غسان سعود
تستعيد حماه، المدينة نفسها التي لعبت الدور الأساسي في توفير ثلاثين عاماً من الأمان للنظام السوري، دورها السابق: تُسقط حماه النظام أو تحييه. فبعد منع نيران الجيش السوري لكرة الثلج من أن تكبر في الريف والمدن الحدودية وحتى في صفوف الجيش، تكاد تكون حماه في نظر المعارضين والموالين للنظام آخر ساحات التحدي الجديّ للطرفين
من درعا إلى جسر الشغور، مروراً بطرق متعرجة في دمشق وريفها وحمص وريفها وحلب وريفها والجزيرة، وحدها حماه خرجت بتظاهرة تطالب بإسقاط النظام. ففي مختلف المدن والقرى الأخرى، تظاهرت أجزاء من أحياء صوّرها بعض الداخل السوريّ والخارج كأنها سوريا كلها. أما حماه، فبعيداً عن الأرقام المتفاوتة بين مصدر وآخر، وقياس الساحات، يمكن الاستنتاج أنها في معايير التظاهر ونسب المشاركين تعدّ أول مدينة سورية تقول: «فليسقط النظام».
في حماه، تمتع المحتجّون بوعي تجاوز كل مصائد النظام: أخذوا وقتهم في الإعداد للنزول إلى الشارع ليكونوا هم الفعل لا رد الفعل كما حصل في غالبية المناطق الأخرى. آثروا الـ«سلمية سلمية» حتى بعد مقتل العشرات من أبنائهم، رافضين «الدفاع المشروع عن النفس» الذي نادت به مدن سورية أخرى. تعاملوا مع مراكز المؤسسات الرسمية بوصفها ممتلكات خاصة، متجنبين التعرض لها إحراقاً أو تدميراً. رغم الحضور الخجول جداً للمسيحيين في المسيرات، رفعوا رمزياً صلباناً في التظاهرات محاولين نزع تهمة الأصولية الإسلامية عنهم. واخترعوا «الإذاعة السيارة» التي توحّد الهتاف وتحول دون إهداء أحد المتظاهرين النظام ما يشبه «المسيحي ع بيروت والعلوي ع التابوت».
مدينة أبي الفداء التي تعد بسكانها الثمانمئة ألف رابع مدن سوريا من حيث عدد السكان بعد حلب ودمشق وحمص، تتوسط تقريباً دمشق وحلب وبانياس. هي التي غالباً ما سلمت مفاتيحها للجيوش الوافدة إليها طالبة الأمان، من جيش هولاكو عام 1260 فجيش تيمورلنك عام 1399 وصولاً إلى جيش الأسد عام 1982. مع العلم أن المدينة الزراعية التي لا تكاد تصنع غير الصوف والمنسوجات والألبان والأجبان، تتميز عن غالبية المدن السورية الأخرى بعشقها للسياسة. فمدينة رئيس الانقلاب الثالث أديب الشيشكلي هي أيضاً مدينة مصطفى حمدون الذي قاد الانقلاب على الشيشكلي، وهي مدينة كاره الإخوان المسلمين أكرم الحوراني كما هي مدينة الإخوان المسلمين. وقد حال صبغ الإعلام لحماه بلون الإخوان المسلمين دون رؤية كثيرين لألوان كثيرة أخرى لوّنت المدينة كالاشتراكيين والبعثيين. والمدينة مسرح لصراع بين الإقطاع المديني الذي اندثر والريف الذي لا ينسى.
وهي مسرح للحساسيات المذهبية، فالمدينة التي تحافظ على بعض بقايا الوجود المسيحي فيها (نحو ثمانية آلاف مسيحي يشكلون نحو عشرة بالمئة من مجموع السكان) تؤلّف أكثرية سنية في محيط أكثريته علوي ـــــ اسماعيلي. من السلمية ـــــ مدينة الشاعر محمد الماغوط ـــــ شرقها التي تعد أكثر من 120 ألف مواطن سوريّ، إلى مصياف غربها حيث يعيش نحو أربعين ألفاً وبينهما تجمعات سكانية كبيرة في صوران وحلفايا والسقيلبية وسلحب وغيرها.
