س8- حققت كركوك نجاح في المسرح المدرسي،كيف استطعت أن تتعامل معه(المسرح المدرسي) وأنت تسمو بنصوص النخبة؟هل كان صعبا على الطلاب التداول مع مفردات النص وجدية النصوص؟
المسرح فضاء يغوي الجميع بحكاياته وألوانه وأضواءه وهو في نفس الوقت منبرا ثقافيا تنبثق من فضائه الطاهر حكايات درامية تساهم في استثارة المخيلة وتغييرها. هنا تكمن أهمية هذا النوع الخالد من الفن وضرورته لأكبر شريحة بشرية في المجتمع و هم الطلاب ،حيث ألزمنا هذا الأمر بالتعامل معهم بمنتهى الجد والإخلاص بمخيلة تدعو للأفضل لذلك جاءت عروضا مسرحية حازت على المراتب الأولى في العراق وأخص بالذكر منها حكاية الأمس الحزين والوصية والسرير الخامس، لقد نجحت هذه الأعمال ولم تستند في جذرها إلى ممثلين محترفين بل كان الممثلون طلاباً وطالبات لم يتعاملوا سابقا مع خشبة المسرح وكذلك الفنيون لم يكن فيهم المسرحي المختص أو الأكاديمي المحترف ،لكن الذي تحقق في النتيجة النجاح الساحق و المتكرر في أغلب المشاركات القطرية،أن هذا النجاح لم يأتي من العدم بل من تظافر جهود كثيرة تركت لها بصمات مؤثرة بلغت تأثيرات تفوقها إلى أكثر من مدينة في العراق ،لذلك استطيع القول إن المسرح المدرسي في كركوك ساهم في إضافة شئ جديد إلى المسرح المدرسي في عموم العراق على امتداد سنوات عطائه الطويلة .
س9-كيف كان المسرح في زمن كان الكلام فيه ممنوعاً،هل صمت المسرح الجاد ، في حين كان المسرح التجاري يصرخ بأعلى صوته ؟
عندما تحيق الحروب والحصارات ببلاد ما وتطبق بمخالبها على انساغ حياته الطرية.فأن كل مافيها سيتردى وينهار ويصبح الوضع أشبه بمخاض عسير تتعرض فيه كل الشرائح للاختبار،من تلك الشرائح المسرحيون فمنهم من كبل تجربة عبوره بنصوص كانت محط افتخار له بعد انجلاء تلك الأيام العصيبة وهم " الأقلية الهائلة " على حد قول أوكتافيو باث ومنهم مَن غاص في الرذيلة وأمعن في ارتكابها عندما حول خشبة المسرح الى وسيلة رزق رخيصة يعرض عليها كل مايسئ إلى الفكر والذائقة العراقية و للأسف كانوا هُم الأكثرية المرعبة لذلك صار لزاماً على الكتاب أن ينتبهوا لخطورة الحال الذي كان يجر المسرح إلى الوراء بعد طوفان المسرح التجاري ،حيث جاء التصدي بقوة لهذا الغزو اللا أخلاقي من قبل مسرحيون معدودون وأظنني كنت واحداً منهم عندما كتبت في تلك المرحلة الحرجة من تأريخ البلاد أعمالا جريئة مثل افتراضات واهية و فراديس و وداعا أيها الجنرال و ماذا لو عاد الحلاج الذي منعته الرقابة لعدم السلامة الفكرية .
