ورث السوريون أكثر من اي شعب آخر في المنطقة شعورا بعزة وكبرياء بلدهم وشعورا حادابأنهم مستهدفون بشكل دائم, منذ تقطيع بلدهم بين أولاد الشريف حسين وزرع إسرائيل في جسدهم ,بل وحتى خلق دويلات طائفية في سوريا المتبقية من قبل فرنسا .
ويوصفون بالشجاعة لحد التهور , فهم حتى قبل أن يتاح لهم بناء دولتهم بعد الإستقلال ,سلموا بلدهم لعبد الناصر بدون شروط ردا على تحديات الخارج في الخمسينيات , وهم قد اندفعوا في حرب تشرين لحدود طبريا بدون تأمين خطوطهم الخلفية ,واستمر (التهور) السوري بما عرف بسياسة (حافة الهاوية) التي أتقنها حافظ الاسد في نزاعاته.
وهذا كله له أسباب تاريخية بعيدة تتعلق بتاريخ حضاري قدّم للبشرية بواكير نهضة وعمران وحقيقة أنها ما تبقى بعد عمليات التقطيع والسلخ من ذلك الإرث الغابر, وأسباب قريبة تتعلق بالموقع وصراعات المنطقة , ولا بأس من التذكير بها باختصار:
أن بلدهم قد ساند حركات المقاومة قولا وفعلا ,ووقف ضد احتلال العراق واستقبل ملايينه النازحه , وأن جيشهم هو الجيش الوحيد الذي قاتل الجيش الإسرائيلي خلال ربع قرن ونيف مواجهة ومداورة .
وأن رئيسين أمريكيين زارا بلدهم في حين أن رئيسها لم يزرأمريكا قط , بل وكانت لديهم الجرأة لطرد مبعوثا شخصياللرئيس الأمريكي في الثمانينيات وعدم استقبال وزير الخارجية الأمريكي في التسعينيات .
وأنهم لم يستدينوا من الخارج وخاصة من البنك الدولي وصندوق النقد .
وأنهم لم يجوعوا , فأرضهم ظلت تعطيهم أضعاف ما يحتاجون , وظلت ورشاتهم تنتج ما يلبسون .
وأنهم لم يفرطوا بأرضهم , وظلوا مع لبنان الوحيدين الذين لم يوّقعوا ولم يتركوا الفلسطينيين لمصيرهم.
وأنهم شاكسوا السياسة الأمريكية في المنطقة لدرجة أنهم أسقطوا طائرات للجيش الأمريكي وأسروا طيارين يوما ما , وأذلّوا السياسة الأمريكية مرارا في المنطقة .
وبسبب ذلك كانت السياسة السورية محيّرة للكثيرين ,بسبب مشاكستها أكبر القوى العالمية التي رضخت لها دولا أقوى وأكثر تقدما وقوة .
ولكن كان كعب أخيل في هذا , هو الوضع الداخلي .
حيث لم تتم محاولات جدية لبناء دولة مؤسسات ولم يتم إفساح المجال لأي قوى جديدة بأن تعبّر عن تطلعاتها , ولم يتم إعطاء هامش حرية يستطيع فيه الناس العمل والتفكير بدون توجيه وبدون أوامر .
هل كان هذا سيعرقل هذه السياسة , وهل كان بالإمكان تحقيق مثل هذه السمعة بالتوازي مع بناء دولة حديثة عصرية ؟
لطالما أثير هذا السؤال في النقاشات وفي التحليلات ,قد تؤخر هذا الظروف غير الطبيعية التي مرت بسوريا والمواجهات الصعبة التي خاضتها والتي كانت تهدد وجودها في بعض الأحيان .