يكاد رواد الانتفاضة اليوم أن يظهروا حماه بمظهر المدينة العلمانية، لكن لبعض أبناء المدينة الآخرين كلاماً آخر، وليس المقصود هنا بأبناء المدينة الشيخ عدنان العرعور وزمرة من أصدقائه الذين يزيدونه تطرفاً، بل الكاتب عبيد الله شدهان مثلاً الذي يروي أن الفتيات في مطلع ثمانينيات القرن الماضي «كن يخشين الخروج سافرات في الشارع الحموي، لأن الرجال في الشـارع سينصحون والدها وإن لم يستجب لهم وبخوه». الأمر الذي «جعل حماه مدينة محافظة على إسلامها، لا تقبل أن تعيش السافرات المتبرجات بين أهلها، ولا تقبل أن يسكن فيها الفاسدون المفسدون المتحللون من دينهـم، ولهذا كانت هجرة الريف إلى حماه محدودة، خلافاً للمدن السورية الأخرى».
ورغم وجود أكثر من 25 متجراً لبيع الكحول في المدينة التي لم تنجح في إيصال سوى نائب واحد من الاخوان المسلمين إلى مجلس الشعب عام 1952، يروي شدهان أن المجتمع الحموي لا يحتاج إلى تنظيم فعلي للإخوان المسلمين، فأفكار هؤلاء وتنظيمهم السري موجودان في المدينة، بحكم تقاليد المجتمع الحموي، قبل تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على مستوى سوريا عام 1945. في ظل تأكيد بعض المتابعين أن الحالة الإسلامية كانت عام 1982 في حلب أكبر بكثير منها في حماه، لكن النظام فضّل إيصال الرسالة إلى سوريا كلها من حماه، تسهيلاً لمهمته. والمصدر نفسه يقول إن مشكلة النظام مع حماه استفحلت لاحقاً، نتيجة لعدة عوامل، أهمها: أولاً، استقواء أبناء الريف وهم غالباً من طائفة العلويين على أهل المدينة ومحاولة هؤلاء التعويض خلال بضعة أعوام على ظلم مئات الأعوام الذي ألحقه إقطاع المدينة بهم هم وأهلهم وأجدادهم. ثانياً، رفض النظام منح الأهالي شهادات وفاة لأبنائهم لخشيته من الملاحقة الدولية على الجريمة التي ارتكبت، وبالتالي لم يحصل انتقال للإرث ولم يتمكن الحموي طوال ثلاثين عاماً من أن يبيع الأرض أو السيارة أو البقرة التي كان يملكها والده. ثالثاً، مصادرة السلطة أو استملاك مساحات شاسعة من الأراضي دون أي تبرير ولا مقابل. رابعاً، منع كل من تجمعه علاقة قربى، أياً كان شكلها، بأحد الذين تشك السلطة بانتمائهم إلى الإخوان المسلمين من الفوز بوظيفة رسمية. ويقول بعض أبناء المدينة إن نحو 10 في المئة فقط من الموظفين في دوائر مدينة حماه الرسمية ومدارسها هم من أبناء المدينة، أما الآخرون فمن الريف. خامساً، فرض النظام ممثلين عن الحمويين لا يتمتعون بالمقارنة مثلاً مع الممثلين عن المناطق الأخرى مثل حلب ودمشق، بالحد الأدنى من الشرعية الشعبية.
أخيراً، بعد بدء الاحتجاجات الشعبية في مناطق متفرقة من سوريا، أخذت حماه وقتها في الإعداد للتظاهر رغم الضغط الإعلامي الذي تعرضت له، وحث مصادر متنوعة أبناءها على التظاهر. وبدايةً سجلت مشاركة مجموعات صغيرة جداً في التظاهرات إلى أن أمر أحدهم بقنص المتظاهرين فسقط 16 حموياً. وفي الأسبوع التالي في 3 حزيران خرجت تظاهرة كبيرة قتل فيها 63 شخصاً، ولا يزال نحو خمسين في عداد المفقودين، لا يعلم أهلهم إن كانوا قتلوا أو اعتقلوا. بعدها حاول النظام التفاوض مع المحتجين وتوجه إلى حماه كبار المسؤولين الأمنيين والسياسيين واتُّفق على مجموعة خطوات تعبر عن حسن نية السلطة تجاه الحمويين كان أهمها التعهد بإصدار شهادات وفاة لمختلف المفقودين إثر عملية 1982، وإرجاع الأراضي المستملكة لأصحابها وكف العقاب الجماعي لأسر الإخوان المسلمين، قضلاً عن إطلاق سراح من بقي من الإخوان في السجون (وكان النظام قد أطلق العدد الأكبر من الإخوان في نهاية التسعينيات)، إضافة إلى إزالة معظم الصور والتماثيل.
