آخر الأخبار

الغيلان السورية

إن ما حدث في سوريا يشبه قصة الغول الذي أكل صاحبه , ففي الواقع نشأت في ظل غياب الدولة غيلان متعددة في المجتمع وتناسل جسم الدولة غيلانه أيضا .
ففي مناطق عدة من سوريا كانت الفوضى والعشوائية هي التي تنظم حياة الناس وكانت الدولة تلهث وراءها بدون جدوى وفي أماكن أخرى كانت تصنعها .
فنشأت مناطق متضخمة للسكن العشوائي على ضفاف المدن الكبرى وفي كل مكان وصلت إليه أيادي النازحين من موجات الجفاف الطبيعي والحكومي .
عندما قال جاك ويلرس في أوائل القرن المنصرم :إن حل المشكلة الزراعية ومشكلة الفلاحين في سوريا سيرسم ويحدد مستقبلها بل ومستقبل الحضارة العربية.
كان ذلك بعد سنوات قضاها في البحث والإستقصاء وكان أول من لفت الإنتباه لهذا الأمر .
وكان من أوائل السياسيين السوريين الذين فطنوا للقضية الزراعية هو أكرم الحوراني الذي استطاع أن يهزم التيار الديني المتحالف مع عائلات حماة الإقطاعية في الخمسينيات عندما قال للفلاحين أن الأرض من الممكن أن تكون لكم فأشعل ثورة لا زالت نتائجها ممتده لليوم.
وما فعلته حكوماتنا المتعاقبة هو عكس هذا تماما وهناك تقارير مزعجة عن موضوع التصحر والتملح وخراب الأرض سواء بنتيجة تقصير وتخلف مشاريع الري أو بسبب البناء العشوائي في قلب الأراضي الزراعية التي تحولت لمستوطنات متناثره .
في أحد سهول جبلة , الذي كان يزوّد الريجي بأفخر أنواع التبغ , اصبح حاليا خاويا من اية شتلة تبغ والسبب هو أن الدولة تأخذ الكيلو بمئة ليرة وتبيعه بألف .
إضافة لعمله الصعب ,الذي جعل الناس يتجهون لزراعة الحمضيات التي لا تحتاج لجهد كبير ,فنشات مشكلة أخرى تتعلق بموضوع التسويق و واصبح هذا السهل
مليئا بمئات المساكن التي حولته لشبه ضاحية .
ووجد هؤلاء الهاربين من الجفاف في المناطق الخصبة الساحلية متنفسا لهم وبات هؤلاء يعرفون باسم (الشراقة) أي الآتين من الشرق وبات في كل مدينة ساحلية مجموعة هامة من هؤلاء يعملون بمختلف أنواع الأعمال وهؤلاء ظاهرة ليست جديدة ولكن الجديد هو أن هؤلاء قد استقروا وباتوا يستوطنون في ضواحي المدن
بل وبعض هؤلاء امتلكوا قسما هاما من منطقة بساتين الريحان مثلا في اللاذقية وباتوا يتحكمون بأسواق الخضروات والفاكهة.
وبدأ هؤلاء النازحون يحيطون المدن بركام من البناء العشوائي وبدأت الدولة ترضخ للأمر الواقع وتخدّم هذه العشوائيات على أحوالها بدون أن بذل أي جهد في التخطيط الحديث واستباق نموها , لقد مشت الدولة على إيقاع الفوضى من وقتها وبدا الشارع هو الذي يخطط والدولة تتبعه .
فنما جهاز بلدي فاسد على حساب هذه الظاهرة يعتاش من المخالفة ,وأصبحت هذه العشوائيات مدنابأكملها , وتضخمت المخالفات داخل المدن لتؤوي الأجيال المتضخمة نتيجة نسبة توالد من أعلى المعدلات العالمية.
أصبحت لدينا قرى لا تشبه القرى ومدنا لا تشبه المدن , معادية ومنفرة بشكل غريب .
يكفي أن تنظر لطريقة العمران وتخطيط المدن,التي أكلت المساحات والفسح وجعلت المدن تشبه مخيمات اللاجئين .لا تكاد تخلو عمارة من مخالفة واحدة على الأقل ,وباتت اشكال العمارات تشبه لوحات سوريالية من كثرة المخالفات وتنافرها, واحتلت أرصفة المدن والشوارع من قبل طوابير لا تنتهي من السيارات التي تم إغراق السوق بها بدون أن يكون لها مواقف وبدون حساب سعة الإستيعاب , واحتل ما تبقى منها بائعو البسطات , حتى أصبحت شوارعنا مشوّهة ومزدحمة بشكل منفر.