ولكن على الرغم من ذلك ,فهذا لا يبرر تماما. فلقد مرت سوريا بفترات هدوء نسبي , كان بالإمكان البدء بمشروع نهضوي لتحديث بنية الدولة وإطلاق المجال للقوى المهمشة لكي تأخذ دورها في البناء والتعبير عن نفسها فما الذي منع هذا ؟
محاولات متعثرة
أولى المحاولات كانت في السبعينيات بعد حرب تشرين ,إذ حصل في البلد طفرة مالية بعد تعويض دول الخليج على سوريا ومصر آثار الحرب ,انتشر جو من التسامح والتصالح والحرية النسبية وانعكس ذلك على الفن والأدب والرياضة والمجتمع وحتى على نمط لباس الناس المتحرر , ويذكر الناس تلك المرحلة بفيض من الحنين ,وكان أحد عناوين تلك المرحلة ملحق الثورة الثقافي الذي كتب فيه وقتها :ياسين رفاعية,غادة السمان ,أدونيس ,زكريا تامر ,الماغوط..وسواهم .
ولكن هذه الطفرة لم تستمر حيث لم توظف الوفرة المالية جيدا وأهدرت في مشاريع لم تكن ناجحة ومنها معمل الإطارات والورق وسواها, واستفاد منها قلة من المنتفعين .
وهذا سبب أول حراك شعبي , حيث تلاقى شعور بالنقمة على الأثرياء الجدد مع رغبة خارجية بتوتير الأوضاع في سوريا بعد رفضها لخروج مصر وللتوقيع المنفرد مع إسرائيل , وحدث الخطأ الأول حين انحرف الحراك الشعبي عن مطالبه العادلة ولبس لبوس التطرف والطائفية والعنف مما أودى به وبالمطالب نفسها .وتوقفت محاولات الإصلاح , وبات الأمن هو الهاجس الأول وهو النتيجة القاتلة التي افرزتها أحداث أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات .
ودخل البلد في سبات عميق إن كان نتيجة لسيطرة هاجس الأمن أو للحصار الغربي الشهير في الثمانينات .
المحاولة الثانية حدثت بين 1991 و1994 حيث برز اسم باسل الأسد , كمحرك لها وبشهادة العديد من المحللين (حديث سمير العيطة للlbc مثلا *) كانت هناك محاولة جدية لتأسيس مشروع تحديث الدولة وتجديد بنيتها واساليبها , وأيضا تزامنت هذه المحاولة مع وجود (بحبوحة) مالية بسبب الدعم المالي الذي تلقته سوريا بعد مشاركتها بتحرير الكويت ,ولكن هذه المحاولة أجهضت بوفاة باسل الأسد .
المحاولة الثالثة كانت بعد تسلم الرئيس بشار الحكم عام 2000 , حيث انتشر جو في البلاد بأن الرئيس الشاب القادم من بريطانيا أتى حاملا معه افكارا ومشروعا لبناء دولة حديثة وعلى أسس عصرية .
فخف الفساد في البداية وتم تشجيع الحوار وإطلاق المبادرات وافتتحت المنتديات , وأثمر ذلك ما عرف بربيع دمشق .ولكن هذا لم يستمر طويلا .
وإن ما حدث بعد هذا يظل عرضة للتخمينات , فالبعض يرجّح أن ما دعي ب(الحرس القديم)** وهم رفاق والد الرئيس بشار قد وقفوا بوجه تلك المحاولة , وقالوا أنهم هم الذين أتوا بالرئيس وأنه يقابلهم بتهديدهم بفقدان مراكزهم وامتيازاتهم , فتم طي المحاولة بل وتم اعتقال البعض ممن شاركوا بها .
ومرة جديدة اتجهت الأنظار السورية نحو الخارج بعد غزو العراق في عام 2003 والضغط على سوريا لتغيير موقفها المعارض لهذا بما عرف بورقة كولن باول .
كان قدرا سيئا على ما يبدو أن تظل أنظار السوريين متجهة للخارج , وان تحبط كل محاولاتهم لبناء دولة حديثة وعصرية تساير العصر وتحقق التنمية , وأن تظل أعصابهم وأرواحهم متعلقة بصراعات تجري حول بيتهم وتهدد سوريا .
