آخر الأخبار

دائرة الطباشير السورية

-----------------------
في غمرة الحدث السوري, برزت تداعيات وتطورات كانت غامضة في البدء ولكن تطورالأحداث ونوعيتها كشف عن جوانب خطيرة , فالأمر تعدى مرحلة الاحتجاجات تحت عناوين محقة ,إلى ممارسات على الأرض تستهدف وجود الدولة لا كسلطة بل ككيان وإن دلالات الأحداث قد تجاوزت في بعض جوانبها الإعتبارات المحلية الضيقة .
وهي أمور اقل ما يمكن أن تؤدي له ,إلى تفتيت الدولة ككيان باستهداف رموزها وعناوين سيادتها وصولا لاستباحتها خارجيا. ومن هذه الرموز الوطنية العلم والنشيد الوطني ثم حدودها وجيشها وعملتها الوطنية ومقراتها على الأرض وتمثيلها السياسي والدبلوماسي ونسيجها المجتمعي.

وقبل أن نغوص في الشان السوري ,لنستعرض ما جرى أمام أعيننا في المثال الليبي
فكما هو معروف في الوقائع, تم استبدال الرمز الوطني الأول وهو العلم الليبي , حيث رفع الثوار علما مختلفا ,وتم النيل من كيان ليبيا الجغرافي بتكريس واقع جغرافي(شرق وغرب) وواقع قبلي(برقة,فزان,طرابلس) وتم نبش واستحضار الخرائط البالية والأرواق الصفراء كوثائق على أن ليبيا هي في حقيقتها قبائل وثلاثة أقاليم جغرافية , وترويج ذلك إعلاميا حتى يتكرس كأمر واقع .
وتم العمل على ضرب التمثيل الدبلوماسي والسياسي للدولة الليبية (استقالة سفراء ووزراء ).وتم تفكيك الجيش الليبي بانشقاق قادة ووحدات عسكرية مهمة والإستيلاء على مخازن ضخمة للأسلحة والذخيرة .
وتم تغيير النشيد الليبي , وحتى يكتمل الجسد الإنفصالي , كان لا بد من إلباسه بالإقتصاد ليتجسد كائنا ماديا فتم بيع النفط لحساب (الثوار) بواسطة الأتراك والقطريين , وباتت دولة شرق ليبيا موجودة ليس برموز وشعارات فقط بل ككيان مادي له كل مقومات الدويلة , وبانتظار نتائج المعارك التي يقودها النيتو لرسم الحدود النهائية لهذه الدويله سوف تبقى هذه الدويلة وكذلك الدويلة الأخرى (فاضل القسمة) تحت رحمةالسمسارين القطري والتركي , وطائرات النيتو.

