أوقفني قبالة الميناء ليسأل عن الحال ويسلم , قلت له : شققت على مينة (العزي) لأرى هل بدأ الشباب بالنزول للبحر والسباحة
قال : إي والله ليكو بلال نازل , نظرت باتجاه الشارع الصاعد باتجاه ساحة السمك رأيته فعلا يلبس شورتا ويضع قبعة ويركب موتوره
وعندما وصل اقترب منا محييا :وينك ؟
دفيت المي سألته .
قال : ما فيه أحلى منها , ونظيفة متل البلور.
قلت له غدا سأنزل .
أكملت مشواري اليومي باتجاه حديقة بقرب جمعية المعلمين , لكي أتيح لبنتي الصغيرتين فسحة للعب خاصة وأنهم قد وضعوا بعض المراجيح والألعاب البسيطة في هذه الحدائق بعد زيارة المحافظ حجاب سابقا .
خلال الأيام الماضية , لم أنقطع عن الترداد على الأماكن التي اعتدت على قصدها , بل وقصدت أن أذهب إلى أماكن أخرى بدون أي هدف , كان يقلقني أن أرى المدينة فارغة , الشوارع والمحلات والكورنيش .
ولم تكد الحياة تمشي ببطء نحو مسيرها اليومي المعتاد حتى تفاجىء بحركة ما , تعيد التوتر والتشنج , لتخف الحركة في الشارع.
لم أجد وسيلة لقهر حرب الشائعات ونفيها سوى أن أمارس حياتي اليومية المعتادة والخروج من المنزل, فالناس ادمنت الإنترنت والتلفزيون فباتت أسيرة لما يبث
وينشر على هذه الوسائل ,وساهمت هي في تكريس هذا القصف الإعلامي للعقول والنفوس.
نزلت في اليوم التالي إلى مينة (العزي) وقبل أن انحدر على الدرج الإسمنتي الموصل للبحر أوقفني جنديان يجلسان على كراسي بلاستيكية وأشارا لي بالرجوع, تقدمت باتجاه احدهم وسالته خير ماذا يوجد ؟
قال : رجاء انزل من الجهة المقابلة , والله ممنوع من هذه الجهة .
رجعت للجهة المقابلة والتي لا تفصل عن مكاني هذا سوى عشرات الأمتار ونزلت للبحر .
كان عشرات الشبان الصغار يسبحون , وعشرات الصيادين يدلون بسناراتهم على الصخرة المقابلة بانتظار صيد ما .
بحثت كي أرى أحدا من الذين اعتدت على رؤيتهم في السنوات الماضية فلم يكن احد منهم .
بللت جسمي بالماء , واندفعت مرة واحدة للبحر , وحين أخرجت رأسي ونظرت باتجاه المدينة , كانت المدينة أجمل وكانت عيني أكثر نقاء.
قبل أسبوع بعد انتهاء فحص الإبتدائي , أخذت البنتين باتجاه الألعاب المنصوبة على الكورنيش ,حيث يوجد بضعة ألعاب كهربائية , دلفت باتجاهها ولم يكن أحد , سوى طفل صغير وأمه التي ترقبه وهو ينط على فرشة منفوخة , تركت البنتين كي تلعبان واتجهت نحو الشاب الذي يشغل الألعاب .
كيف الأمور , زفت من شهرين قاعدين بلا شغل .
ممكن ان تتحسن الأمور قليلا الآن بعد انتهاء فحص الإبتدائي اليوم قلت .
لا والله بدها يومين فيه عالم ما بتخلص ليوم الخميس , هذا إذا ما نزعولنا ياها الجمعة .
قلت : ارى الأمور تتحسن , والحركة عادية في السوق .
قال :انشالله خير.
قطع محادثتنا , صوت موتور أتى مسرعا باتجاهنا وتوقف قبالتنا , وبدون سلام قال راكبه :
عفو ..عفو عام عن كل المساجين , تبييض للسجون , هلأ ذاعوها .
خرجنا من الألعاب , ثمة قطار للأولاد يتدحرج على الكورنيش يبدو ان شغل سائقه لم يتأثر بشيئ , فلا زال ركوب القطار بجولة يشكل إغراء للأولاد.
