وحدتهما حيث يتحول أهل الأرض إلى أقلية تخضع للحكم الصهيوني في إطار اُعترافهم بيهودية دولة "إسرائيل" و اُنتظامهم في قوانينها. و قد عمد الإعلام إلى الإشارة إلى حركية الأحزاب العلمانية التي تنادي بإسرائيل كدولة ليبرالية علمانية ديمقراطية تستوعب كل الأديان و الإثنيات التي تزخر بها الأرض الفلسطينية و لا تركز على الهوية اليهودية و أن هذه الأحزاب المنفتحة هي مستقبل اسرائيل التي ستصنع الوحدة و تذيب الشعبين في مفهوم الدولة لأن فلسطين لا تشكل دولة بعد! و لا تملك مقومات السيادة و المؤسسات التي يُدار من خلالها القانون الذي ينظم حياة الشعبين.و هكذا يروّج الإعلام العالمي تحت غطاء السلم المطاط إلى دولة إسرائيلية يكون فيها الفلسطينيون إثنية من بين إثنيات أخرى تندمج في المجتمع اليهودي كغيرها (و ليس العكس) حتى و إن تطلب ذلك عقودا أخرى من مساعي الوحدة.
و إزاء الصورة المتطورة التي يقدمها الإعلام باُعتبار أن فلسطين مملكة الله التي يجب أن تنصهر فيها اليهودية و الإسلام- و التي تمثل استباقا لواقع لن يأتي إلا أنها توضّح المشهد من الجانبين و نقاط الضعف التي يستغلها الإسرائيليون لتشويه صورة الفلسطيني- فالإستعمار يظل طارئا مهما طال و اليهود الإسرائيليون لا يمثلون ضمانة إجتماعية و نوعية كافية لصناعة ما يُسمى ب"الأمة" فهم شعب متشظٍ و إن جمعهم مكان واحد ففي إسرائيل خمسة أحزاب دينية ففي إسرائيل خمسة أحزاب دينية و هي "أغودات إسرائيل"(إتحاد التوراة) و "المفدال" (الحزب القومي الديني) و حزب "ميماد" و "شاس" (الشرقيون المواظبون على الفرائض) و "دوجيل هاتوراه" (راية التوراة) و قد كانت منظوية كلها تحت حزب أغودات اُسرائيل إلا أنها اُنشقت عنه مع الحفاظ على أساس تكوينها و هو مكافحة العلمانية و تطبيق الشريعة اليهودية "الهالاخا" فالدولة عندهم ثيوقراطية تستمد شرعيتها من الله لا من الشعب بدعوى أن هذه الفكرة غربية و الأصولية اليهودية تعاديها. و مقابل هذه الأحزاب الدينية قامت أحزاب علمانية و شهد الطرفان صراعات كبيرة في مختلف المراحل من 1948 و 1967 إلى السبعينات و التسعينات حتى الألفين عرفت فيها الحكومات الإسرائيلية انتصارات و هزائم.
إن ما مهد ل1948 و ما بعدها في فلسطين هو أساسا حالة من تراكم الأخطاء السياسية الداخلية و العربية-العربية و العربية في علاقتها مع بريطانيا و أمريكا منذ بداية القرن حتى عصرنا و هذه الأخطاء أفرزتها بنية الأنظمة السياسية العربية كأنظمة قامعة من جهة و موالية من جهة أخرى لأنها لا تتمتع بقاعدة شعبية تدعمها و إذا كانت الشعوب تصنع السلام فإن الحكومات تصنع الحرب و يظل منطقُ السياسة منطقَ المصلحة المحضة دون اُعتبار لقيم و مقومات الشعوب و بهذا تتحول البلدانُ مستعمَرة كانت أو مستقلة إلى ملكية فردية أو عائلية للحاكم تُباع و تُشترى بل تتحول إلى شركات متعددة الجنسيات فيما يصير أهلُها مجرد يد عاملة ضرورية لدى الآلة السياسية و الإقتصادية الحاكمة.
إن الفرق بين الشعوب العربية و الشعوب القوية في العالم أنها شعوب يخاف أفرادُها من المبادرة و الفعل الذاتي و ينتظرون دوما الضوء الأخضر من الأب و الحاكم و من أيّ كان ليبدؤوا أي شيء فهناك مناخ من عدم الثقة المتبادل بينهم و بين بعضهم كرّسه النظام العائلي و القبلي و السياسي بما هو بنية شمولية مغلقة لا مكان فيه للفكر الفردي و النقد الذاتي و الشعوب القوية يقوم الفرد فيها بذاته و يصنع مشروعه بمعزل عن الآخرين ثم يلتقي الكل حين تلتقي الأفكار كما أن تقدير الشعوب الأخرى لذاكرتها التي صنعتها بأيديها يجعلها دائما في حالة مُساءلة لتُراثها فتقاليدهم في الحوار على مستوى الأحزاب فيما بينها و الأحزاب و السلطة و الأحزاب و المتدينين لم تظهر بين عشية و ضُحاها بل صُنعت على مدى قـُرون في حين ظلّ تراثنا محظورا و معرفة الآخرين به أعمق من معرفتنا لأن كل موضوع إشكالي يُطرح لا بدّ أن يُثير حساسية سياسية أو طائفية أو عشائرية أو يقلب موازين تاريخية و اُقتصادية أو يمس محظورا دينيا و هكذا يظل تراثنا مغلول الأيدي يعذ ّب حاضرنا و لا يتقدم به هذا مع إنكارنا على هذه الرقعة الإسلامية الكبيرة مجلوبات كل امة منصهرة في الإضافة لهذا التراث في مجال من المجالات.
