لنتفق أولا على أن ما فعلته أنظمة الحكم المتعاقبة في الدول العربية , من فشل ذريع في مشروع بناء الدولة الحديثة المسايرة لركب التقدم والعدالة, وما خلّفته من فوضى وفقر وحرمان وظلم وتسلط , ليس جديرا بأن يستنهض التحرك الشعبي للمطالبه بحقوق وحسب بل لهو جدير بأن تتم الثورة عليه كليا بجميع تفاصيله.
وحتى لا تأخذنا الحماسة والحمية لنقر ثانيا أن مفهوم "الثورة ", من أكثر المفاهيم التي تشوهت ,ومن أكثر المفاهيم التي تم استخدامها مطية لأهداف لا علاقة لها بالثورة ولا بالمجتمع ,بدءا من ثورات التحرر,الثورة العربية الكبرى التي بدأها العرب للتحرر من الأتراك وإقامة الدولة العربية في المشرق العربي لتنتهي بسايكس بيكو وينتهي الأمر بزعيمها إلى المنفى .
ثم الإنقلابات العسكرية التي سميّت ثورات , وجرت بين مجموعة صغيرة من الضباط صغار الرتب , وكان الشعب يسمع بقيام (الثورة) من الإذاعات فقط (يوليو في مصر,شباط في العراق,آذار في سوريا ,الفاتح في ليبيا وسواها).
وصولا للحراك الشعبي العربي اليوم ,الذي لم ينجح سوى بتغيير الوجوه , ولا بد للمراقب من أن يسأل ما هي البرامج الإقتصادية والسياسية البديلة والقوى السياسية المنظمة الحاملة لها , هل ينتهي الأمر بتغيير وجوه في تونس وتعديلات دستورية في مصر؟!
ولنعترف ثالثا بأن أي جدل وحراك داخلي ليس معزولا بأي حال عن المؤثر الخارجي بل هو خاضع لقانون التفاعل معه سلبا وإيجابا بجميع مراحله ,وخلال القرن الماضي هناك أمثلة لا تعد على ذلك , وحديثا عدا عن الأساليب التقليدية للتدخل المباشر (العراق ,ليبيا, البحرين) والأساليب غير التقليدية والتأثير في سير الأحداث ,هناك طغيان الميديا وثورة الإتصالات .
من يشاهد الإعلام الرسمي السوري اليوم لابد أن يتساءل :ماذا جرى لهؤلاء القوم ؟وهو الإعلام الذي داب على مخاطبة نفسه , واستضافة من يهلل ويصفق أكثر , وكان مجرد انتقاد لأي سياسة حكومية يودي بالمذيع والمحرر وصولا للمخرج ربما في متاهة من الشكوك والأسئلة وربما تصل لمرحلة الطرد من العمل.ودأب الناس على مشاهدة القنوات الفضائية العربية والأجنبية تعويضا عن حوار غائب وبحثا عن حقيقة مجهولة.
وبعد التطورات الأخيرة ,فتحت القنوات والمحطات الفضائية و الإذاعية السورية أثيرها للناس ,وبدأ الناس يقولون اشياء لم يكن من المسموح بثها على الهواء ,وللمرة الأولى منذ زمن بعيد يبتعدالناس عن الدراما الإفتراضية ليروا دراما حقيقية تجري أمام أعينهم.
والملاحظ في الأمر هو أن معظم المتكلمين ليسوا من(المثقفين)بالمصطلح المتداول لبعض النخب,إذ يتكلمون بلغة سهلة مباشرة ,على عكس المعهود من خطاب استعلائي ,بعد أن اتضح أن دور المثقف يكاد يكون معدوما في هذا الحراك .
ولتعويض هذا النقص يتحفنا المثقفون كل مدة ببيان , يوقع عليه العشرات منهم , أما لمن يصل ومن يقرأه , فهذا ليس الهم , الهم أن يسجلوا حضورا.
وعلى الرغم من الطبع السوري الحاد وعدم القدرة على التخلص من الشكوك والتهم الجاهزة فمن يدافع يتهم بأنه عميل للسلطة ومن ينتقد يتهم بالعمالة للخارج , إلا ان الكثيرين يرحبون بهذا الحراك وإن أتى متأخرا , هو دليل عافية وهو تدريب على قبول الآخر المختلف من قبل الإعلام والناس, وقد تكون هناك أخطاء ومطبات وربما طرائف يتداولها الناس , ولكن لا شيء يأتي كاملا .
إن المجتمع السوري يدفع اليوم ثمنا كبيرانتيجة غياب وتغييب نخبه,أما السلطة فقد غرقت هي الأخرى في عزلة نرجسية ,جعلتها تفقد أدوات التعامل مع الواقع ولا تنظر إليه إلا من باب جمعي لا يميز بين مفرداته ولا يتعب نفسه في الغوص بوحوله وهمومه.