س10هل يسعفك أوكسجين الحياة إذا ما ماتت من حولك المشاعر أو تحجرت وانثلمت آفاق الخفق في عالمك السردي؟
ما يسعفني على العطاء دائماً هيَ الحياة القاسية فلاغرابة وأنت تعيش في بلد مستعر حينما تتملكك لغة لألفاظها شواط البارود ولإيقاعاتها دوّي الرصاص،فالحزن والموت والشقاء ثالوث مرعب يشغل بالإكراه الحيز الأكبر من فسحة حياتنا القصيرة، ان الكاتب وليد واقعه وما نتاجاته إلا ترتيبات دفاعية تقوم بها مشاعره القلقة لتدرأ عنه مخاوف الموت، أن نصوصنا بيانات غيبية ،فرضتها الحروب والمحن على امتداد حياتنا، لنبوح بها للأجيال القادمة بالسرد ،عنها وعن كوابيسها التي قفزت من عوالم وهمها
س11- برز الكثير من الكتاب الذين كتبوا النص المسرحي،مار أيك بآخر التطورات التي طرأت على المسرح؟ وأين قاسم من بين هؤلاء الكتاب؟
اختلف المسرح كثيرا بعدما عصفت به رياح التجديد في منتصف القرن 19 حيث ظهرت أسماء نزعت عن المسرح الأردية الكلاسيكية وألبسته حلة أخرى تتوائم ومتطلبات العصر الحديث،لقد وجد المتلقي نفسه لأول مرة مشاركاً فاعلاً في تحديد مصائر الشخصيات،يشارك في بداياتها ويخطط لنهاياتها والفضل في هذا التحديث يعود إلى المنظرين أمثال ستانسلافسكي وبرشت وبيكيت وجروستوفسكي وآخرين غيرهم ،أما فيما يخص المسرح العربي الذي طرأ حديثا على ثقافتنا العربية فقد وجد المسرحيون أنفسهم في إشكالية البحث عن ملامح لمسرح عربي خاص بهم ،وكان من جراء هذا البحث والاستقصاء انبثاق أكثر من نوع كالمسرح الاحتفالي الذي توكأ على التراث والجمهور والمسرح الوثائقي الذي تأثر بمسرح بيتر فايس والمسرح العبثي الذي حاكى تجارب اللامعقول في الغرب وكذلك الذهني والتسجيلي والسياسي، لذلك وجدتني وسط هذا الخليط الملون أبحث في تلك المساحات المضاءة عن وجه مسرحي يمثل تطلعاتي فلم أجد أفضل من المسرح السياسي الممثل الصادق والفاعل لكل ماتجيش به مكنونات المتلقي العربي،فكتبت في التسعينات أخبار عائلية فقط وافتراضات واهية وفراديس وكانت جميعها نصوصاً جادة تحمل في متونها مقاربات لأشكال الاضطهاد الذي يرضخ تحت وطأته إنسان الشرق العربي!
س12- لقطات لأشكال كابوسية تخلق حالة من التوتر، مروعة يتزامن ظهورها مع ظهور نص جديد لقاسم فنجان؟ مالنصوصك والكوابيس التي تزاحم لياليك؟
رؤى مرعبة تتطاحن في عوالم الباطن الآسرة، تبحث عن قلم يقودها للولوج إلى عالم الواقع إنها تسعى مثلما يسعى كل شئ في الحياة،لذلك نراها تزاحم الكتاب بعد أن ترفع صواري الأرق في لياليهم الهانئة ،تربكهم بحضورها المفزع ولن تغادرهم حتى ينقادوا مكرهين لرغبتها والشروع في توثيقها على هيئة نصوص متميزة.أنني أخالها شرط إبداعي لن يحظى به إلا المحظوظين من الكتاب،لأنها ببساطة شديدة الترصد والتوجس بسخاء كبير ومن دونها سيفتقر الكاتب إلى عارض القلق والخوف اللذين يؤديان به حتما إلى فسح النص المتوترة.
