طوال آلاف السنين، اعتمد الناس على بعضهم لتذكر تفاصيل أحداثهم اليومية.
أما الآن، فنعتمد على «السحابة» the cloud التي تقوم بتغيير طريقة إدراكنا وتذكرنا للعالم من حولنا.
<M .D. وگنر> - <F .A. وورد>
باختصار:
"مما هو مأثور، أن التذكر عادة هو سمة اجتماعية. فأحد الأشخاص يتذكر كيف يطبخ الديك الرومي ويتذكر شريكا له يعرف كيف يصلح التسريب من المغسلة.
لكن الإنترنت تقوم بتغيير كل شيء. فبالنفاذ إليها من كل مكان تقريبا، يمكن لكثير من الناس أن يقوموا أولا بالبحث عن المعلومة بواسطة هاتف ذكي بدلا من الاتصال بصديق.
والاتصال الدائم بالإنترنت في كل الأوقات يغير الإحساس الشخصي بالذات، لأن الحدود بين الذواكر الشخصية والمعلومات المنتشرة عبر الإنترنت تصبح ضبابية.".
يتلقى زوجان دعوة إلى حفلة عيد ميلاد. ومن خلال خبرتيهما الطويلتين، يعرف كل منهما بحدسه ما يجب فعله بعدئذ. فأحدهما يحدد نمط اللباس, رسميا أوْ لا؛ ويقوم الآخر بتسجيل ملاحظة ذهنية عن وقت التجمع ومكانه بحيث لا ينسيانهما.
وإلى حد ما، كل منا يحيل المهام الذهنية إلى الآخرين. وحينما تُقدم إلينا معلومات جديدة، نقوم تلقائيا بتوزيع المسؤولية عن تذكر الحقائق والمفاهيم على أعضاء مجموعتنا الاجتماعية، متذكرين بعض الأشياء بأنفسنا، ومعتمدين على الآخرين في تذكر الباقي. وحينما لا نستطيع تذكر الاسم الصحيح لشخص أو طريقة إصلاح آلة معطلة، نلجأ ببساطة إلى شخص آخر على معرفة بذلك. وإذا كانت سيارتك تصدر ضجيج قرقعة، اتصلت ب<ريمون>، صديقك الشغوف بالأشياء التقنية. ألا تستطيع تذكر من كان النجم في الدار البيضاء؟ إن <مارسي>، الشغوف بالأفلام السينمائية يعرف ذلك. إن جميع أنواع المعرفة، من تلك العادية الخاصة بالحياة اليومية، حتى تلك العصية على الفهم، توزع فيما بين أعضاء المجموعة، سواء كانت هذه الوحدة الاجتماعية زوجين أو قسم محاسبة في شركة متعددة الجنسيات. وفي كل حالة، نحن لا نعرف المعلومات المخزنة في عقولنا فقط، بل «نعرف» أيضا أنواع المعلومات التي على أعضاء مجموعتنا الآخرين تذكرها.
إن هذا التوزيع والمشاركة يدرأ التكرار غير الضروري للجهود، ويعمل على زيادة سعة ذاكرة المجموعة كلها. وحينما نحيل المسؤولية عن أنواع محددة من المعلومات إلى آخرين، فإننا نحرر موارد إدراكية كان عليها لولا ذلك تذكرها. وفي مقابل ذلك، نستعمل بعض تلك الموارد لزيادة عمق معرفتنا في المجالات التي تقع مسؤوليتها على عاتقنا. وحينما يتشارك أعضاء المجموعة في المسؤولية عن المعلومات، يتمتع كل عضو بإمكان الوصول إلى المعرفة على نحو أوسع وأعمق مما يمكن له الحصول عليه بمفرده. والذاكرة الموزعة تربط المجموعة معا، وأي شخص بمفرده لا يكون كاملا من دون أن يكون قادرا على الوصول إلى المعرفة الجماعية لدى سائر المجموعة. فلو كان الزوجان اللذان تلقيا دعوة عيد الميلاد منفصلين، لما عرفا ماذا يفعلان: فقد يتجول أحدهما تائها في الشوارع بقبعة عالية ورداء ذي ذيل، في حين أن الآخر يمكن أن يصل إلى الحفل في الوقت المحدد مرتديا قميصا فضفاضا.
لقد نشأ هذا الميل إلى توزيع المعلومات عبر ما نسميه «منظومة الذاكرة التبادلية» في عالم التأثيرات المتبادلة وجها لوجه، ذلك العالم الذي مَثَّل فيه العقل البشري قمة النجاح في خزن المعلومات. إلا أن هذا العالم لم يعد موجودا. فمع تطور الإنترنت، اختزل العقل البشري من كينونة مفعمة بالمقدرة والطاقة إلى خاسر كبير.
