"غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع"، حال وطننا العربي الكبير، والشعار السائد اقتصادياً في بقعة جغرافية تتوسط قارات العالم، وتمتلك من الثروات والمقومات البشرية، والاقتصادية، والثقافية، والحضارية ما يؤهلها لاحتلال مكانة رفيعة ومتميزة وسط الأمم، وعلى كافة المستويات والأصعدة، ولكن استشراء الفساد في الأوساط الرسمية وغير الرسمية أدى إلى اختزال الثروات والمقدرات في أيدي فئة معينة تمتلك كل شيء، وتدوس على كل شيء غير مبالية أو معنية بأغلبية يفتك بها الفقر والجوع والظلم، والقهر والفساد، فتحولت لأكداس بشرية تنتظر المصير المحتوم" الموت" لتسلم الروح إلى بارئها غير آسفة على حياة الذل والهوان، وتترك الحياة لأولى الأمر منا، مكتنزين الأموال والثروات في كروش فراغية مجردة من الإنسانية.
ليست مفاجئة الأحداث التلقائية والعفوية غير المنظمة التي تشهدها تونس والجزائر هذه الأيام، بل بالعكس قد تأخرت كثيراً، ولم ترتقِ للتعبير عن واقع الشعوب المطحونة فعلياً، وإنما هي أحداث يعبر عنها فئة من الشباب أفترسها الجوع والبطالة، المصاحب لارتفاع وحشي بالأسعار، وعمليات الاستثمار الجشع بالبشر وبمقدرات الشعوب، حتى أصبح رغيف العيش مغمساً بالوحل، والإهانه والذل، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا أين أصنام ما يسمى المعارضة العربية من هذه الفئات المهشمة، والمتمردة على واقعها المأساوي؟
في معرض الإجابة عن السؤال السابق، لا بد من مواجهة الحقيقة التي نحاول القفز عنها في تناول التحليلي للأزمة الحقيقية، وتجلياتها وهي أن نذكر الأشياء بمسمياتها وحقيقتها، دون رتوش بلاغية تبريرية خادعة للمواطن العربي، وللشعوب العربية التي أصبحت تعيش تحت رحى الاستنزاف الإعلامي وشعارات الخداع البصري، والسمعي، وتكون هي وقود للجميع يتاجرون بها لتحقيق مصالحهم وأطماعهم السياسية، والاقتصادية.
وعليه، بنظرة واقعية لواقع المعارضة العربية عامة، نجد أن هذه المعارضة تعيش بأزمة عميقة، في بنائها الثقافي، والمفاهيمي، وأزمة بنائية في ممارستها السياسية، والاقتصادية، والثقافية، تتحدد معالمها، مما يفقدها القدرة على الإصلاح ومحاربة الفساد، والحفاظ على حقوق الإنسان العربي وكرامته. بل هي تصطف فعلياً بالتوافق مع النظم الحاكمة في البناء الثقافي، والطبقي، والاقتصادي، وتعتبر موازية له في تدعيمه، وتثبيته، نهجاً وعملاً، وذلك لأن تركيبة المعارضة العربية بشتى ألوانها السياسية، ومشاربها الفكرية، هي معارضة تسعى للحصول على السلطة؛ أي إنها مجموعات سلطوية برداء معارض، وهو ما يؤكد أن المعارضة العربية تنتمي لنفس المدرسة الثقافية التي ينتمي لها النظام العربي الرسمي، برؤى سلطوية وليس إصلاحية أو تغييريه مجتمعية ديمقراطية حقيقية. وما يدلل على ذلك الطرح أن المعارضة العربية هي التي تمنح الأنظمة الشرعية الديمقراطية من خلال مشاركتها الفعلية في عملية سياسية تدرك ملياً إنها عملية مرتبة مسبقاً لا تستهدف أي تغيير في النظام الاجتماعي والاقتصادي وإنما لتثبيت وضع قائم وتكريسه بشرعية وممارسة فراغية فضفاضة، وإض
فاء شرعية دستورية وقانونية وشعبية بصورة ديمقراطية على وجودها، مع إدراك أن مشاركة المعارضة يمنحها هذا، أضف لذلك التأمل بواقع الأحزاب والقوى المعارضة العربية وقادتها، والمستوى الاجتماعي الذي يتبوؤه هؤلاء القادة في مجتمعاتهم، وهي درجات لا تقل بأي حال من الأحوال عن حالة رموز الأنظمة، سواء من حيث المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي، أومن حيث الرفاهية والعلاقات، أو الممارسة على الأرض، ونمطية الحياة التي يعيشوها، بل أن لديهم من الامتيازات ما يضاهي أكبر رموز الأنظمة وأكثرها فساداً.