وفي سوريا ..كانت المنطقة الجنوبية مهيّأة لتفجر الحدث لعدة أسباب , كون بقية المناطق محكومة باعتبارات وخصوصيات تجعل من الصعب نشوء حراك له طابع شعبي متفق عليه وجامع .
ففي جنوب سوريا, هناك العوامل القبلية التي تنجح في استثارة حمية القبيلة للدفاع عن خطر يتهددها أو للثأر من استهداف أفرادها , وهناك التماس الحدودي والإمتداد القبلي والعائلي مع منطقة الرمثا الأردنية , وهناك أخطاءالممارسات المعروفة .
لنتذكر قليلا تسلسل الأحداث ..
ففي حين أعلن المخططون لبداية الإحتجاجات في سوريا عن يوم 5 شباط كبداية لثورتهم أصيبوا بإحباط وفشل ذريع حين لم يستجب أحد لذلك ,بل ولقد شعرت السلطة بنوع من الزهو نتيجة ذلك , وأن الأمور في سوريا مختلفة .
ولكن كان يتم إعداد العدة لصنع مفجر ومحفز آخر , فتم نصب عدة كمائن وكان لا بد من أن تقع السلطة باحد منها (اعتقال فتية في درعا, التظاهرة النسائية أمام وزارة الداخلية ...) وحين تم اعتماد 15 آذار موعد جديد , كانت العدة قد تجهزت .
وفي حين بدا أن المحتجين قد امتلكوا زمام المبادرة في الأسبوعين الأولين , وأن كرة الثلج تتدحرج ,بدأوا يقعون في الاخطاء والخطايا التي تنجم عن نقص في الرؤية وعن القفز فوق محددات الواقع السوري وباتوا يصدقون أنهم بين ليلة وضحاها سيسقطون الحكم , فقفزوا فوق الأخطاء ولم يتوقفوا لدراسة احتمالاتهم الممكنة والواقعية .
ومن نتائج الفشل في توسيع رقعة الإحتجاجات وشمولها لمختلف أطياف المكونات السورية , تمت الإستعاضة عن ذلك بشد العصب الديني الطائفي كي تشمل المدن الكبرى على الأقل , وما الجرائم الطائفية التي تمت في بانياس والتي تمت بهدف استجلاب رد طائفي مقابل سوى بداية التجييش الذي أريد له أن يفرخ تجمعا وتحشيدا في مناطق أخرى .
ويمكن القول أن هذا الأمر ليس بعيدا عن دوافع خارجية , يمكن أن يكون لها اليد الطولى في رسم خطوات التصعيد على الأرض ,( خاصة بعد أن وضح ان السلطة في الأسابيع الأولى قد أبدت تفهما واستجابة لبعض المطالب وأبدت استعدادا لتنفيذ أخرى وهي تحتاج للوقت والهدوء ).
وكان للزخم الإعلامي الذي خصوا به وللتغطية الواسعة لاعمالهم وقرع طبول الفتاوى الدينية دورا كبيرا في تجاوزهم للواقع والوقوع في المزيد من الأخطاء التي كشفت بمرور الوقت عن أنهم أداة قد حمّلت مظالم وجور ممارسات سلطوية استبدادية , ولكن مع الوقت لم يعد مهما تصحيحها أو رفعها , بل أصبحت خدمة لطغيان آخر يتجاوز الحدود .

وفي الاسبوع الثالث انعطفت الأحداث نحو ضرب رموز الكيان السوري على نمظ السيناريو الليبي, فتم رفع علم يعود لعام 1930 يستبدل اللون الأحمر بالأخضر وبه ثلاث نجوم كانت تدل على وقتها على توحيد ثلاث دويلات أقامتها فرنسا وهي حلب ودمشق ودير الزور ,وبدأت حملة دعايات وإشاعات كاذبة ضخمة مبرمجة .
وتم تشجيع الدبلوماسيين السوريين في الخارج من أجل الإستقالة ,وكان حصيلة الحملة استقالة عضوين لمجلس الشعب (تراجع أحدهما) ,وإشاعة الأخبار عن موت وتصفية أبرز القادة السياسيين (فاروق الشرع ,المقداد ) بل وذهب البعض إلى حد التسلل لبيت النظام الداخلي وإدعاء أخبار منه وذهب البعض بعيدافي الإستخفاف بالعقول لحد القول أن ماهر الاسد قد صفع بثينة شعبان !!
ثم تم حرق مقرات ورموز الدولة على الأرض , والعمل على إشاعة الفوضى وبث الشائعات (وسط دعوات للكف عن دفع فواتير الكهرباء وزيادة مخالفات البناء بطريقة سرطانية ) ..
وتم العمل على إرتكاب جرائم طائفية بشعة , كي يتهدد السلم الأهلي , ويفقد الكيان أحد اهم ميزاته وما الشعارات الطائفية التي أطلقت بعزارة لافتة في شوارع الساحل السوري إلا دليلا وما محاولات قتل الناس على الهوية والتمثيل بالجثث إلا شواهد صارخة على الرغبة في استشارة الطوائف للرد بنفس الطريقة والغرق في الفوضى .
وتم العمل على ضرب العملة الوطنية من خلال سحوبات غير طبيعية للعملات الأجنبية , إضافة لتعطيل وشل دورة الحياة الإقتصادية , وهذا قد كبّد الخزينة السورية خسائر جاورت عتبة ال500 مليون دولار.
وبدا أن تركيزا أخيرا على الجيش السوري , يفقد الكيان آخر رموزه , فتم العمل على ضربه بشتى الوسائل فتم بث الشائعات أن خلافات قد وقعت فيه بل وأن( قتالا) يجري بين وحداته .
وتمت مهاجمة العديد من المراكز المنعزلة , لضرب هيبة هذا الجيش واستسهال الإعتداء عليه وتشويه صورته .
وركزخطباء الجوامع في درعا في الفترة التي انسحب فيها الأمن منها , على أن درعا منطقة (محررة) .
وسيتم إغلاق هذه الحملة الضخمة خارجيا بإصدار قريب للقرار الظني بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري , وما سيتضمنه من اتهام لعناصر من حزب الله كما تم تسريبه منذ مدة وبذلك سيتم وضع سوريا ولبنان أمام سيناريو جهمني يتضائل أمامه السيناريو الليبي .

