تبرز اليوم مفردة "الإصلاح" كوعدٍ أو كبرنامجٍ لوقف أو تهدئة الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها البلدان العربيّة. وفي المقابل، يواجهها المتظاهرون بمفردات "التغيير" أو "الإسقاط". هذه التعابير، وأخرى غيرها تُرفع هنا وهناك، لها دلالاتها في الأفق الاجتماعي السياسي، وتتطوّر مع تطوّر ديناميّة النهضة العربية الجديدة وفي المواجهة مع الأنظمة القائمة.
بالطبع، من ينظرون إلى هذه المواجهة على أنّها "مؤامرة" ليسوا معنيين بهذا الصراع الرمزي، وربّما حتّى بالصراع الحقيقي في الخلفيّة، وإنّما يريدون العودة إلى الوضع ما قبل تونس ومصر، وكأنّه ليست هناك جذور عميقة لما يحدث في أوضاع البلدان العربية.
من الناحية الاجتماعية، ما يميّز هذه البلدان هو وصول جيل "القفزة الديموغرافية" شباباً إلى سنّ العمل، في حين اعتُمدت سياسات في السنوات العشر الأخيرة لا تستطيع أن تخلق لهم حتّى نصف فرص العمل المتطلّبة، هذا فضلاً عن أنّ معظم تلك الفرص كانت غير نظامية وهشّة، أو تدفع نحو الهجرة. هذا عدا أنّ نموذج النموّ الاقتصادي ترك مناطق واسعة من البلاد دون تنمية وجعل محيط المدن الكبرى تكتظّ بهجرة ريفية وبانهيار الخدمات العامّة. من هنا يأتي أنّ الانتفاضات العربية يحملها أصلاً الشباب، الذين يطالبون تحديداً... بـ"الكرامة".
من الناحية الاقتصادية، أتى التميّز العربي من هيمنة الاقتصاد الريعي (النفط، الهواتف المحمولة، المضاربات العقارية، تضخّم القطاع المالي) وتراجع الزراعة والصناعة على السواء. لم يؤدّ هذا فقط إلى عدم دخول أيّ من الدول العربية نادي النهوض الاقتصادي الجديد، بل خاصّة إلى سيطرة أقرباء الحاكم وزبائنته على مفاصل الاقتصاد، ونشوء سلطة اقتصادية فوق الدولة. فهل الخروج من هذا النمط الاقتصادي ممكن عبر "إصلاح" فقط، أو يتطلّب قطيعة حقيقيّة مع النموذج السابق، أي... "التغيير".
الإشكالية هنا ليست رمزية، بقدر ما هي في آليات اتخاذ القرار الاقتصادي ولمصلحة من؟ إنّ الخروج من النمط الاقتصادي السابق يتطلّب قرارات حاسمة لها وقعها وأثرها، تقطع مع السياسات السابقة، وتحرّر الاقتصاد من المفاصل الاحتكارية وتسمح لمختلف الفعاليات بالعمل في مناخٍ آخر، وتقتصّ من التعديات على المال العامّ (أي ما هو ملك الشعب كلّه) لتعيد للدولة فعاليّتها في سياسات تحفيز وإعادة توزيع اجتماعية ومناطقية ضرورية. فعلى أيّ شرعية تؤسّس هكذا قرارات؟ أهي الشرعية القائمة التي تتحدّث عن "إصلاح" تحت ضغوط الاحتجاجات، علماً أنّ القرارات والسياسات السابقة كانت تؤخذ بتوجيهات من الملك أو الرئيس الحاكم نفسه (أو في الخفاء الأجهزة الأمنية)، أم هي شرعية جديدة تنتج عن... "التغيير"؟. تغيير في نظام الحكم نفسه، وليس فقط في شخص الحكومة.
على صعيد الحياة السياسية والحريات العامّة، ما ميّز العالم العربي هو إفراغ هذا الحيّز من مضمونه الفعلي، أي أن يكون حيّزاً لصراعٍ بين أفكار وبرامج سياسيّة وحركات اجتماعية تعتمد قاعدة شعبية تمكّن من إرساء تداولٍ على الحكم حسب تقييم نتائج النهج المتّبع. لكن هناك سلطة، وأجهزة حزبيّة تؤطّر زبائنيتها، وحكومات لا لون لها تعتمد خطاباً تقنياً وتوافقياً في الظاهر. سلطة فوق الدولة، تهيمن على الحياة، وحتّى على التعبير، عبر أجهزتها الأمنية. من هنا لم يكن ممكناً هزّ هذا "الاستثناء العربي" إلاّ عبر تعبيرٍ جماهيريّ واسع يطالب... "بالحرية". حرية التعبير، وحرية مساءلة الحاكم، وحرية تشكيل جمعيات وأحزاب، وحرية الفكر والاعتقاد والمعتقد، وحرية المواطنة. لم تخطيء السلطة في أن ترى في هذه المطالبة "تغييراً" وليس "إصلاحاً"، واستخدمت لمواجهته كلّ ما استطاعت من العنف المباشر، ومن المراوغة، ومن التحريض الطائفي أو التخويف من "المؤامرة". ولم يخطيء المتظاهرون حين تمسّكوا "بالحرية" كمطلب في وجه الخطاب عن "الإصلاح".
وفي الواقع، تتأسّس الأوضاع السياسية العربية الحالية على دساتير وقوانين تستخدمها السلطات القائمة لتبرير قمع الاحتجاجات، في حين لا تتوانى هي نفسها عن اختراقها - دون الرجوع إلى الشعب - بحجّة "الإصلاح" أو "التحديث". وتكمن الإشكالية الأساسية هنا في معنى "إصلاح" أو "تغيير" هذه الدساتير والقوانين ضمن منظومة الحكم القائمة، أي أن يطلب من السلطة نفسها أن تنتحر (!)، أو العودة إلى الأسس... أنّ الشعب هو مصدر الشرعية والدستور والتشريع.
هذه الإشكالية في منتهى الحساسية. لقد حسمت تونس خيارها أنّ ما يجري فيها هو "ثورة"، ووضعت لمسيرتها حلولاً في الفقه الدستوري بنيت على حوار وطني عريض يأسّس للشرعية وللدستور الجديدين. ووقوف الجيش في مصر على الحياد أثناء الاحتجاجات سمح له بلعب دور السلطة الضابطة لآليات تغييرٍ جذريّ تحت ضغط مستمرّ من الشارع الشعبي. في حين لم تتّضح معالم المرحلة الانتقالية في اليمن وسورية والبحرين. والمعضلة في هذه الحالات الثلاث هي دور رأس هرم السلطة وموضعه في المرحلة الانتقالية: أسيختار "التغيير" أم "الإصلاح"، أسيختار "الحريّة" أم السلطة، أسيختار الشعب أم حاشيته؟ هناك فرق كبير بين وجهتي الخيار، من حيث حقن الدماء ومنعة البلد وأمنها واستقرارها.
لكن ما يجعل هذا الخيار أصعب هو مثال الخيار الذي عرفته ليبيا، وجرّ البلاد إلى الدمار، وإلى هيمنة جديدة يبدو أنّ قوى دولية وأخرى إقليمية تريد أن تدفن النهضة العربيّة في غياهبها.
(لوموند ديبلوماتيك)