آخر الأخبار

(ميكرو) ثورة !

على رابية قريبة تكشف فوضى اسمنت المدينة , تلك البقعة الصغيرة من الكرة الأرضية التي أمعن الجشع وغياب الدولة كمؤسسات في تشويهها وفي جعلها مكانا لا ينتمي لعالم يغذ الخطى نحو المدنية والحضارة والرقي , جلس بصحبة مجموعة من أصدقاء الزمن البعيد , وكان الحديث يدور عما يجري على الأرض .

التقوا بعد أن عاد بعضهم من الغربة في إجازته السنوية وأحدهم أتى من السعودية بسيارته الخاصة كنوع من التحدي وكرسالة للآخرين , إذ أن الأخبار تصل هناك وتروّج أن سوريا قد تحولت لمكان مرعب غير آمن .
لقد اختار كل منهم هروبه الخاص , منهم من هرب للخارج ومنهم من هرب للداخل ومنهم من اختار أن يعاند على الأرض بدون أن يحقق شيئا يذكر ,
كان الماضي والراهن ينهال بتفاصيل ومفاصل في تدفقات وجدانية تحكي تجارب ومصائر جيل وأجيال لم يتح لها أن تحيا في مكان يستطيع تأمين أبسط مقومات الحياة .
كان يعلم أن المدينة قد فرّغت مما يسمى الطبقةالمتنورة والمؤهلة لأي مشروع نهضوي ,الحاملة والحاضنة له , عبر سنوات من القهر والتغييب وسيطرة
المنتفعين الذين لو سلّمت أحدهم دراجة بعجلتين لسرق عجلة واجتهد في أن يجعلها تسير على عجلة واحدة , ولقد كانت الدولة تسير على عجلة واحدة وعلى رجل واحدة .
كان يسأل مالذي فعله وديع اسمندر مثلا صاحب رائعة (اللبش) المهداة لشهداء لقمة الخبز في ميناء جبلة لكي يعتقل لسنوات وسواه العشرات من الكتاب وأصحاب
الأفكار المغايرة للسائد.
مالذي جعلني أترك مرفأ اللاذقية وأهاجر للخليج طلبا للعمل ,لقد وجدت نفسي في عالم غريب لا رحمة فيه ولا مكان لإنسان نظيف ,لم يكن خيارا بقدر ماكان قدرا , لم يكن هناك مجال لشيء آخر , ومالذي جعل صديقنا علوش يذهب إلى الجزائر ليعمل في قلب الصحراء هناك في تمديد خطوط الغاز ويترك شركة Ipc السورية ؟
ولا تنسى عمار الذي ترك العمل مع الدولة في شركة الكونسروة واختار العمل كمدرس لمواد الفيزياء والرياضيات .
في علم النفس هناك شيء اسمه تصرف الإنسان المقهور, قال, إذ عادة ما يوجه هذا الإنسان غضبه نحو مقهور مثله , وهناك مثال على ذلك بظلم الرجل للمرأةوغالبا ما يتواجه المقهورون لقد بذلنا جهدا كبيرا خلال الأشهر الماضية كي نجنّب المدينة كأسا مرة , وكنا نقول دعونا نتعاون كي لا نعطي مبررا لدخول الجيش والأمن إلى المدينة
التقينا بالناس الذين يخرجون للتظاهر وإليك ماحصل:
أحدهم سمّاك قال: أمضي يومي في تأمين رزقي ويحدث أن أتوفق بحبات سمك جيدة ,كان مدير الموانىء يقاسمني عليها .
الآخر لديه عربة بيع فواكه وخضار قال: أذهب للبازار مبكرا لأختار كمية قليلة من الفواكه والخضار الجيدة وأشتري الباقي من الفواكه والخضار ذات النوعية
المتدنية (مشايلة) وأرتب بضاعتي بحيث أضع النوعية الجيدة أمام الزبون وأبيعه من تلك المتدنية حتى آخر النهار فأعود لبيع البضاعة الجيدة للمحلات .
ولكن يأتي التموين ليقاسمني على تلك الجيدة , والأنكى من هذا هو اضطراري لدفع مباغ 200 ليرة سورية لرئيس البلدية يوميا لكي يسمح لنا بالوفوف في الساحات .
أحدهم قال :ساعة الكهرباء ظالمة , تأتي فاتورة بمبلغ 300 ليرة ,وفي دورة ثانية تأتي ب2000 ليرة , وحين راجعنا التسجيل في شركة الكهرباء تبين أن السبب
يعود لقارىء العدادات حيث يمر في شهر ويغيب في آخر وحين يغيب يضع التسعيرة الإقتصادية وهي 600 كيلو واط , ومن ثم حين يقرأ العداد في المرة الأخرى يجد أن الإستهلاك أكثر فيضعه على واقعه 1200 كيلو وهذا هو سبب الفرق بين الفواتير .
وهكذا ...وأقول لك إن 90 % من هذه المشاكل قد حلت أو هي في طريقها للحل . وكنا نلتقي مع مجموعة ممن يسمون قادة المتظاهرين فمثلا :
أعرف حسين كوبش وأعرف والده , قال لي والده أنا مستعد لتطويب أرض بقيمة 100 مليون ليرة سورية له شرط أن يترك أعماله التي لا أرضى عنها والتي عرضته للملاحقة وهي أعمال لا تتعلق بالتظاهر هذه الأيام .
وجلسنا مع حسين وطلبنا أن يهدىء الأمر وكان في الأيام الأولى يستجيب ولكن بعد مدة بات لا يرد على ذلك وفي أحد الايام خرجنا مع مجموعة من الذين كانوا يقودون هذه المساعي لمكان كان يشهد تظاهرة لنشاهد من بعيد حسين كوبش وهو يحمل كلاشنكوف ويتجول على أطراف التظاهرة وحين رآنا أخفى البندقية خجلا وتوارى بين الناس .
هل تعلم أنه يوجد شارع في حارة داخلية في جبلة القديمة يحوي كل أنواع الظلم والإضطهاد الإجتماعي والإقتصادي , وهناك في هذا الشارع 13 محلا لبيع
السيديهات والأفلام , قد تتفاجىء بأن هؤلاء الناس الذين يعيشون هنا ليس لديهم أي أفق أو أمل بأي شيء ولك أن تتخيل حجم المشاكل الإجتماعية الناجمة عن ذلك, هل تعلم أن بعض هؤلاء يخرجون بمبالغ صغيرة جدا للتظاهر.