و لقد عرف الإعلام اليهودي قيمة الذاكرة التاريخية فاُشتغل عليها بشراسة و ها هو ينسب إلى اليهود كل شيء فلسطيني فمِن سرقة الحفريات و المشاتل و النقوش القديمة في الخزف و الثياب و العمارة و اُستعمالها إلى اُكتشاف نواة يدعي بعض اليهود أنها يهودية أبا عن جد و يعيدون إنباتها بكلفة مليارات وفق الشروط العلمية حتى تصير نخلة وسط ضجيج إعلامي مُفتعَل و ينكبّ آخرون على السينما فينتجون أفلاما كانت تقدم اليهودي على أنه ضحية فصارت تروّج له من خلال مزايا أخلاقية كالحرص على الروابط العائلية و حفظ الشرف و الأمانة بل من خلال مسامحة الآخر و القبول بالبداية معه من جديد ضمن دفع الحسنة بالسيئة و إقناع العالم الغربي بأن الحروب الصهيونية لا تختلف عن الحروب الصليبية فكلاهما لمحاربة الشيطان و تطهير الأرض و إزاء هذا التشرذم الذي يعرفه الواقع العربي هل نحن بحاجة إلى عدوّ خارجي أم
إلى وازع داخلي لنشعر أن هذه الأرض للشعب و ليست للحاكم و أن ندافع عنها دفاع المالك لا دفاع المستأجِر و الأجير؟
و تظل إسرائيل لا تشكل غير تعلة ظرفية تشغل بها الدول القوية (بريطانيا و أمريكا) الرأي العام العربي و يوميَّ الشعوب العربية لتلهيها عن قضايا التعليم و التنمية و الحريات في اُنتظار إتمام مصالحها في منطقة الشرق الأوسط بالتحالف مع الأنظمة العربية نفسها فماذا سيبقى لإسرائيل بعد اُنتهاء المصالح البريطانية و الأمريكية في العراق و السودان و لبنان و الجولان و بعد تحقق الدولة الفلسطينية و لو على ربع المساحة؟ لن يبقى أمامها سوى التآكل الداخلي بين العلمانية المتطرفة و الأصولية المتطرفة و فساد الحكومات المتعاقبة و الاختلافات الإثنية الجذرية بين اليهودي الأصيل و غير الأصيل (الغوييم) و المصالح المتضاربة فالتنازلات التي قدمها بن غريون للأصولية اليهودية في بداية نشوء الدولة الإسرائيلية كسبا لقاعدتها الشعبية و الامتيازات التي خص بها المؤسسات الدينية و إعفاءَها من الضرائب و خدمة الجيش لم تعد تناسب الحكومات الحالية بعد أن صارت تشكل نسبة كبيرة من السكان طمعا في تلك الامتيازات أكثر منه تديّنا و طبيعة المجتمع اليهودي بما هو مجتمع عقلاني مادي من جهة و بما هو مجتمع متعدد الأصول و الثقافات لا تزدهر إلا في الصراع فتهديد هويتهم الذي تستغله وسائل الإعلام هو الذي يجمّعهم و يغذي فيهم روح الإضطهاد القديمة و يستفزهم للهجوم و لكن من غرائب الأمور أن يتكهن منجّم يهودي منهم بنهاية "دولة إسرائيل"بحلول 2048 و باُفتكاك الشعب الفلسطيني لاُستقلاله من اُستعمار هو الأشرس و الأعقد في عصرنا و هكذا تكف إسرائيل في هذا التاريخ أو قبلـَهُ إن تحرّك ضمير العالم عن مطالبة العالم بالإعتراف بشرعيتها و مشروعيتها و في اُنتظار ذلك هم يبنون للفلسطينين لأن فلسطين للفلسطينيين فتُرابُها مِسْك معجون به كل الأنبياء و سماؤها عرفت كل الرسالات و شعبُها اُختار اللهَ فاُختارهُ اللهُ لأرضه و ستبقى القدس عاصمة كل الأديان بلا قطرة دم واحدة يوم يكتشف اللهَ فيهِ كلُ إنسانٍ.