أصبح القانون في سوريا عدو الجميع ,هو موجود ولكن لا أحد يرغب بتطبيقه , فالعرف يفتح آفاقا للثروة والكسب ولتقطيع المشاكل وتجاوز المخالفات بسهولة .

ونمت على حساب ظاهرة التهريب عبر الحدود غيلان أخرى من المهربين و المسؤولين عن الحدود على حد سواء , فبات (الجمركجي) منصبا من أهم المناصب وبات عنوانا للثروة السريعة ,وبات التهريب أقصر الطرق لتكوين الثروات وباتت مناطق حدودية بأكملها تعيش على هذا , حتى قيل أن الدولة عاجزة عن ضبطها بسبب نمو وتضخم هؤلاء وشراستهم عند أي محاولة لتحجيمهم .
ونمت غيلان اقتصادية , لم يكن همها إقامة المشاريع والمنشآت وتحسين مستوى السلع وفق معايير مضبوطة , ولكن جمع النقود بأي طريقة ممكنة وتهريبها للخارج ,ونشأت في ظل كل مؤسسة ومديرية مؤسسة أخرى هدفها صرف الميزانية في أمور عبثية هدفها تحقيق الكسب .
باتت مواقع الوظائف العامة الكبرى حكرا بيد مجموعة من المتنفذين الذين اوصلوا مجموعة من المتسلقين لهذه المواقع وباتت هذه منافذ مضمونة لتحقيق العائد الذي يسمح برد الجميل لهؤلاء .

وفي وسط القهر والأمية والتهميش ظهرت غيلان أخرى , كان التطرف الديني عنوانها الأبرز , حيث وجدت فيه جوابا وعزاء وأملا وبدأ المجتمع السوري يشهد مظاهر دينية تحمل في طياتها انقساما , وبدأت ردة (طائفية) تنتشر رويدا فانتشرت أسماء العلم التي تحمل صبغة دينية وبدأت الأفكار المسبقة والمواقف المسبقة تحكم العلاقات بين الأفراد وبدأ الناس يهتمون بالأمور الغيبية وسيطر الإتباع والتقليد وبات التجديد والتنوير محاصرا ومنبوذا لدى كل الأطراف .
وظهر من يعتاش ويغذي هذه الظاهرة ممن أخذوا من الدين بابا للنفوذ والسيطرة ,فأمعنوا في بث روح التفريق والكراهية واستبدوا بعقول الناس طمعا في المزيد من السيطرة والكسب .

إن مدينة كجبلة مثلا كانت تفخر وتذخر بالعقول والمواهب والكفاءات ,في الأدب والرياضة والتعليم والسياسة والدين,وصلت لوقت أصبح أصحاب الثروة ومنتهزو الفرص وأصحاب الفكر المتطرف هم البارزون وهم أصحاب الرأي والحظوة وهم الذين يؤثرون في الشارع.
في كل مدينة نشأت غيلان امتدت واستطالت لتقضي على كل ظاهرة حية واعية وتحاصرها وتضطرها إما إلى الإنكفاء أو الهجرة .
هناك أجيال بأكملها هاجرت من كل مدينة , وبات الميدان حكرا لقوى نمت في ظل ظروف غير طبيعية وفرضت فوانينها على من تبقى .

لقد سقط الناس ضحايا (التغوّل) وبات من تبقى عاجزا يتلمس الخلاص بأقرب الطرق , وكان لافتا انصراف الناس للقنوات الدينية وأمور التنجيم ,وتفشت الشعوذة
والدجل وسادت قيم التفاهة والتبسيط وبات المجتمع عاجزا عن إنتاج الإبداع وعن الفرز بين الحقيقي والمزيف.
لا يمكن إغفال الطابع (الريفي) للحراك الذي يحدث في سوريا ومن المهم الإنتباه لأكثر المناطق تفجرا وعنفية(ريف دمشق,حمص,جسر الشغور,ألبوكمال).
إن ما حدث في جسر الشغور من قتل لعناصر الأمن بهذه الطريقة هو من الضخامة والفداحة بحيث يجعل بلدانا بأكملها تعيش حروبا طويلةوظروفا عنفية أشد وأمر ويحمل من الدلالات التي تودي باي تحرك ينشد التغيير أو التصحيح او العدالة .
قد يقول البعض :إن الدولة تهاونت في هذا الأمر , ولم تقدر خطر هؤلاء .
وهذا يؤكد تماما ما نقول , فعندما ترتخي الدولة , فما ستجده هو غيلانها التي نمت بجانبها وقد بدات بنهش لحمهاولحم الآخرين .
أليس ملفتا للإنتباه أن من أولى النتائج لما يجري هو نمو مخالفات السكن بطريقة مخيفة وفقدان مواد البناء من السوق وارتفاع الاسعاروسرقة الكهرباء واحتلال الشوارع من قبل البسطات وازدياد التهريب حتى بات السوق مليئا بكل أنواع المخدرات والسلاح.

