رفع رأسه وهو ينظر إلى أرضه التي انتزعها من بين جلاميد الصخر , وكانت تنحدر حواكيرا صغيرة باتجاه مسيل صغير ,وكان يشعر بشيء من الرضى وهو ينهي زراعة آخر الأشجار التي أحضرها معه .
بدا لنا نحن (الكسالى) الذين أتينا من مخادعنا الرتيبة في المدينة والتي لشدة ما التصقنا بها , باتت تشبهنا ونشبهها , وبات هذا الهدوء الخادع والكسول لا يرغمنا أو يشعرنا بالحاجة لأي تغيير .
بدا لنا يصارع في مشهد (سيزيفي) وهو يجهد لكي يحول هذه الحواكير الجرداء المليئة بالصخر إلى أشجار مثمرة وخضرة دائمة.
استعدت مشهدا عتيقا علق بالذاكرة من رواية جون شتاينبك (الإله المجهول) :
ففي صراع البطل لإحياء أرضه بعدما ضرب الجفاف وانحبس المطر , وبعد أن هجر المزرعة كل سكانها , وحتى كاهن البلدة رفض الصلاة من أجل المطر معللا ذلك بان همه هو خلاص النفوس البشرية.
قصد صخرة في وسط المزرعة و فصد دمه وتركه يسيل على الأرض وكأنه اتحد أخيرا معها , كان يضحي بنفسه , وشعر بأن المطر كان على وشك الهطول .
يقطع عليك هذا مشوار في برية أبعد , تحدثه تلك الأمكنة التي تمتد محتفظة ببكورتها , تعيدك لطفولة تهرب باستمرار, تشعر فجأة بالإمتنان للوعورة وللبعد , وتود لو أنك تقدر على أن تخبىء هذه البكوره ..خوفا من طمع قادم ومن مقصات وشفرات وآليات آتية .
تستطيع أن ترى كيف فعلت هذه في بكورات مماثلة , وكيف أصبح فعل الإعتداء عليها مقياسا للنفوذ والهيبة .
كل شيء يوحي بالسلام ههنا ..مع نفسك ومع المكان,هذه الكلمة التي استهلكت دينيا وسياسيا , حتى لكأن مجرد نطقها يشي باتهام !
لكنه مؤقت , فهو أقرب إلى الهدنة .
ولكنك لا تلبث أن تعي أنه أيضا سلاما زائفا ..
فآثار الفواريع والمناشير وصلت إلى هنا .
ويأبى الموظفون هناك في البعيد إلا أن يذكّروك بآثارهم الجليلة أيضا , فقد تم زرع بضعة أشجار صنوبر بطريقة رفع العتب حيث يبس معظمها , أما الأشجار الأعتق فقد مالت على الطريق كاشفة عن جذورها لأن المنطقة التي زرعت فيها قليلة التربة ومجاورة تماما له .
بدهشة طفولية تحاول العين أن تلم بهذا العالم الذي يتكشف شيئا فشيئا , تطأ بحذر الأرض الرطبة الممتلئة ببقايا الأغصان والأوراق المصفرة وبقايا ثلج من الأمس .
تتسلق تلك الصخور المغطاة بستار طحلبي , يكاد يكون الوحيد الذي يشي بحياة في هذا السكون .
فجأة من فسحة بين الغيوم تتسلل أشعة الشمس وكأنها تريد الفرجة أيضا , فيجتمع في المشهد :ثلج على الأرض وغيوم وشمس تنير بقعة صغيرة على الدرب.
يبدو أننا الشيء الوحيد غير الطبيعي والوادع هنا , قلت ونحن نحاول أن نلتقط صورة لقطرة ماء تدلف من صخرة كبيرة ..
تحاول أن لا تزعج هذه الحياة الوادعة هنا , وتحاول أن لا تأسر شيئا من هذا,ولو بالصورة .. مع أن هذا معاكس لطبيعة البشر , ولكن لا بد من بعض الصور التي تدل ولا تلم .
تودع المكان وتهجس :
أيتها البلاد التي تعيش على حكايا الزمان
وتعطي للآلهة :اسماءها ومعانيها
ألن تعطينا ,شيئا من أسرارك
وشيئا من بكورتك
وشيئا من أبديتك
زوادة ..
في هذا الأفق المحتل
وهذا الزمان المستحيل.