إنهم يقاطعوننا , هكذا اشتكى أحد أصحاب المحلات التجارية , قلت له :هل لك أن تعدني بأن يتم تهدئة الجو لأسبوع واحد فقط وسوف تجد في نهايته أن الناس
قد عادوا بسرعة للسوق , لقد تضخمت حرب الشائعات بحيث طغت على العقل في كل الأماكن وأصبح الناس مهيئون نفسيا لتقبل أي شيء ولا يتم فعل شيء على الأرض سوى تغذيتها والإنجراف معها .

أضاف : لو كان الشيخ بشير حيا لما حدث الذي حدث , لقد عجزت جبلة عن إيجاد شخصية معتدلة بديلة له , لقد امتد التيار المتطرف التكفيري ووجد الساحة خالية بوفاته وهذا سبب آخر من استمرار المشكلة , حيث بات الصراع هو بين تيار الإعتدال ذي الأغلبية وهذا التيار الذي لا يستخدم أساليبا (سلمية) في تجييش الناس ودفعهم للتظاهر وهو يمارس أفعالا سلطوية من تخوين الناس وتخويفهم .

هل تعلم أننا نجحنا في معالجة الكثير من هذه المشاكل قبل أن يبرز دور المتطرفين أصحاب الفكر التكفيري الذين احتلوا الشارع , وهل تعلم أن أصحاب المطالب الحقيقية الذين خرجوا في البداية قد امتنعوا عن الخروج عندما انزلقت الأمور لمستوى العنف والتجييش الطائفي .

هذا (ميكرو) نموذج مصغر لما يحدث , فماذا يحدث في عالم(الماكرو):
لقد تعثرت السلطة تماما بما خلفته من آثار تغييب للقوى الفاعلة الحقيقية في المجتمع , وكان مجرد تجمع يضم ثلاثة أشخاص تحت أي شعار أدبي أو اجتماعي أو حتى مطلبي يشكل (هاجسا) أمنيا لا بد أن ينضم إليهم عنصر رابع لكي ينقل ما يدور بينهم .
وتعثرت بسياستها الإقتصادية التدميرية للقوى المنتجة سواء أكانت صغيرة على مستوى ورش الخشب أو الكبيرة على مستوى تخريب الزراعة والتحول لدولة مستوردة للقمح , أو على مستوى غياب سياسة التصدير ودعم المنتجات المصدرة وترك الأمر لقانون البازار .
وتعثرت بسياستها الإجتماعية والتعليمية التي أدت لتدهور دور المدرسة الرسمية لحساب مئات المدارس الخاصة , وتدهور وضع المشافي العامة , وغياب دور النقايات المهنية التي أصبحت سلطة (نفعية) إضافية تحتكر الميزات لها ولمن تراه مناسبا لكسب الأصوات في الدورات القادمة.
وتعثرت بسياستها المحلية التي وضعت في مجالس البلدات والبلديات والمدن مجالس شكلية لا تعنيها بلداتها ومدنها إلا من باب كيفية الحصول على امتيازات المخالفات وأبواب الكسب الإنتهازي .
أما عن القضاء فحدث ولا حرج .
وفي النهاية أصبح المشهد سورياليا :
لدينا مؤسسات وكل مافيها يعمل ضدها وبعقلية قبلية حيث يصبح المعيار هو التزلف لرئيس المؤسسة وكيل المديح والتمجيد له .
ولدينا أجهزة تسخر لخدمة فرد وليس لمصلحة وطن .
ولدينا مشاريع ولكنها خاسرة وبدون جدوى اقتصادية ,هي فقط أبواب للفائدة .
ولدينا موظفون ولكن يداومون نصف دوام ويعملون نصف عمل هذا إذا عملوا .
ولدينا منتجعات ومشاريع سياحية غير موجودة على أية خريطة دولية , واسعارها تجعل الناس يهربون إلى بلدان مجاورة .
ولدينا حكومة ظل وأمن ظل وتجارة ظل برعاية فساد متغول,هم الفاعلون والحاكمون بأمرنا.
لقد كانت هناك ممارسات ممنهجة في الإدارات العامة أوصلت مجموعة من المتسلقين معدومي الكفاءات والخبرات إلى إبرز الوظائف العامة .