يظن البعض أن الدولة في سوريا هي دولة قوية متسلطة , وهذا ليس دقيقا, هو صحيح في مفهوم الأمن الذي تكرس خلال عقودوكان يحظر انتقاد رأس السلطة وماعدا ذلك فكل شيء قابل للمساومة , وهذا لا يشمل الذي يخالف ويلوث الينابيع ويعتدي على الغابات ويسمح ببناء العشوائيات ويخرب الزراعة ويهرّب ويسرق المال العام وينشر المخدرات ويضارب في السوق السوداء ويحتكر ويزور المواصفات.
لقد اصبح الإعتداء على الملكية العامة بكل صوره وعلى أملاك الدولة ومنشآتها مباحا وطموحا, وهذا لا يمكن أن يسود في دولة أمنية قوية,إن الأمن يجب أن يشهد ثورة في مفهومه القاصر هذاو يجب أن يتحول أمنا غذائيا ومجتمعيا واقتصاديا ومعلوماتيا واستراتيجيا .

حين تنهار الدول تعود للمرحلة السابقة من التطور وهكذا حدث في الإتحاد السوفييتي حيث عادت الدول لمرحلة القومية ,ولكن نحن لم ننجح في تكوين ثقافة البناية الواحدة المتعاونة والشارع الواحد والحي الواحد ,ما بالك بثقافة المواطنة والوطنية ,
فإلى أية مرحلة سنرجع ؟!

ظهرت هذه الغيلان من أخطاءالدولة وتراخيها ومن فقدان العدالة والقانون , وتضخمت واستطالت حتى وصلت لتنافسها,وأفلتت في المجتمع وبدت مستعدة لإشباع نهمها أخيرا .
وما فعله هذا الحراك المتأثر بموجة الإحتجاجات العربية هو أنه كشف الغطاء عن هذه البنى المشوّهة وأسقط الاستار عما كان يجري في الخفاء ومن تغطية بشاعة المنظر بستائر جميلة كانت لا تلبث أن تتلطخ ويعاد استبدالها , وهو لم يقدم بديلا ولا برنامجا لأنه بالاساس لا يملك بدائل فهو رد فعل على الواقع وليس فعلا واعيا منظما .

والآن ..كيف ستمضي الأمور ؟
إن الحراك الحالي إما أن يسفر عن سيطرة الغيلان على الدولة وهذا سيؤدي لنشوء دول على حجمها وحاجاتها التي لا تنتهي وسينتهي الأمر بصراع هذه الغيلان وانتحارها وتدميرها الذاتي , أو أن تعود الدولة للسيطرة على الظاهرة التي أفرزتها هي .
لا بد من عودة الدولة للسيطرة , ولكن اي دولة ؟
الدولة القوية التي تحمل برنامجا ,الدولة المهابة التي تحمل قانونا عادلا,والتي تقدر على أن تقف في وجه الخارج وتمنع التبيعة له.
الدولة التي تحمل مبضعا لقص تلك الإستطالات السرطانية وبنفس الوقت تملك من العلم والكفاءة ما يؤهلهالتقديم العلاج اللازم وصولا لشفاء الجسد .
ولا بد من ان يلمس الناس التغيير ويرونه على أرض الواقع ويلمسون سيادة القانون بدءا من شرطي المرور ومن النظافة والإعلام إلى منع الإعتداء على الملكيات العامة وصولا لاقتصاد يتلمس الحاجات الأساسية الملحة ويشكل قاعدة لأي نهضة مقبلة.
إن أية محاباة وتغطية لأي مخالفات في البناء والشارع والكهرباء والوظيفة وأمن المجتمع سيؤدي لعدم تصديق أية وعود إصلاحية وسيزداد الإحتجاج.
في السابق كان الناس يحسون بوجود الدولة وهيبتها من زيارة مسؤول حيث يتم تزفيت الشوارع وتنظيف الأرصفة بل وكان يتم إجبار حتى الأشجارعلى الحضور بقلعها من أماكنها وإعادة زراعتها, وكان بعد ذهاب هذا يعود كل شيء اسوأ مما كان .

إن أي ضعف تبديه الدولة تجاه غيلانها سيؤدي لإندحارها , ولا شيء يقدر على وقف هذا سوى قوتها المستمدة من القانون العادل الذي يجب أن يسود ,
وإن أي ثغرة إضافية في تطبيقه سيؤدي لتكرار الظاهرة وبشكل أوسع وأعقد .