أصبح معرض الرياض الدولي للكتاب، الذي اختتم فاعلياته، رمزاً للتغيير الاجتماعي الخفي في السعودية، فهو يُظهر الانفتاح على الثقافات الأجنبية حيث يختلط الرجال والنساء - وهو أمر غير معتاد في المملكة - في المساحة نفسها فيما يتصفّحون الأعمال المنشورة حديثاً.
ويوصَف المعرض الذي نظّم دورته السادسة هذه السنة، بأنه الحدث الثقافي الأكبر في الشرق الأوسط. لكن عندما افتتحه وزير الإعلام، الليبرالي عبد العزيز خوجة، في مطلع الشهر في إحدى صالات العرض في العاصمة، اقتحمت مجموعة من الشبّان الملتحين المكان. وأمروا النساء اللواتي يحتجبن جميعهن خلف عباءة سوداء فضفاضة تغطيهنّ من الرأس حتى أخمص القدمين، بأن يخبّئن وجوههن أكثر وأنّبوهنّ لأنه لم يكن يجدر بهن أصلاً الخروج في العلن. وانتقدوا أيضاً خوجة متّهمين إياه بـ"غربنة البلاد".
نفت الفرق الدينية الرسمية المعروفة بـ"المطاوعة" التي قُصَّت أجنحتها أخيراً بعد سلسلة من الانتهاكات التي جرى تسليط الضوء عليها على نطاق واسع، انتماء الشبّان إليها، وزعمت أنهم حرّاس مستقلّون لأخلاق المجتمع. وقد أوقِف بعضهم لاحقاً إنما أخلي سبيلهم بعد تدخّل رجال دين محافظين يتحوّلون الآن، على غرار عدد كبير من السعوديين، إلى الإنترنت لنشر رسالتهم. فقد أطلقوا مجموعة عبر موقع "فايسبوك" واستعملوا موقع "تويتر" للضغط من أجل الإفراج عن الشبّان.
أما السعوديون الأكثر ليبرالية فقد طرحوا من جهتهم سؤالاً أوسع نطاقاً: هل كانت هذه رسالة موجَّهة من عناصر في العائلة المالكة لتذكير السعوديين الذين تأسرهم الثورتان المصرية والتونسية بأنه من شأن كبح سلطات الملَكية والضغط من أجل الديموقراطية أن يدفعا بالقوى الإسلامية الأكثر راديكالية إلى الواجهة؟
يقول عبد العزيز القاسم، وهو محامٍ ومحلّل سياسي "ما حصل في معرض الكتاب هو استعراض قوة للمطالب الإصلاحية الأخرى . إنها اللغة نفسها التي تستعملها حكومات عربية عدّة لتقول إما نحن وإما الراديكاليون ".
وفيما يجتاح ربيع العرب المنطقة، أثار احتمال وصول الروح الثورية إلى السعودية حماسة شرائح من شعبها وتسبّب بالقلق لحكّامها. وأثّر أيضاً في الآراء عن الاستقرار السعودي في الخارج، إذ بات مزيد من المحلّلين والخبراء الاستشاريين يعتبرون الآن أن السعودية ليست محصَّنة ضد الاضطرابات.
لكن إذا كانت الثورة المصرية التي أرغمت حسني مبارك على التنحّي من الرئاسة قد أربكت الولايات المتحدة وأوروبا، فمن شأن أي بادرة تغيير في السعودية التي هي المنتِجة الأكبر للنفط في العالم وتمارس ثقلاً كبيراً في العالم الإسلامي، أن تُعتبَر زلزالية. قلة من الأشخاص داخل المملكة أو خارجها يتوقّعون اضطرابات وشيكة. لكن المحلّلين والديبلوماسيين يحذّرون من أنه في غياب الإصلاح السياسي المهم - بما في ذلك داخل العائلة المالكة الممتدّة والمبذِّرة التي تتألّف من نحو 7000 أمير يشكّلون آل سعود - لا يمكن اعتبار استقرار المملكة من المسلّمات.
في بلد يُحظَر فيه أي شكل من أشكال التجمّع، لم يتجاوز عدد المحتجّين حتى الآن بضع مئات، أي بفارق كبير عن الجماهير التي نزلت إلى الشوارع في بلدان عربية أخرى. بيد أن المؤشّرات عن اتّساع المزاج الراغب في التغيير أخافت المستثمرين وأبعدتهم، مما أدّى إلى تسجيل البورصة السعودية أدنى مستوى لها منذ 22 شهراً.
حتى إذا تجنّب الملك عبدالله، 86 عاماً، تحدّياً شعبياً في ما تبقّى له من سنوات، فمن شأن الفشل في تبنّي نظام سياسي أكثر شمولاً أن يخلّف وراءه تراكماً من الإحباطات التي قد تنفجر في وجه خلفائه - والخليفتان الأكثر مباشرةً متقدّمان في السن ومريضان أيضاً لكنهما يفتقران إلى الدعم الشعبي الذي لا يزال الملك قادراً على التعويل عليه. يقول الناشط السياسي محسن العواجي "غيّرت مصر المزاج العام، يريد الناس الآن برنامجاً للحرّية والكرامة والوظائف".