وأمام هذه الهوة ,يتأزم الموقف في سورياويبحث عن خيوط تواصل .
لقد همشت السلطة تلك الروابط العابرة للطوائف والمكونات المجتمعية وأقامت تحالفا براغماتيا مع بورجوازيي المدن الوسطى في سوريا,ضاربة بعرض الحائط مصالح الطبقات الوسطى والفقيرة, ولم يكن الخطاب الديني أفضل حالا بل أكملت التيارات الدينيةالمتشددة المهمة باستبسال أكبر وقامت بإلغاء الآخر تماما وأقامت كيانات متكلسة,يصعب على الروابط العابرة أن تخرقها,هذه الروابط يمكن إيجازهاب:
روابط مصلحية ,اجتماعية , ثقافية,نضالية,
لقد انتفى النضال منذ وقوع نظريات الإنقلاب الثوري في رغد العيش الرأسمالي وبات النضال سلعة بائتة ,والثورة باتت تعني تغيير طبقة حاكمة والمجيء بأخرى أشد وأمر (رغم وصف ما يحدث في الدول العربية بالثورة,لكن هذا المخاض لم يسفر عن تغييرات جوهرية ..بل إن الثورة في مصر أصبحت تحتاج لثورة لإنقاذ الثورة, والثورة في ليبيا باتت تحتاج لقوات النيتو لإنقاذها!؟)
أماالروابط الثقافية, فقد تم ضرب الثقافة كونها عملا منظما متقنا وليد منظومة تفكير عقلانيةومنطقية , وسط خواء الفضائيات وسيطرة الدجل والشعوذة والخطابات الدينية المتشددة التي تقصف بها عقول الشباب, وساهم المثقفون في إكمال المهمة بعزلتهم .
ولم تتم إتاحة المجال لنمو أية تجمعات وعي تعبر الطوائف والمجموعات ,ودع الحديث عن الأحزاب فتأثيرها إن وجد فهو سلبي , أو بعيد عن الفعل والواقع.
إضافة للتدمير المستمر للطبقة الوسطى التي تشكل صمام أمان المجتمع , والولادة التي تنتج الشخصيات العامةوالكوادر القيادية في مختلف المجالات .
لصالح طبقة وسيطة متمولة ,تم صنعها أو تمت المحالفة معها لتشكل ظلا للأنظمة.
وأما الروابط الإجتماعية فهي تبقى في حدودها الدنيا من علاقات مصاهرة وقرابة وجوار.
تبقى الراوابط المصلحية , وهي في الحقيقة الروابط الوحيدة الباقية , بفعل تساقط الروابط الأخرى وهي بقيت لوحدها نتيجة قانون الضرورة .
من المؤسف في الحراك الذي تشهده سوريا اليوم أن لا نجد من بين كل هذه المكونات المجتمعية سوى الممثلين في التلفزيون , لكي يقوموا بدور تهدئة بؤر التوتر , وطمأنة الفئات المختلفة , وتشكيل الجسر اللازم مع السلطات المعنية .
إن ما يجري يذكّر كثيرا في جوانب منه بروايات غابرييل ماركيز في تناوله لمفهوم العزلة.,عزلة الحاكم , وعزلة المثقف.
في سوريا ,توجد معظم العوامل التي تعاني منها الدول العربية التي شهدت حراكا وثورات ,والمطالب عادلة ومشروعة ولكن ما يجري فيها الآن مختلف عما سبق , كيف ولماذا؟
أولا:إن ما يجري لا يرقى للثورة,فالثورةتعني من جملة ماتعنيه (قلب للوضع القائم واستبداله بوضع جديد مختلف كليا عنه أكثر نهوضا وحداثة) وما يجري من حراك سوري هو حركة مطلبية سقفها إلغاء تشريعات ووضع تشريعات جديدة .
هذا هو المعلن , وهذه هي الشعارات على الأرض, وسنصدق المطالب التي نشرها (الثوار) على موقعهم ضمن صفحتهم على الفيسبوك.
ثانيا :لا يمكن القول إن الحركة المطلبية هي حركة وطنية شاملة,لا بمعنى المطالب نفسها, إنما بمعنى انخراط محتلف الفئات والمكونات والمدن السورية فيها, ولقد وجدنا في مصر مثلا منظرا لافتا عندما صلّى المسلمون وقام المسيحيون بحمايتهم .
ثالثا:لايمكن توصيف الحركة المطلبية بأنها حركة مجتمعية,فقد اقتصر الحراك النسائي على تصريحات إعلامية للسيدتين سهير ومنتهى(سجل ظهور نسائي بنسبة قليلةعلى الأرض في بانياس مؤخرا),ولكن على الأرض اقتصر الحراك على الرجال .
رابعا:لا يمكن القول بأن هذه الحركة سلمية تماما,وإلا ماتفسير الإقتحام الذي جرى في الصنمين لمركز للجيش الشعبي الذي هو بمثابة نقطة تخزين للأسلحة .