في الأمس ,دوت الطلقات مساء في جبلة للمرة الثانية خلال الأشهر الفائتة ,كنت للتو عائدا من السباحة , لم يكن هناك ما يشير أن شيئا ما سيحدث
بل إن البحر مكان السباحة كان فيه زحمة عير عادية , حتى أن الجنود الثلاثة المتواجدين آخر الكورنيش كانوا يدخنون أركيلة ويشربون شاياوكان السباحون يركنون مواتيرهم ودراجاتهم بجانبهم , خرجت في السادسة والنصف وتوجهت باتجاه مدرسة جهاد حيث يوجد فرن صغير للكعك حييته ورحّب بمودة , حيث انقطعت عنه منذ نهاية الصيف الماضي , وأنا بانتظار تسخين الكعك , اقترب باتجاهنا رجل يحمل كاسة قهوة من كشك قريب
أهلا حاج خالد , التفت إلي مستغربا , أهلا كيفك وكيف الأهل , شو كنت عم تسبح مو بكير ؟
قلت لا الماء معقول , وهي وقتها لماذا لم تنزل لا أراك .
قال بكير علي بدها شي 15 يوم .
بعد ساعة دوت الطلقات كما ذكرت , ماذا يحدث ؟
قالوا يجري محاولة للقبض على أحد المطلوبين من بيت كوبش بعد أن رفض تسليم نفسه وهناك إصابات .
في اليوم التالي ذهبت كالمعتاد في الخامسة مساء للبحر و كانت المدينة فارغة تقريبا , قدت السيارة باتجاه مينة العزي , لم يكن أحد سواي , اشار لي جنديين
آخر الكورنيس أن النزول ممنوع من هذه الجهة , قلت مستفسرا البارحة كان مسموحا , قالوا هيك الأوامر.ذهبت باتجاه قلعة أحمد الزوزو لأجد منقذا للبحر , ونزلت للسباحة ...
توغلت قليلا في البحر , وكان الجنود ينظرون إلي من بعيد وربما يقولون لبعضهم من هذا المجنون؟
مساء عدت من طريقي المعتاد , الشوارع فارغة , صادفت عند تقاطع جامع أبي بكر رجلا يركب موتورا , كيفك نورالله
أهلا أهلا استاذ , حييته وأكملت طريقي .
من هذا كوبش يا عمار ؟
قال :هذا رجل مطلوب بقضية سابقة وهي الإعتداء على أحد الاشخاص هو وخمسة معه .
جلست مساء أرقب كيف تتغير المدينة على وقع الأخبار , وكيف ترفض ما يراد لها تغضب , وتحزن , لكنها تعلم أن ما يجري هو أكبر , وخريطة الوطن توضع على طاولة غربا وتسلط عليها الكشافات ويتحلق حولها جنرالات يضعون أقدامهم على كلل المدافع .
تعلم أن ثمة من يتحضر لصيف حار ,بلعنات دولية , وتعلم أن الوطن يتعرض لحرب من نوع مختلف :
حرب الإشاعة وحرب التخويف.
وأن الوطن به شقوقا كثيرة ,صنعناها بأيدينا إهمالا وطمعا ..و استلابا لذلك تصر على أن لاتمر منها الرياح الصفراء , فتسارع لإغلاقها بأجساد أولادها كما فعلت طوال عهدها ..في كل حارة وشارع وقرية.
تعلم أن هذه الشقوق قابلة للترميم , في حين أن تصدّع الجسور يعني الهدم والدمار.
تصر على أن تصبح وطنا في مدينة .
كانت المدينة قيمة , صنعتها شخصيات وحكايات لأناس بسطاء وحالمين وعشاق و كنت كلما ازدادت الصورة ضبابية , ألجأ إليها لتتضح الصورة .
صباحا...
المدينة تعج بالزحمة , وجوه أليفة وأخرى حزينة ,
أيتها المدينة التي تشرع نوافذها للبحر والحرية وتتكىء على صخر جبل أشم ..
سلاما عليك
سلاما لك.
جبلة 7-6-2011