عاد الملك عبدالله في 23 شباط بعد ثلاثة أشهر من العلاج الطبي، إلى شرق أوسط تغيّر جذرياً. راقب السعوديون بذهول فيما كان المتظاهرون التونسيون والمصريون يطيحون اثنين من أقوى الأنظمة في العالم العربي، ورحّب كثر بالتأثير الذي أملوا في أن تمارسه التطورات في مصر على السعودية.
عندما يناقش السعوديون الآن السياسة، غالباً ما يميلون إلى الكلام عن "ما بعد مصر أو ما قبلها"، للتشديد على أن العالم تغيّر وسقف مطالب المجتمعات العربية ارتفع.
استُقبِل الملك بثلاث عرائض صادرة عن ناشطين في مجال الديموقراطية يطالبون بملَكية دستورية ووضع حد للفساد. وقد نظّمت مجموعة من المحتجّين تجمّعاً نادراً أمام مسجد الراجحي في الرياض قبل أسبوع، وأطلقوا شعارات ضد الحكومة. ودعت مجموعة أخرى على موقع "فايسبوك" إلى "جمعة غضب" بإلهام من الثورة المصرية بهدف الضغط سلمياً من أجل الإصلاح، واستقطبت بضع مئات المؤيّدين عبر الإنترنت. ثم تصدّت الشرطة لثلاثمئة متظاهر في مدينة القطيف الشرقية الغنية بالنفط، فأطلقت النيران لتفريق الحشود مما أسفر عن إصابة ثلاثة أشخاص بجروح.
وكذلك شجّعت الانتفاضة في البحرين المجاورة حيث تحكم أقلّية سنّية السكّان ذوي الغالبية الشيعية، الشيعة في السعودية الذين يشكّلون حوالى 10 في المئة من السكّان، على رفع صوتهم أكثر. ونُظِّمت تجمّعات عدّة للمطالبة بالإفراج عن السجناء المحتجزين من دون محاكمة منذ تفجير مجمّع عسكري أميركي في مدينة الخبر الساحلية في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط عام 1996.
يقول جعفر الشايب، وهو ناشط شيعي "المنطقة بأسرها تتغيّر، وقد اتّخذت حكومات أخرى خطوات جدّية. لكن الإصلاحات لا تقتصر فقط على الشيعة - فالسعودية بكاملها تريد الإصلاح".
غير أن رد النظام لم يكن حتى الآن متماسكاً ولا منسجماً مع التوقّعات. فقد أعلن الملك لدى وصوله من المغرب حيث كان يمضي فترة نقاهة بعد خضوعه لعمليّتَين جراحيتين في ظهره في نيويورك، عن رزمة استثمارات اجتماعية قدرها 135 مليار ريال سعودي (36 مليار دولار) لتحسين السكن والتعليم وخدمات أخرى. صحيح أنها معونة مرحَّب بها في بلد حيث لا يزال الدخل الفردي السنوي وقدره 16600 دولار، دونه في دول الخليج المجاورة المنتجة للنفط، وتتجاوز بطالة الشباب 30 في المئة، إلا أنها تشكّل عودة إلى الأيام التي كان الناس يطلقون فيها أيدي حكّامهم في الحكم طالما أنهم يحصلون على الخدمات.
يبدو أن هذه المبادرة فشلت في إدراك أن ما يرغب فيه الشعب الآن هو التغيير السياسي والمساءلة. فإلى جانب المحفّزات التي قُدِّمَت في يد، لوّح النظام بالعصا في اليد الثانية. فقد اعتُقِل مدرّس تجرّأ على نشر فيديو على موقع "يوتيوب" يدعو إلى طرد آل سعود، ويصفهم بأنهم زمرة فاسدة تبدّد ثروات البلاد. واعتذرت قبيلته لاحقاً من الملك. وأوقِف أيضاً إمام شيعي دعا إلى قيام ملَكية دستورية، مما أثار مزيداً من الاحتجاجات في القطيف والإحساء في المنطقة الشرقية للمطالبة بالإفراج عنه. وقد أخلي سبيله لاحقاً.
واعتُقِل أيضاً أربعة أشخاص في مجموعة من تسعة ناشطين كانت قد أعلنت تأسيس حزب سياسي. وأخلي سبيل اثنين بعد توقيعهما تعهّداً بعدم إعادة الكرّة. وأوقِف أيضاً بثّ البرنامج ذي الشعبية الواسعة الذي يقدّمه الشيخ سليمان العودة على قناة "إم بي سي" المملوكة من السعودية، وهو إمام وقّع إحدى العرائض المطالبة بالإصلاح ويقول إن الاحتجاجات ضدّ الحكّام غير العادلين ليست ضد الإسلام.