لكن المحتجين فسروا (محقين ربما أو مخطئين) تقديمات النظام واختياره التفاوض السلمي ضعفاً، فازداد حجم التظاهرات ليبلغ الذروة في الأسبوع الماضي. والغريب هنا أن التظاهرات، رغم انسحاب الأمن كلياً من المدينة، لم تستقر في ساحة معينة ولم تتحول إلى اعتصام مفتوح كما حصل في مدن عربية أخرى وكما كان يطمح الحماصنة والدرعاويون. والتفسير الوحيد لذلك هو خشية الحمويين من عمل عسكري ضدهم، وهم اتخذوا مختلف التدابير ليحولوا دون إعطاء السلطة المبرر لاستخدام العنف.
بعدها، برزت إقالة السلطات السورية لمحافظ حماه أحمد عبد العزيز الذي عين في شباط 2011، وقد فسرت الإقالة على أنها تمهيد من السلطة لإنهاء الحل السلمي وبدء الحل العسكري. وفيما بات المطلب الأساسي لبعض المحتجين إعادة المحافظ السابق لا إسقاط النظام، يرى آخرون أن المحافظ الودود كان طعماً وضعه النظام للحمويين ليتمكن بواسطته من معرفة المحركين الأساسيين للشارع ودور وحجم مختلف الفعاليات الحموية. وبعدما خزّن النظام مختلف المعلومات التي يحتاج إليها بدأ مرحلة جديدة. فعُيّن الضابط وليد أباظة خلفاً لعبد العزيز، وأباظة كان رئيساً لفرع الأمن السياسي في مدينة حماه بين عامي 1982 و1995 ولديه بالتالي من المهابة ما يكفي ليفهم الحمويين أن النظام لا يريد لتظاهراتهم أن تستمر. علماً أن المحتجين الحمويين الذين حرصوا على الابتعاد عن العنف، بادروا فور معرفتهم بخبر إقالة المحافظ وتلمسهم تعزيز السلطة لحضورها العسكري في المراكز الأمنية والعسكرية إلى قطع بعض الطرقات والتصدي بالحجارة لعناصر الأمن الذين ينفذون منذ فجر الإثنين الماضي مداهمات، بين الثالثة والسادسة فجراً، لمنازل محددة جيداً لاعتقال العشرات ممن يشكلون العصب الأساسي للتحركات الشعبية. وقد بلغ عدد الموقوفين خلال أربعة أيام، بحسب مصادر حموية، نحو ستمئة، في ظل ترجيح المصدر نفسه أن عدد المنوي اعتقالهم يتجاوز الخمسة آلاف.
ما فعله المحتجون في حماه الأسبوع الماضي كان حلماً بالنسبة إلى المحتجين في درعا واللاذقية وحمص الذين سعوا جاهدين إلى ما يشبه ذلك لكن مجتمعهم خذلهم، وسمح لعنف السلطة أن يحاصرهم. وما حصل كان حلماً لليساريين الذين تهافتوا على تظاهرة المدينة غير مصدقين، ليجتهدوا لاحقاً في التعبير عمّا شهدته المدينة كما يريدونه هم لا المحتجون أنفسهم، مستفيدين من ثلاثة بيانات وزعت قبل المسيرة وخلالها وبعدها كتبت بلغة شبابية، غير عقائدية ولا إسلامية، أكدت شراكة جميع السوريين بمختلف طوائفهم في صناعة الثورة. لكن يبدو أن السلطة السورية ليست بوارد السماح للمحتجين أن يطيلوا احتفاليتهم بـ«حماه حرّة أبية» أكثر. وتتجه السلطة نحو إعادة المدينة إلى «بيت الطاعة» كما حصل في درعا واللاذقية وجسر الشغور، حيث يمكن التظاهرات أن تستمر... ضمن جدران يقيمها الجيش. ويبدو في هذا السياق أن السلطة تتحسب لخطورة الحل الأمني في ظل كثافة المحتجين في المدينة من جهة، والطبيعة المعمارية لحماه التي تجعل التحرك العسكري صعباً من جهةٍ ثانية، والاهتمام الإعلامي والإسلامي بالمدينة من جهةٍ ثالثة.