وما تفسير اقتحام نادي الضباط الحمصي وقتل الحارس المناوب فيه ليلا, وما تفسير جرحى الشرطة والقتلى العشر في اللاذقية , وما تفسير قتل شرطيين في ريف دمشق أخيرا,عدا عن أعمال الحرق والتخريب.
خامسا:لا يمكن القول إن هذه الحركة لا تنطلق من معتقدات دينية متشددة
فالحركة تنطلق من المساجد حصرا,وتشير الهتافات ومناطق الحراك عليها,كماتشير بعض المطالب كذلك ,وتمت مباركتها والدعوة إليها من قنوات دينية أصولية, ورغم النفي المستمر لمن يدير صفحاتها على الإنترنت لذلك ولكن تمتلىء هذه الصفحات بأقوال متشددين دينيين ودعواتهم.
سادسا: لا يمكن القول إن هذه الحركة تحمل برنامجا واضحا وبديلا وطنيا , إن المطالب هي وطنية , ولكن ماهو برنامج هذه الحركة ووفق أي نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يريدون للبلد أن يحكم , وماهي بدائلهم؟
ذاك أن الأوطان حين تنهار، ولا تكون هناك بدائل تفوق أنظمتها وعيا وحداثةً ، تذهب الإحتمالات إلى أوضاع تكون أسوأ من أسوأ مافي هذه الأنظمة .
سابعا: إن هذا الحراك غير معزول عن المؤثر الخارجي ,بل هو خاضع لتأثيره سلبا وإيجابا.وبغض النظر عن التفاصيل على الأرض التي لا نملك معلومات عنها ولكن هناك دلائل قوية على هذا التدخل (خطاب القرضاوي,كلام هيثم مناع عن عرض إدخال أسلحة لدرعا التي رفضت ,تصريح رياض الشقفة في اسطنبول,انغماس القنوات المتشددة دينيا والموجودة في السعودية في الشأن السوري,تصريحات غربيةمؤيدة أو منتقدة مهددة...).
ثامنا:هل تمارس هذه الحركة المطلبية ممارسات السلطة؟
نعم للأسف , وفي عناوين عريضة:
مارست التضليل الإعلامي في نشر أخبار غير موثوقة ,وتضخيم أحداث أخرى, تم نفيها بعد ذلك.
مارست عملية الخداع المقصود , في إنتاج ومنتجة مقاطع فيديو وصور مفبركة .
مارست عملية قمع الآخر المختلف ,ونعته بنفس الأوصاف التي ينعتون هم بها من عمالة للنظام إلى الإتهامات بالجبن والخروج بالقوة في مسيرات التأييد إلى نصب محاكم التفتيش وقوائم العار لكل من يدلي برأي لا يوافقهم , بل وأخيرا أصدروا قائمة ب(مدن العار) التي لم تشاركهم الحراك.
مارست العنف على الأرض ,إن كان بالتخريب والحرق أو حتى القتل .
مارست عملية التجييش الديني والطائفي وظهرت هتافات مذهبية على الأرض .
ما هي الخيارات الواقعية للوضع في سوريا؟
إن ما يحدث في سوريا هو حركة مطلبية لها جذور عميقة نجمت عن استبداد وفساد إداري وفشل في البناء,وهي أتت لتقدم الدواء لكنهاتحمل داءها معها فهي لا ترقى لأن تكون( ثورة ,وطنية بمعنى شموليتها,مجتمعية,سلمية,متحررة من التشدد,تحمل برنامجا بديلا), وهي لا ترقى لتكون حركة وطنية تطمئن الناس وتقنعهم,وهي وقعت سواء بإرادتها وبنيتها أم بنتيجة الممارسة على الأرض بأخطاء و ممارسات سلطوية ,تدعي الثورة عليها.
بعيدا عن الأخطاء وبعيدا عن التسميات والتوصيفات,وفي ظل غياب الرؤى العابرة والروابط المجتمعية ,سيبقى هذا الحراك أسير هذه الإعتبارات وسيقع في السلبيات أكثر فأكثر ولن ينقذه منها ويأخذه ويأخذ البلاد إلى حالة إيجابية إلاعندما يتم التقاطه من قبل السلطة مباشرة وتجذيره ببرامج وخطط تؤدي لمعالجة أسبابه الجوهرية ,خاصة وأن المطالب المعلنة هي مطالب حق وهي قد تعود بالخير والقوة على المجتمع في حال تبنيها واعتبارها مطالب وطنية من قبل السلطة ,وسيرتد سلبا إذا تم التعاطي معها بطريقة براغماتية , مجرد إرضاء لهذا الطرف أو ذاك , فهذا قد ينفع لوقت قصير لكنه سيؤدي لتفاقم الأمور في المستقبل القريب .