فأول لعمات الدكتور غليون نجدها في قوله:
اقتباس:
(يبدو لي أن ما يحصل لنظام البعث في سوريا اليوم لا يختلف عما حصل للأنظمة الشمولية القائمة على سيطرة الحزب الواحد وإلغاء الحياة السياسية والفكرية وصب المجتمع كله في قوالب حديدية، والسيطرة الكاملة في الاقتصاد والإدارة لبيروقراطية الدولة العقيمة على حساب المبادرات الفردية لجميع الناس وليس فقط لطبقة أصحاب المشاريع والأعمال الرأسمالية).
و هنا لا يمكن للقارئ المهتم إلا أن يسأل: فهل نظام البعث في سوريا هو أحد الأنظمة الشمولية التي يتم الحديث عنها؟ ذلك أن الإجابة لا تعدو أن تكون نعما أو لا!
للأسف لا يجيب الدكتور غليون على هذا السؤال لا بنعم و لا بلا، و لكن بكلمة لعم ، فهو يمضي قدما في شرح التشابهات -إن وجدت- تاركا للقارئ حرية الإستنتاج -المغلوط حتما!
القصة و ما فيها أن الدكتور غليون ليس أحمقا، إنه يعلم أن القول أن النظام السوري مطابق للأنظمة الشمولية -مثلا: الإتحاد السوفييتي و المملكة السعودية- هو قول خاطئ، أكثر من ذلك: مضحك. الدكتور غليون يعلم تمام العلم أن النظام السوري لم يقم أبدا بإعدام البشر لكونهم مثقفين كوسموبوليتيين ، لا و لا أعدمهم لأنهم كفرة ملحدين . فأية محاولة منه لادعاء العكس ستجعل منه أضحوكة -أولا و قبل كل شيء أمام طلابه في السوربون.
نعم، أمام طلابه في السوربون! ذلك أن شعبنا السوري إن كان قادرا على اتباع الهوى و أن يذهب إلى حد الإيمان الأعمى بالقاذورات التي كانت تبثها إذاعة صدام حسين عن بائع الجولان ، فالشعب الفرنسي عموما، و طلاب السوربون خصوصا، ليسوا أغبياء و يطلبون أن هاتوا برهانكم (غليونكم) إن كنتم صادقين.
فيتجنب الدكتور غليون أن يكذب الكذبة الكبيرة لكنه يحاول تمريرها لعقل القارئ غير المنتبه عن طريق متابعة التشبيهات على أسلوب لعم ...
و ثاني لعمات الدكتور غليون هي حين يكتب:
اقتباس:
(ففي جميع البلاد التي طبق فيها هذا النموذج أخفقت السلطة في إيجاد حلول ناجعة للمسائل الداخلية والخارجية التي واجهت ولا تزال تواجه بناء المجتمعات الحديثة والنامية منها خصوصا، سواء ما تعلق منها بالتنمية الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية أو المساواة القانونية أو مسايرة التحولات والتجديدات الحضارية أو مواجهة التحديات والاعتداءات الخارجية الماسة بالسيادة الوطنية).
فنقرأ هذا الكلام و نصاب بالذهول! طبعا لن نتحدث عن النظام الشمولي في المملكة السعودية -إذ لا يبدو هذا النظام مزعجا للدكتور غليون، أوليس هو من أشد المدافعين عن حق الإسلاميين بممارسة السياسة؟- لكننا سنأخذ نظام الإتحاد السوفييتي!
فهل حقا أخفق الإتحاد السوفييتي في إيجاد حلول ناجعة للمسائل التي واجهت مجتمع روسيا المتخلف؟ أولم يجعل الإتحاد السوفييتي من روسيا المتخلفة ثاني قطب عالمي في الإقتصاد و العلم؟ هل أخفق حقا في مواجهة الإعتداءات الخارجية الماسة بالسيادة الوطنية؟
طبعا الدكتور غليون لا يجيب على هذا السؤال لا بنعم و لا بلا، ذلك أن إجابته بلا ستفضح خواء كلامه، و إجابته بنعم ستجعل منه أضحوكة لدى طلاب السوربون، لا بل حتى لدى طلاب المدارس الإبتدائية.
لكن الدكتور غليون يلجأ لأسلوب اللعممة ، فهو ينطلق مما هو ثابت في ذهن القارئ العربي -السوري خصوصا- من أن الجولان مازال محتلا. و عوضا عن أن يهاجم الدكتور غليون الأسباب التي أدت لاحتلال الجولان و لبقائه تحت الإحتلال: اليسار العربي المغامر في الستينات، تعريص الخونجية في السبعينات، تدمير مقدرات الأمة في الثمانينات و التسعينات من قبل صدام حسين، عوضا عن أن يتحدث الدكتور غليون عن هذه الأمور القذرة فيفضحها و يفضح ما وراءها، نجده يتحدث عن كائن خرافي يدعى النظام الشمولي فيتهمه أنه سبب كل مشاكلنا، لا بل يا سيدي و هو المسؤول عن سقوط روما!
و آخر ما سنعقب عليه من لعمات الدكتور غليون هي حين يمسخ عبارة غرامشي الشهيرة، يمسخها مسخا فيكتب:
(هكذا يتفكك النظام القديم ويموت في مناخ مفارق يختلط فيه التفاؤل والأمل والانطلاق بالتوتر والشعور المتزايد بالتهميش والإحباط واليأس. وهو مناخ مثير للقلق والحيرة وحامل لكل الاحتمالات).
هنا يفور دمي الماركسي المتعصب إذ أتذكر العبارة الرائعة لغرامشي القديم يحتضر، و الجديد يولد بصعوبة فأرى كيف يمسخ هذا الكلام المقدس على يد مثقفي آخر زمن و أقول:
يا دكتور غليون، ليس كل من قلد غرامشي صار غرامشي. و ليس كل غراب بقادر على تقليد مشية الحجل!