من هنا، تشير المعطيات إلى نية الأمن تكثيف اعتقالاته بموازاة مفاوضات جدية يجريها المحافظ الجديد أساسها تبادل العطاء: يجمد النظام إعادة الحقوق التي تعهد بإرجاعها ريثما يتأكد أن الحمويين سيعطونه في المقابل استقراراً. الأمر الذي كان صعباً على المحافظ السابق، الذي لم يوازن بحسب مصدر مطلع في السلطة، بين الترهيب والترغيب. ولا نية لدى السلطة بالتالي في القيام بعملية عسكرية كبيرة على غرار تلك التي شهدتها درعا وتلكلخ وجسر الشغور، وستكتفي حتى إشعار آخر بإشهار سيف السيطرة العسكرية فقط. ويسجل هنا أن مسؤولاً سورياً واحداً فقط يخالف القيادة ويوافق المعارضين في التأكيد أن حماه ليست درعا ولا تلكلخ أو جسر الشغور، وسيكون للضغط العسكري عليها أثر سلبي كبير على النظام في حلب التي إذا انتفضت نصرة لحماه فستدخل سوريا مرحلة جديدة. كلام لا يعجب أبداً مسؤولين آخرين يتذكرون تفرج حلب ببرودة طوال شهر كامل على حماه عام 1982.
في النتيجة، ما حصل في حماه الأسبوع الماضي هو أقسى ما يمكن لمدينة سورية أن تفعله كمقدمة صحيحة لإسقاط النظام، ونهاية ما حصل في حماه المفتوحة على مختلف الاحتمالات التي ستظهر في الأيام القليلة المقبلة، ستكون صورة أولية لنهاية الحراك الذي تشهده سوريا.
عدنان بن محمد العرعور
لا يمكن المرور بمدينة حماه من دون التوقف عند ابنها البار على صعيد التحريض المذهبيّ، الشيخ عدنان بن محمد العرعور. فبفضل قنوات التحريض السني ـــــ الشيعي، بات الأخير نجماً يعرفه كل من سمّره الفضول دقائق أمام قناة «صفا» التي اختارت العرعور مشرفاً عليها. وقد ازداد نجمه لمعاناً بفضل الإعلام السوري الذي اضطر أن يلجأ إلى العرعور (الهارب من العدالة السورية ومذكرات التوقيف) ليثبت صدقيته. فلا شيء يحث العرعور على الدعوة إلى إسقاط النظام السوري القائم، إلا انتماء حكام هذا النظام إلى «الروافض». ولا دليل أقوى من خطابات العرعور على إسلاميّة بعض المجموعات المطالبة بإسقاط النظام. مع النظام أم ضده؟ يصعب التحديد. الأكيد أن العرعور أفضل معارض بالنسبة إلى النظام وأكثر من يخدمه. تجاوز عدد المعجبين بالعرعور على صفحته على «الفايسبوك» الـ28 ألفاً. بالنسبة إليه، «سنة الابتلاء (الاختبار) دائمة مستمرة لا تنفك عنا أبداً، ونحن نعيش اليوم في سوريا في جو كله ابتلاء». من هنا، خصص برنامجاً تلفزيونياً لمتابعة تطورات «الثورة» عنوانه «الشعب السوري ماذا يريد؟». وبدأ بتوجيه المتظاهرين: «كبِّروا من أسطح المنازل واخطفوا المخبرين». والعرعور في كل مكان: على الشاشات، على الفايسبوك وتويتر: «الشعب يعتمد على رب عدنان وليس على عدنان، فلا تظنوا أن قتلي سيطفئ الثورة»؛ «الشيعة والنظام السوري ينطبق عليهم القول: الكلب لا يعض صاحبه»؛ «اعتمادنا الأول على الله عز وجل ثم الشعب السوري، فالعالم الذي سيقف معنا حين نريه قوتنا»؛ «النظام السوري أجرم من كل بني صهيون»؛ «صحيح ليس في سوريا شيعة، إلا أن حزب البعث سمح للشيعة بنشر التشيُّع، وفتح لهم الباب على مصراعيه وقام بسجن من يدافع عن أبو بكر وعمر».
صاحب دبلوم التربية من جامعة دمشق، كان ضابطاً في الجيش السوري، بحسب بعض المصادر الإلكترونية. ثم «تاب وسلك طريق العلم» الذي أوصله إلى الرياض. وبحسب «أسد السنة الشيخ العرعور»، فإن «الانتفاض واجب ضد الرافضة التي تستبيح دماء المسلمين وتربي النشء وتحرّضه على الانتقام». واحذروا في الختام، لأن العرعور يراقب المواقع الإلكترونية جيداً: «يا إخوان، حرام أن تدخلوا الغرف الإلكترونية الخاصة بالروافض. اذهب إلى الخمارة واشرب الدخان والخمر خير لك من أن تزور غرفهم».
(الأخبار)