إن جميع هذه الوقائع تثبت ان الإستهداف يتوجه تحو مكونات ومقومات الوطن السوري ووجوده ودوره و مصدر قوته وإن هذا لا يدخل في باب حسن النوايا أو سوئها , ولا عن عدالة المطالب وأحقيتها ,بل في باب تشريع الباب للخارج كي يملي إرادته على وطن مشرذم متفكك ضعيف تسكنه الهواجس وعمليات الإنتقام.
وحين يتم النيل من رموز السيادة ويتم العمل على تحطيمها وتفكيكها فهذا ليس تفكيكا للسلطة ,كما قد يظن البعض بل هو تفكيك للوطن لأن هذا هو المآل في النهاية , وحينها لا يعد مهما من سيرث هذا الوطن لأنه سيكون ضعيفا مشلولا منقسما على نفسه ,لصالح خيارات مجهولة وغير واضحة المسار,ومرتهنا لإرادة الخارج.

كتب الدكتور كمال أبو ديب مقالا بعنوان (محيطات الظلام وقتل المركز) , حيث أشار لأول مرة من أن التضخم المالي لدى دول الأطراف قد أدى بها للزهو والشعور بأن عليها أن تلعب دورا ربما يتجاوز حجمها ولكن يتناسب مع ثقلها المالي ,وقال بان هؤلاء ليس لديهم شيء يصدرونه سوى ثقافة التلحيد والتفتيت وهم لا يعدون أن يكونوا أدوات لقوى كبرى بحكم أن مصيرهم مرتبط بها وهم يستهدفون قيم حضارة التنوع في المركز (من بغداد إلى القاهرة) .ودعا المفكرين في دول المركز الحضاري لمقاومة هذا الغزو .

وبعيدا عن اية تحمينات وتكهنات واتهامات , وحسما لأي جدل , إن الوطنييين السورييين الذين يشعرون بالحرص على وطنهم ,مدعوون اليوم للوقوف عند حدود واقعية للإصلاح المنشود ,والمطلوب من المفكرين مقاومة استهداف قيم المجتمع السوري ووحدته ومن السلطة المضي في الإصلاح بشفافية وجدية لقطع الطريق على أي استغلال خارجي للحراك الداخلي وإضعاف سوريا لتمرير اجندات أخرى, فحين يضعف الوطن ويستباح للطغيان العالمي يصبح من العبث الحديث عن حريات ومطالب وعيشة كريمة ,ولاداعي لتكرار الأمثلة الحية امام الأعين.

إننا أمام دائرة طباشير ..سورية هذه المرة وإن أبناء الوطن الحقيقيون لا يرضون بإضعافه دعكم من تقسيمه في حلبة الصراع بين الأمم
أيا تكن الذرائع واليافطات وإن الأم الحقيقة للوطن لن ترضى بقسمه, فلن تحظى إلا على بقايا جثة ربما لا يتاح لها الوقت حتى للبكاء عليها.

7-5-2011
info@jablah.com