إن تناول حدث الإنتفاضات العربية وتحليله يفترض إرجاعه لعوامله وحوامله الزمنية والمنطقية, و إخضاعه لقوانين الجدل التي تحكم العلاقة بين مكوناته الداخلية وبين علاقتها بالمؤثر الخارجي.
ونحن حين نتكلم عن الجدل الداخلي, نتكلم في الحقيقة عن(ثوابت) قهرية ألغت كثيرا من حيويته ومدى قدرته على تصحيح المسار وتنقية المستنقع الذي أسنت مياهه .
وفي صراع الداخل مع الخارج
لابد للمراقب من أن يلحظ :
تزامن انطلاق الجدل الداخلي الجديد مع زيارة مستشار الملك السعودي لدمشق,وعلى الفور طار وليد المعلم إلى طهران وأعلن أن قوات درع الجزيرة التي دخلت البحرين هي عملية(قانونية) ضمن إطار مجلس التعاون الخليجي وإطار(العروبة) )وتغاضى المعلم عن أن هذه القوات قد دخلت لنصرة حاكم ضد أغلبية شعبه وتثبيته, وتزامن هذا مع تفتيش للطائرات الإيرانية القادمة إلى دمشق من قبل تركيا التي تجد نفسها خارج اللعبة الإقليمية.
وفي نفس الوقت زار دمشق مدير المخابرات المصري الجديد في رسالة (ليبية) وأن القرار الغربي بضربها قد اتخذ.
وهذا الحراك غير بعيد عن انتفاضة البحرين ,واليمن .
لقد حكمت الأنظمة واستقر حكمها اعتمادا على المظلة الخارجية ودعمها ومباركتها , ولهذا تم اهمال العامل الداخلي واسقاطه ..حتى برز أخيرا كعامل جديد أساسي وحاسم في المعادلة , ومن هنا تأتي أهمية أن تعي هذه الأنظمة هذا المتغير وتدخله في حساباتها .
يضاف لما سبق المتغير الثاني وهو ثورة الإتصالات والتواصل التي أوجدت قواسم مشتركة بين ما قسّمته السياسات العربية وغربته وعزلته.
وما يجري حاليا على امتداد الساحة العربية , ليس حدثا عابرا ,أو انتفاضة تنتهي بغلبة أحد الأطراف وحسب , بل هو نتيجة مؤكدة لعدد كبير من العوامل التي سبقته ومهدت له ,
وهو أمر مستمر ومتفاعل منذ مدة وما ظهر أخيرا هو بداية طويلة لهذا المسار ,وهذا له تفاعله الخارجي بحيث أن وجهته النهائية قد يحددها من لديه القدرة والقوة كي يقبض على الزمام ويوجه العربة الجامحة وفق رغباته ومصالحه.
إن الثوابت القهرية :
فساد ..فوضوي ومنظم,غياب المحاسبة ,انحدار مستوى التعليم , تدني الخدمات الطبية ,رسملة الدولة وخصخصتها,
غياب تام لقضاء مستقل , قانون طوارىء وغياب للدستور, هجرة الكفاءات والأدمغة ,إعلام حجري مريض غير قادر على إقناع نفسه .
إضافة للمباركة الخارجية قد أفرغت الأنظمة العربية من أي مرتكزات حقيقية ولم تعد تنفع الأساليب القديمة بعد الآن , بل يجب البدء الفوري بنسج شبكات الأمان الإقتصادية والإجتماعية مع تحقيق تدرج مجدول بحدود زمنية للإصلاح السياسي وإطلاق الحريات.
وقد أثبتت الأحداث أن الخارج لم يعد قادرا على تأمين الحماية لأي نظام ليس له مرتكزات داخلية .
لم يبادر أي نظام عربي حتى الآن لمد مظلة أمان داخلية (اجتماعية ,سياسية, اقتصادية)تحميه وتحمي قراراته وتعطيها زخما ومصداقية.
وهي الوحيدة التي تحمي بعد اليوم وهي التي همشت وغيّبت وجرى الإفتئات عليها وتطييفها وسحقها اقتصاديا.
لقد جرت الأنظمة على إيقاع الشارع الذي سبقها كثيرا,وقدمت تنازلات متتالية كانت بلا مغزى ولم يصدقها الناس لأنها لم تأت بخطة واعية ومبرمجة تحمل مصداقية , بل أتت تحت الضغط , والمطلوب هو خطوات حقيقية تصنع تغييرا بوعي وتخطيط مسبق, وهذا ما سيمنح الأنظمة أوراق قوة جديدة في وجه الخارج ومطالبه -لقد رأينا الحال المؤسفة للداخل المغيب والمقموع في العراق وليبيا الآن في مواجهة الخارج- وإلا فإن هذا سيأتي تحت وطأة الضغط في الشارع .
وفي سوريا...
بغض النظر عن ما ستؤول إليه التظاهرات الأخيرة في درعا وقد وقعت في خطأ العنف في أول اختبار جدي لها على عكس انتفاضة مصر ,حيث تحولت من تظاهرات مطلبية سلمية وعادلة إلى أعمال حرق وانتقام رأيناها على المقاطع المسربة ,فالمطالب هي مطالب عادلة ولا يجب القفز عليها , بل يجب أن تشكل جزءا من مسار حقيقي للبناء , بعد فشل السياسات الإقتصادية والإجتماعية الحالية.
الشعب يؤمن بخيارات سوريا الخارجية ويعي حدود المعادلات الإقليمية والدولية,ولكن هذه ستبقى ناقصة بدون مرتكزات , ومعرضة للخطر إن لم يتم تأمين مظلة الأمان الداخلية التي تحمي هذه الخيارات.
وهي تحتاج لقرار ..
فهل تفعلها ..سورياالآن؟