وحين أفاقت على وقع الحراك الشعبي , بحثت عن وسائل تواصل معه لتجد أنها فاقدة لكل الأدوات , بحيث اضطر الرئيس أن يجتمع مع الناس مباشرة بعدما عجزت كل مؤسسات الدولة عن لعب أي دور إيجابي .

إن ماحدث مركب , فيه ثورة ريف على مركزية المدن الكبرى الطاغية , وفيه ثورة مطلبية على ظلم اقتصادي واجتماعي , وفيه ثورة فاقدي الأمل , وكل ذلك إيجابي كما قلت وقابل للتجاوب والتحقيق بالتقاط اليد الإيجابية فيه وتثميره بمشروع وطني , شرط أن يتم فرزه عن مافيه أيضا, الجانب الطائفي والعنفي الذي يأخذ الأمور باتجاه الخراب والعبثية .

بعيدا عن الثورات العربية والربيع العربي وسوى ذلك مما طرح من مفاهيم للحراك الذي يحدث في البلدان العربية , فهذا سيكون عاملا نهضويا شرط توفر له
الشرط الموضوعي المهم وهو تحوله لفعل إيجابي مبتعدا عن التدخلات الخارجية ولا يكون ذلك إلا بوجود برنامج وطني بديل معتمدا على مقومات موضوعية موجودةلا يمكن إغفالها
برزت أدوارها في الأحداث وأهمها :مؤسسة الجيش ورأس المال الوطني .

لا معنى لأي حراك بوجود واستمرار الطغيان العالمي الذي سيجبره على الإنصياع لشروطه الإقتصادية القاهرة .المفاضلة والخيار بين الإستبداد الداخلي والطغيان العالمي لم يعد لها معنى بأحاديتها , لا بد لأي تغيير داخلي من أن يكون وطنيا مقاوما لهذا الطغيان وإلا فإنه يغامر بوضع البلد بأكمله تحت رحمة الخارج وشروطه, وهنا من العبث الحديث عن الحرية والتقدم والديموقرطية ,إن الجهل بالشرط الموضوعي الثاني لأي تغيير هو ما نراه في العراق وفي تونس وفي مصر إلى حد ما .

وفي المثال السوري :بقيت مؤسسة الجيش متماسكة وصامدة , وبقي رأس المال الوطني منسجما ومراهنا على شخص الأ سد , ولا يمكن حدوث أي تغيير إيجابي مالم يكن لهاتين القوتين دور فيه ,ما يجب إدخاله في المعادلة كطرف ثالث هو الحراك الداخلي الوطني , وهذه المعادلة ستنجح في التغيير ضمن الشرط الموضوعي اللازم وهو تحييد الخارج وعدم إدخاله في هذه المعادلة ,وإلا فإن التغيير سيكون سلبيا .
من المهم أن يحمي الجيش التغيير الموعود وعدم ترك الساحة للمتطرفين الذين يبشرون بالخراب والدمار وليس لديهم أي مشروع وطني , بل مشروعهم الوحيد هو الإنتقام.

لقد اكتشفنا 23 مليون محلل سياسي في سوريا , وعرفنا أن لدينا انصياعا فطريا للعكداء والقبضايات الذين فرضوا قانونهم في وقت من الأوقات على الشارع من كل الأطراف , واكتشفنا الطلاق بين المثقف والشارع بحيث بات هذا لا يمون ولا يؤثرعلى أفراد عائلته ربما , واكتشفنا عدم قدرة رجل الدين المتنورعلى التأثير , وحده التطرف ووحدهاالكراهية كان لهما الفعل والقدرة على التحشيد, ووحدها الإشاعة كانت تستنفر وتشد العصب .
وعرفنا أن المحرك ليس الوعي وقوة المنطق بل لغة الغريزة مهما جمّلت بشعارات ومطالب وتفجعات , ومهما ألبست لبوسا إنسانيا .

غربت الشمس ,ولم يخلص الكلام , تم الإفتراق على وعد اللقاء مجددا يوم الأحد ..في مكان أبعد في أعلى جبال الشعرة ,على وعد حضور أحد الشعراء الشعبيين الذي يختزن في ذاكرته مواويلا عتيقة ,وعلى مقاطع لمظفر النواب اختتم أحد الأصدقاء...
في زمان عهره دول
قبيل ذهابكم للسلخ الدولي وفدا
أرسلوا السكين وفدا
ينتهي الخلل .