س13-هل تناولت الميثولوجيا في كتابتك لاستلهام واقعها الخرافي الأسطوري الساحر، وكيف تنظر إلى التراث؟
لو قلنا أن الكوابيس شرطٌ إبداعي من شروط الكتابة فأن الميثولوجيا بسحرها الأسطوري قرينها الحميم، أنهما يساعدان المخيلة الخاملة على الانفتاح للتأسيس والخلق، لهذا وجدتني استلهمُ من واقعي الضاج بالخرافة والسحر والكوابيس نصوصاً ساعدتها مخيلتي على الانبعاث والوجود، لقد تجلى هذا الشرط واضحاً في قصتي،(سوأى بنت آرو) التي اصطحبتني في جوفها لألج من خلالها عالم الجن وارى ما لم يراه إلا الممسوسين بهم، انه فضل الكتابة ونقمتها وقد تجلت في عبد الشط، أسطورة الجنوب القديمة التي حرضت ذاكرتي على بعثها في ضفة النهر الثالثة، ضفة وهمية شيدت عليها من اجل العبد عائلة وأصدقاء وأعداء كانوا وراء ثورته على المصير وموته على يديه أيضا، أما الشيطان وابنته في (أنثى الشيطان) فقد استفاقت من سباتها الطويل لتحرضني على الانقلاب بعد أن قررت أن تقلب بسحرها الأوضاع رأساً على عقب ليحصل اختلال بايولوجي فيه تبيض النعاج وتلد الدجاج، أنها رسائل تمررها كائنات الوهم لتشكل لها وجوداً ساخناً ومدوناً تشترطه خرافاتها الجميلة على ذاكرة السرد!.
س14-الكاتب المسرحي يكتب وفي باله ظروف مسرحه وإمكاناته وفي حسابه كل صغيرة وكبيرة، مما يمكن تنفيذه لما يدور في ذهنه، ويخطه قلمه،إلى أي مدى حققت ذلك؟
المفصل السردي الأهم في متن القصة ودلالته التي تدعوه إلى الاقتضاب والإدهاش للإمساك منذ البدء بفضول القارئ المشتت،لذلك ترى القاص الجيد يبحث عن شروع يشرك من خلاله القارئ مباشرة في حكاية النص ثم يدفعه لافتراض استنتاج سرعان ما يرفضه جسد النص الحديث، أنها لعبة التشويق في البداية ،لعبة مشوشة كالحياة تتظافر في تشكيلها أنماط مختلفة من السرد مثل تعدد الأصوات والحوار المسرحي والحلم واتخاذ نهاية الحكاية كبداية لها في النص من اجل إضفاء الشكل المثير على النص الحديث.
س15- هناك شعور يتفتت بعد الانتهاء من النص،هل تصغي بارتباك لواقع خطى النص لحوار ذكريات ما داخل باحة النص أثناء كتابته؟
جزء مقتضب من عالم مكنوز في أروقة مخبوءة في مفازات الذاكرة ،أنها وخزات لاسعة تقرع بشدة على أبواب الكاتب،تقلقه بدويها وتهزه بصخبها فيفتح لها عوالمه لتخرج مرتكزة إلى ثقافة روحية تقوم على رهافة الوجدان .لها يستجيب بعد أن يتدرع بسيل لا محدود من رؤى فلسفية ونفسية ومعارف تاريخية واجتماعية،يصهرها مع ذكرياته في بوتقة الموهبة ليتسامى من خليطها نصا يضوع بصدق الماضي وأوجاعه القديمة.
س16- الفنتازيا- قدرة المخيلة تجلت في الآداب والفنون،برأيك على ماذا تبنى أساسات النص ألغرائبي ؟
الفنتازيا أدب دعامته الأساسية الخيال وبدونه لا وجود لأي أدب غرائبي ،أنها المحايثة المجنونة لقلب الخرافة وهي الأدب الذي لايقوى عليه صاحب المخيلة الساكنة والوعي المستسلم للظروف. أنها إعلان عن القدرات الخارقة للكتابة حيث تتجلى في عوالمها قوة المخيلة وطواعية اللغة ومنهما يتم الحصول على رمزية تمنح هذا السرد الوهمي المؤسطر هوية للقبول وشرعية للوجود،لتندرج شأنها شأن النصوص الواقعية في الإسهام بإيصال رسالة تساهم ولو بشكل غريب في الإشارة إلى متطلبات العصر ومشاكله. أن هذا النوع من الأدب ضرورة لبعض الكتاب اللذين تضايقهم سلطة الرقيب أو تكبلهم العادات والتقاليد المستهلكة ليمرروا بطريقة سحرية ورمزية أهدافهم التي تسعى إلى التغيير نحو الأفضل.