بيد أن المراقبين الغربيين والمحلّيين يقولون إن العائلة الحاكمة تناقش أفكاراً للإصلاح السياسي. منذ وصول عبدالله إلى العرش عام 2005، أطلق نوعاً من التحرير الاجتماعي، فخفّف من حدّة بعض القيود الشديدة التي كانت مفروضة على النساء، وأنفق مبالغ طائلة على إصلاح التعليم والقضاء وأتاح مجالاً أكبر للتعبير عن الرأي. لكن سلوكه حيال التغيير السياسي كان فاتراً دائماً.
أجرت المملكة، تحت تأثير الضغوط من الولايات المتحدة، انتخابات بلدية جزئية عام 2005 لم تتمكّن النساء من التصويت فيها. وقد تبيّن أنها تجربة لمرة واحدة فقط. ويقال إن الخطوات المتواضعة الأخرى التي كان يُتوقَّع أن تستتبع الانتخابات البلدية آنذاك - بما في ذلك انتخاب نصف أعضاء مجلس الشورى، وهو عبارة عن هيئة استشارية لا تتمتّع بأي سلطة تشريعية - أصبحت مطروحة من جديد الآن.
يقول محلّل سعودي "يعرف الإصلاحيون في العائلة إن عليهم أن يباشروا بالإصلاحات الآن كي يتمكّنوا من الاستمرار. قبل أعوام، قال الملك إنه يتبنّى الأجندة الإصلاحية، لكن لم يتحقّق شيء. لو بدأت الإصلاحات آنذاك، لتفادينا الضغوط اليوم".
يقول عبدالله المالكي، وهو أستاذ جامعي في جدّة، إن مجموعات شبابية عدّة تعقد اجتماعات أسبوعية في المدينة الثانية التي تتّسم بانفتاح اجتماعي أكبر، ويناقشون فيها معنى الإصلاح "لا يريد الشبّان تغيير النظام، بل يريدون إعادة تعريف العلاقة معه. لا يريدون أن يُعامَلوا كمرؤوسين بل كمواطنين يشاركون في بناء البلد. ليست لديهم مخاوف أو خطوط حمراء".
لطالما كانت الحجّة المناهضة لزعزعة النظام السياسي تعتبر أن المملكة التي وحّدتها العائلة المالكة قبل 79 عاماً فقط، هي مجتمع معقّد تسوده انقسامات عميقة بين الليبراليين والمحافظين، بين السنّة والشيعة، بين المناطق المتنافسة والقبائل. وقد ظهرت مؤشّرات هذه الانقسامات في الأسابيع الأخيرة مع انتقاد عدد كبير من السنّة السعوديين للانتفاضة في البحرين واتّهامهم الشيعة السعوديين بأنهم عملاء إيرانيون عندما بدأوا هم أيضاً ينظّمون احتجاجات.
فضلاً عن ذلك، يصعب قياس تأثير الليبراليين، حتى في أوساط الشباب، الذين يحلمون بديموقراطية على الطريقة الغربية، نظراً إلى أن النظام السياسي منغلق إلى حد كبير. فقد اعتُبِروا حتى الآن بأنهم أقلّية؛ واعتُبِر المحافظون الذين تدعمهم المؤسسة الدينية القوية بأنهم يشكّلون قوّة أكثر تأثيراً. بالفعل، يشهد تاريخ السعودية على أن الإصلاحات تُفرَض من الأعلى، وفي معظم الأحيان لا يقبلها المجتمع المحافظ إلا على مضض.
لكن في حين أن تأثير التغيير السياسي يمكن أن يكون أشد خطراً على السعودية والعالم الخارجي من التغيير في بلدان عربية أخرى، يواجه الحكم إجماعاً متزايداً حول ما يريده الناس، أي نظام أكثر تمثيلية وخضوعاً للمساءلة حيث لا تحتكر العائلة المالكة السلطة. فقد وقّع 330 شخصاً على العريضة الثالثة التي أُرسِلت أخيراً إلى الملك، وبينهم ليبراليون ومحافظون وإسلاميون ونساء.
يقول المحامي القاسم إن السعوديين أخذوا درساً مكثّفاً في الحقوق المدنية والديموقراطية في الأسابيع الأخيرة، ولن ينسوا الأمثولة بسهولة. يقول "تسرّب الغاز إلى داخل المنزل؛ فإما ينفجر الوضع وإما يجري التعامل معه بحكمة من خلال الإصلاحات. إنها المرّة الأولى التي يضع فيها الليبراليون والإسلاميون والتكنوقراط والملحدون أسماءهم على لائحة واحدة ويتّفقون على شيء واحد، الإصلاح".
ترجمة نسرين ناضر
(فايننشال تايمز)