إن إدخال التطبيق سيري Siri الخاص بالآيفون إلى المجموعة الاجتماعية يغير كل شيء. وعملنا يوحي أن نتعامل مع الإنترنت وكأنها شريك بشري ذو ذاكرة تبادلية. فنحن نرسل الذكريات إلى الإنترنت بسهولة تماما كما نرسلها إلى عضو في أسرة أو صديق أو حبيب. ولكن الإنترنت، من ناحية أخرى، ليست كالشريك البشري ذي الذاكرة التبادلية. فهي تعرف أكثر، وتستطيع إنتاج هذه المعلومات على نحو أسرع. وجميع المعلومات متاحة اليوم بسهولة من خلال بحث سريع في الإنترنت. وقد يكون الأمر أن الإنترنت لا تأخذ مكان الناس الآخرين بوصفهم مصادر ذاكرة خارجية فحسب، بل أيضا مكان مقدراتنا الإدراكية أيضا. وهي قد لا تلغي الحاجة إلى شريك نتشارك معه في المعلومات فحسب، بل يمكنها أيضا أن تقوض الدافع إلى ضمان أن بعض الحقائق المهمة التي عرفت للتو قد نقشت في بنوك ذاكرتنا الحيوية ونسمي هذا مفعول گوگل Google effect.
شريك جديد:
----------------
لقد استعرضنا في تجربة حديثة أجرتها مجموعتنا مدى بدء الإنترنت بالحلول محل صديق أو عضو في العائلة بوصفه قرينا نتشارك معه مهام التذكر اليومية. فقد طلب <B. سبارو> [من جامعة كولومبيا] و<J. ليو> [وكانت حينئذ في جامعة وسكنسن-ماديسون] وواحد منا (<وگنر>) إلى المشاركين في التجربة إدخال 40 قطعة معلومات شائعة مختصرة إلى حاسوب (مثلا: «عين النعامة أكبر من مخها»). وأخبر نصف المشاركين بأن عملهم سوف يخزن في الحاسوب، وأخبر النصف الآخر بأن عملهم سوف يمحى. يضاف إلى ذلك بأنه طلب إلى نصف كل مجموعة تذكر المعلومات، بصرف النظر عن كونها سوف تخزن في الحاسوب أم لا.
لقد وجدنا أن أولئك الذين اعتقدوا أن الحاسوب قد احتفظ بقائمة الحقائق كانوا أسوأ تذكرا. فقد بدا أن الناس يعاملون الحاسوب كما يعاملون الشركاء من ذوي الذاكرة التبادلية التي شرعنا في دراستها قبل عقود، فهم يرسلون المعلومات إلى هذا العقل المتمثل بالإنترنت بدلا من خزنها في رؤوسهم. ومن المدهش أن هذه النزعة استمرت حتى عندما طلب إلى الأشخاص صراحة الاحتفاظ بالمعلومات في رؤوسهم. ويبدو أن الميل إلى إرسال المعلومات إلى مصادر رقمية قوي جدا، إلى درجة أن الناس هم غالبا غير قادرين على تثبيت تفاصيل ضمن أفكارهم الذاتية بوجود أصدقاء لا يتواصلون معهم إلا عبر الإنترنت.
كما درسنا في تجارب أخرى أجريناها على مجموعتنا سرعة اللجوء إلى الإنترنت عند محاولة الإجابة عن سؤال. ولاختبار هذه الفكرة، طبقنا ما يسميه علماء النفس مهمة سترووب Stroop task، حيث يفحص المشاركون سلسلة من الكلمات مكتوبة بألوان مختلفة، وعليهم تحديد لون كل كلمة مع إهمال معنى الكلمة نفسها. وبقياس سرعة تسميتهم للون كل كلمة، يمكننا الاستدلال على مدى استحواذ الكلمة على انتباههم. فإذا كانوا بطيئين نسبيا في تسمية اللون، افترضنا أن معنى الكلمة له صلة بشيء يفكرون فيه. فمثلا، إن الأشخاص الذين افتقدوا الطعام مدة 24 ساعة، كانوا أبطأ في تسمية لون كلمة تدل على طعام معين، وذلك مقارنة بالأشخاص الذين تناولوا طعامهم جيدا. فنظرا إلى أن الكلمات ذات الصلة بالطعام مهمة للأشخاص ذوي الحاجة القائمة إليه، فإن من المستحيل تجاهل هذه الكلمات، ولذا يؤدي ذلك إلى مدة استجابة أبطأ.