وكان القدر الأسوأ هو اتكال الحكومات المتعاقبة على الظروف غير الطبيعية تلك لتبرير عدم الإصلاح .
لقد أبرزت الوقائع حقيقة مرة , وهي أن سوريا قوية وعصية ومتحدية في وقت الحرب والصراع , وأنها تخرج منتصرة مهما طالت الأزمة ,ولكنها متهاودة وفاشلة في وقت السلم و(بارعة )في إهدار الوقت .
لكل أزمة محدداتها وعواملها , منها ما يتعلق بالجدل الداخلي ومنها ما يتعلق بالخارج , والعنف هو أسوا أنواع الحوار .
في محددات الواقع السوري الراهن أن هناك جيشا متماسكا وسلطة لم تظهر عليهاعوامل تفكك , وهناك راس المال المحلي الذي يضع ثقله مع السلطة , وبتنا نعرف اليوم أن هذين المحددين تحت ضغط الشارع قد أوديا بمبارك وبن علي بالإتفاق مع المؤثر الخارجي , وأنه في ليبيا واليمن على الرغم من انقسام الجيش والشعب بنسبة النصف تقريبا فإن التغيير لم يحدث وهو سيحتاج لاغتيال في اليمن ولتدخل الناتو في ليبيا ومع ذلك لم ينجح الأمر بعد كل هذه الشهور.
و أيضا أن هذا الحراك له أسباب داخلية قوية لا يمكن اغفالها .
أما المحدد الخارجي فدوره معلن , وهو قد ركب مركب مطالب الناس لا عن قناعة بل مركب الذئب الذي استدعته الدماء , ومركب الباحث عن دور وغنائم .
وفي الوقائع :
بلغ عدد ضحايا الصراع حوالي الالفين ,ربعهم من رجال الجيش والأمن , وهو رقم كبير بالمنظور العسكري وقضايا الحروب ,فكم يجب أن يبلغ الرقم لكي يقنع المحتجون ويعترفون بأن هناك من يريد أن يودي بحركتهم وببلدهم ,ويذهب بها إلى العبثية والدمار.
وكم يجب أن يبلغ رقم من سقط من المحتجين لكي تقنع السلطة بأنها يجب أن تقدم شيئا آخر, فالعنف قد يوقف الإحتجاجات ولكنه لن يحل جذورالمشكلة .
يعيد التاريخ نفسه بصور دراماتيكية , وتتكرر الأزمات بصورة دورية تقريبا وما يجري الآن هو تكرار لمسائل غير محلولة وأزمة لم يتم تفكيك عواملها.
كم من الثمن يجب على السوريين دفعه لكي يصلوا لحل معادلة طالما أرقتهم وهي :كيف نبقي بلدنا قويا ومهابا ومتحررا من الهيمنة الخارجية وبنفس الوقت نحقق بناء الدولة ونهضة المجتمع على أسس عادلة وسليمة .
لقد تحرك الناس بداية بدافع الهدف الثاني ولكنهم أودوا بالهدف الأول , وتحركت السلطة بدافعها الأول وتكاد تودي بالهدف الثاني .
يحتاج حل الأمر إلى لحظة تاريخية يتقاطع فيها هذين المنحيين ,في جملة تضع الخارج ..خارج المسألة.
--------------------------
*حديث د.العيطة لمارسيل غانم ,ويستشف أن د.العيطة كان من المشاركين في هذه المحاولة.
وللمفارقة كان ممن أقصتهم هذه المحاولة(عاطف نجيب)هوالشخص الذي نسب إليه تفجّر الأحداث في درعا .
**من الأمثلة,فقدان د.هاني مرتضى لمنصبه كوزير للتعليم العالي,بسبب منتقديه من المتشددين البعثيين بوجه سياسته لتطوير الجامعات على الرغم من أنه طبيب أطفال الرئيس ,ويكيليكس البرقية"09DAMASCUS254" .