س17-انك رجل يحترم المرأة، تتجول في اتجاهاتها بإنسانية عالية، للمرأة في عالمك السردي حضورا إنسانيا لا تساوم عليه؟
المرأة نقطة الضوء المتوهجة في عتمة النص ودلالته المحرضة على الحياة ،تينع من حضورها بؤراً ملونة يساعد استفزازها المثير كل كاتب على تقديم النص الأحلى ،و يساعده على ذلك سِفرها المدموغ بالمصادرة والانسحاق والظلم ، الذي يسوّغ لها أن تكون مركزاً مشعاً بالوجع والشقاء و العطاء ،لذلك تراها تحل محل الروح في الجسد متمردة تمضي بأكف المخيلة المبدعة ، صوب عالم السرد الساحر لتعوض فيه ما أستلبه الرجل منها عنوة في عالمها الذي لا يحفل إلا بالذكور ،لهذا اتسع حضورها الفاعل في اغلب حكاياتي، فكانت البطلة في مسرحية قيامة النار والأم وحكاية الأمس الحزين وترنيمة الغياب ،إنها الحياة التي لا غنى لنا عنها في الحياة!
س18- لقد جاء كانط بفكرتي (الزمان والمكان) باعتبارهما فكرتين فطريتين لا يمكن معرفة العالم الخارجي إلا بافتراضهما, تسلسل الفكرة وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي يرتبط بزمانكانها، في نصوصك انزياح في بنائها وبرؤى ذكية تمسك بجوهر النص؟
بؤرة النص التي تدور حولها عناصر السرد الأخرى من لغة وبناء وأسلوب وأحداث، إنها الرؤية المتميزة والالتقاط المبدع لكل ماهو عصي على الانقياء وهي الغوص في المجاهل والعوم عميقا في لجج المحظور والمسكوت عنه للإمساك بجواهر السرد المكنونة بغية الوصول إلى الروح الحقيقية للنص ومسها بأنامل الإبداع،إنها الفكرة والرؤية والومضة ،من تنطلق منها دائما فضاءات النص وأعمدته الراسخة.
رغم ما ساد من فوضى إلا أن قاسم فنجان حافظ على أن ترقص أصابعه مع الحبر بإيقاع جميل فكان من الذين تفردوا بأناقة الخطوة، لم يكن هجينا قط، أخذت موهبته مكانها الصحيح نمت في تناسق حضاري استوعب الأحداث والتقط فسبق الآخرين وقدم أعماله على شئ من الدهشة في دلالات يحفل بها المسرح في كركوك ضمن قواعد وأصول لم ينافيها قط.
يبقى السؤال:
هل من الصعب جدا أن نخلق مسرحا في زمن حروب وتناحرات سياسية ،أم هي المعاناة من تخلق حالة الإبداع؟ وبين هذا كله كان المسرح يتنفس، بين أنامل الكاتب ورؤى المخرج، وحركة الممثل، ومصمم الديكور، ومهندس الإضاءة، مهام عمال الأثاث، ومغيرو المناظر الخ من مهام المسرح، ليبقى منبرا ثقافيا حرا . وهل نجح المسرحيون العراقيون ومنهم مَن حاورناه في بقاء دعائم المسرح قائمة في زمن اختلف فيه كل شئ؟؟
في نهاية روعة اللقاء هذا أقول :
كانت عودتي مع قاسم فنجان، فرحة كبيرة، آملين له حياة طيبة على مسرح الحياة مع إبداعات ونجاحات في المستقبل.
عايدة/ كركوك/2011.