والأهم من كل ذلك البرامج التي تطرحها المعارضة العربية، وفعلها العملي في تطبيق هذه البرامج وممارستها على الأرض، والدور الذي تقوم به بين الفئات المسحوقة والمهمشة، نجد أن هذه البرامج ما هي إلا عبارة عن مكونات مزخرفة تجميلية مزينة بالشعارات البراقة لممارسة عملية الخداع البصري والعقلي لبعض الفئات سابقة الذكر لأستخدامها كأرقام للضغط على الأنظمة لإبتزاز مزيد من الامتيازات منها.
وعليه فإنقادة تيارات وقوى المعارضة العربية، هي عبارة عن أصنام تتثبت بالقيادة، حالها كحال الزعماء، بينهم عامل مشترك ألا يتنازل عن موقعه إلا بعد نيل لقب " المرحوم"، أو المغفور له، وكذلك الحرب الدائرة في أحزاب وقوى المعارضة على المستوى القيادي فقط.
كما أن هنا كظاهرة أخرى تؤكد النفسية التي تسيطر وتهيمن على قوى المعارضة العربية، وهي أن هنا كبعض القوى المعارضة قبضت على السلطة في بعض البلدان فكانت ممارستها نسخة كربونية من ممارسات الأنظمة بل وأقسي تحت مسميات الإصلاح.
إذن فالحقيقة الجلية أن شعوبنا العربية المطحونة بالفساد، هي ضحية ثقافة مشتركة بين الأنظمة القائمة، والمعارضة التي تعتبر مكمل لدور الأولى، وتمنحها الغطاء الديمقراطي والدستوري مقابل نصيب معين من عملية الاستثمار بالشر.
لذلكفإنهذه الشعوب المطحونة لا تجد صوت حقيقي يعبر عنها، سوى الإيحاء بحراك عفوي تلقائي غير منظم في بعض الحالات التي تبلغ ذروتها في بعض البلدان العربية، مثل ما يحدث الآن في تونس والجزائر، وهي حركات أو عمليات حراك بطيئة ستتلاشى قريباً، لأنها لم تجد من يحتويها وينميها بنمطية استرداد الكرامة للمواطن، بل سيتم إحتوائها سريعاً من قوى الاستثمار البشري، والكروش المتعفنة سواء في أنظمة الحكم أو قوى المعارضة التي تتمتع بفساد يضاهي أضعاف ما تتمتع به أحزاب السلطة التي تعبر عن مصالحها وسلطاتها.
فأي معارضة تلك التي تدفن رأسها في تكدسات الفساد، وتمارسه وتنادي بالإصلاح، وأي معارضة تلك التي تمتلك الامتيازات السلطوية والاقتصادية وتكتنز المشاريع والاستثمارات، وأي معارضة تلك التي تلمس الرشاوي في الدوائر الرسمية وغير الرسمية وتتماشى معها، وتري الجثث البشرية الحية تفترش الشوارع ولم يهتز ضميرها قيد أنملة من بشاعة المشهد، وأي معارضة التي تلمس انهيار منظومة القيم والأخلاق وتغض النظر عنها، وأي معارضة تلك التي لم تتجرأ على التحريض ضد الظلم والقهر بالفعل وليس بالشعار؟
أما المواطن العربي لا يوجد لديه خيارات متعددة، سوى العيش بذل ومهانة، ويتحول لعبد لكروش الاستثمار البشري، أو حذو الشاب التونسي الذي أحرق نفسه وإفساح المجال لأباطرة السلطة والمعارضة لإثراء أرصدتهم البنكية، وتحقيق مزيداً من الرفاهية الحياتية.... إلخ.
إذن نحن أمام حالة واقعية من الفساد مزدوجة الرأس بين السلطة بأباطرتها، والمعارضة بخنوعها.