وفي تجربتنا، أكمل المشاركون مهمتين من مهام سترووب: واحدة بعد الاستجابة لأسئلة سخيفة سهلة، وأخرى بعد محاولة الإجابة عن أسئلة صعبة. وكانت الكلمات في هذه المهام على صلة إما بالإنترنت - گوگل بحروف حمراء مثلا، وياهو بحروف زرقاء - أو بأسماء علامات تجارية عامة - Nike بالأصفر وTarget بالأخضر، إضافة إلى أسماء أخرى.
صديق عارف بكل شيء:
----------------------------
لقد وجدنا مفعولا لافتا حقا بعد طرح أسئلة تافهة صعبة، أي أسئلة لم يستطع المشاركون الإجابة عنها وحدهم (مثلا، «هل يوجد لونان على الأقل في أعلام جميع الدول؟») لقد تلكأ المشاركون على نحو ملحوظ في تحديد ألوان الكلمات ذات الصلة بالإنترنت، ولم يحصل ذلك مع الأسماء ذات الصلات بعلامات تجارية عامة، وهذا ما يوحي أن الإنترنت تأتي إلى الذهن سريعا عندما لا يعرف الشخص جواب السؤال. وعلى ما يبدو، عندما نواجه بطلبات عن معلومات لا نعرفها، فإن ردة فعلنا الأولى هي التفكير في الإنترنت، «صديقنا» العارف بكل شيء الذي يستطيع تقديم هذه المعلومات إلينا بعد نقرة بسيطة من إصبعنا، أو بعد أمر صوتي لا عناء فيه. وعندما نحيل المسؤولية عن أنواع كثيرة من المعلومات إلى الإنترنت، ربما نكون قد قمنا بالاستعاضة عن شركاء آخرين محتملين ذوي ذاكرة تبادلية، أي أصدقاء وأفراد أسرة وخبراء بشريون آخرون، بوصلتنا الدائمة مع سحابة رقمية digital cloud تبدو عليمة بكل شيء.
من نواح عدة، ثمة مغزى لهذا التحول من توزيع المعلومات على أعضاء مجموعة اجتماعية تبادلية من الأصدقاء والمعارف، إلى السحابة الرقمية. فلأول وهلة، تنطوي البتابايتات المنتشرة عبر الإنترنت على بعض الشبه بما هو موجود في رأس صديق. فالإنترنت تخزن المعلومات، وتقدمها إلينا استجابة لأسئلتنا، وحتى إنها تتعامل معنا بطرق بشرية مدهشة بتذكرها عيد ميلادنا، وحتى باستجابتها لأوامرنا الصوتية.
ومن نواح أخرى، ليست الإنترنت كأي شخص التقينا به من قبل، فهي موجودة دائما، وتعمل دائما، وتعرف عمليا كل شيء. والمعلومات التي نستطيع الوصول إليها بواسطة هاتف ذكي أكبر كثيرا من حيث مقدارها مما يمكن خزنه في رأس أي شخص، وأكبر بالعديد من المرات مما يمكن أن تخزنه مجموعات بشرية كاملة. وهي دائما محدثة، وباستثناء حالات انقطاع الكهرباء، فإنها ليست عرضة للتشويه والنسيان اللذين يصيبان الذاكرة القابعة في رؤوسنا.
وتتباين كفاءة الإنترنت المذهلة بشدة مع طرائق البحث القديمة. فطلب معلومات إلى الأصدقاء غالبا ما يتطلب البحث عنهم، مع الأمل بأنهم يعرفون الحقيقة المطلوبة، والانتظار وسط آهٍ وإيهٍ وسعلة مصطنعة أو اثنتين في أثناء بحثهم (في رؤوسهم) عن الجواب. وعلى نحو مشابه، قد يتطلب البحث عن معلومات في كتاب، الذهاب إلى مكتبة عامة وتقليب فهرس بطاقاتها بارتباك، والتجوال بين رفوفها إلى أن يتم تحديد موقع المادة المطلوبة. وعملية السعي ذاتها إلى حقيقة أو رأي من أحد المعارف أو من كتاب مرجعي تؤكد اعتمادنا على مصادر خارجية للمعلومات.
لكن گوگل وويكيبيديا غيّرا جميع ذلك. فالتمييز بين الداخلي والخارجي، أي بين ما هو قابع في أذهاننا في مقابل ما يعرفه صديق، يتغير جذريا عندما يكون المؤتمن على المعلومات هو الإنترنت. فالمعلومات المستجرة من الإنترنت تصل إلينا أحيانا بسرعة أكبر كثيرا مما يمكننا استخراجه من ذواكرنا. والفورية التي تقفز بها نتيجة بحث إلى شاشة هاتف ذكي يمكن أن تجعل الحدود الفاصلة بين ذواكرنا الشخصية من جهة والخزائن الرقمية الهائلة المنتشرة عبر الإنترنت من جهة أخرى ضبابية. وحديثا أجرينا في جامعة هارڤارد تجارب لاختبار مدى تضمين الناس للإنترنت في إحساس شخصي بالذات. وفي هذه الدراسة، حاولنا مرة أخرى التيقن من الكيفية التي تلجأ فيها أفكارنا بسهولة إلى محركات البحث حينما يواجهها سؤال بسيط. وقبل البدء بالدراسة، وضعنا سلما لقياس كيفية تقدير الناس لإمكانات ذواكرهم الشخصية. فالشخص الذي يوافق على العبارتين: «أنا ذكي» و «أنا جيد في تذكر الأشياء» يمكن أن يعتبر أنه يمتلك ثقة ذاتية إدراكية عالية.
وبعدئذ طلبنا إلى الأشخاص الإجابة عن أسئلة بسيطة بمساعدة گوگل أو من دونها، ثم طلبنا إليهم تقييم أجوبتهم باستعمال هذا السّلَّم. وكانت الثقة الإدراكية بالذات أعلى كثيرا لدى أولئك الذين استعملوا الإنترنت بحثا عن الجواب. والمدهش هو أنه على الرغم من أن الإجابات كانت حرفية كما وردت في الإنترنت، فقد تخيل الأشخاص المنغمسون في الدراسة أن إمكاناتهم الذهنية الذاتية هي التي أنتجت المعلومات، لا گوگل.
وبغية التيقن من أن الأشخاص لم يشعروا بأنهم أكثر ذكاء لأنهم كانوا قادرين على الإجابة عن عدد أكبر من الأسئلة بمساعدة گوگل، أجرينا دراسة مشابهة قدمت فيها لأولئك الذين لم يستعملوا محرك البحث إشارات زائفة بأنهم أعطوا إجابات صحيحة عن معظم الأسئلة البسيطة. وحتى عندما اعتقد المشاركون في كلتا المجموعتين أن أداءهم كان جيدا في الحالتين، قال أولئك الذين استعملوا الإنترنت إنهم يشعرون بأنهم أكثر ذكاء.
أحيانا، تصل إلينا المعلومات التي نحصل عليها من الإنترنت بسرعة أكبر كثيرا مما يمكننا استخراجه من ذواكرنا.
وتشير هذه النتائج إلى أن الزيادات في الثقة الإدراكية بالذات بعد استعمال گوگل ليست ناجمة عن استجابته الفورية في توفيره للأجوبة الصحيحة، بل إن گوگل يعطي المرء الإحساس بأن الإنترنت أصبحت جزءا من مجموعة أدواته الإدراكية الشخصية. فتذكر نتيجة بحث لا يحصل لمجرد أنها موعد أو اسم أخذ من صفحة وب، بل لأنه نتيجة لما استقر في ذواكر المشاركين في الدراسة أنفسهم، وهذا ما أتاح لهم بالمحصلة ادعاء معرفة أشياء كانت من نواتج خوارزميات البحث التي يستعملها گوگل. والمفعول النفسي لتجزئة الذواكر بالتساوي بين الإنترنت ومادة الدماغ الرماديةيشير إلى مفارقة ساخرة. فحلول «عصر المعلومات» يبدو أنه قد أوجد جيلا من الناس الذين يشعرون بأنهم يعرفون تماما أكثر من ذي قبل، في حين أن اعتمادهم على الإنترنت يعني معرفة بالعالم المحيط بهم أقل بكثير.
ومع ذلك، ربما بعد أن نصبح جزءا من العقل الإنترنتي Intermind، سوف نطور أيضا ذكاء جديدا ليس متعلقا بالذواكر المحلية التي تشغل أدمغتنا فقط. ومع تحررنا من ضرورة تذكر الحقائق، قد نكون قادرين، بوصفنا أفرادا، على استعمال مواردنا الذهنية لمهام طموحة بعد أن غدت الآن حرة. وربما يستطيع العقل الإنترنتي الناشئ أن يجمع فيما بين إبداع عقل الفرد من البشر وسعة معرفة الإنترنت بغية تكوين عالم أفضل - وإصلاح بعض من الفوضى التي أحدثناها حتى الآن.
ومع انطماس الخطوط الفاصلة بين العقل والآلة بفضل التقدمات في الحوسبة ونقل البيانات، يمكننا تجاوز بعض القيود التي تفرضها مثالب الإدراك البشري على الذاكرة والتفكير. ولكن هذا التحول لا يعني أننا معرضون لخطر فقدان هويتنا. فنحن ببساطة ندمج ذاتنا في شيء أعظم، مكونين شراكة تبادلية، ليس مع الآخرين من البشر فحسب، بل مع مصدر معلومات أقوى من أي شيء آخر شهده العالم من قبل.