آخر الأخبار

النهـــر والصحـــراء والاســـتبداد

 

الشائع في الدراسات التاريخية، ولا سيما تاريخ الأديان، أن أخناتون هو أول مصري صاغ فكرة التوحيد، وأول مَن دعا إلى عبادة الإله الواحد، وحاول، في الوقت نفسه، توحيد أقاليم مصر القديمة تحت راية واحدة وعقيدة واحدة.

وكان لفكرة التوحيد أثر كبير في الحياة الروحية للناس في المنطقة الواقعة بين مصر وشبه الجزيرة العربية، وفي ربط وحدة الأرض أو الأرض الواحدة بالدين الواحد. وقد جعل بعض الدارسين أخناتون نبياً من الأنبياء ممن لم يُذكروا في الكتب الدينية التي ظهرت لاحقاً.
لماذا لم تظهر فكرة التوحيد في اليونان أو في سوريا القديمة مثلاً، بينما ظهرت في مصر أولاً ثم في شبه الجزيرة العربية بالتحديد؟ ولماذا تجاوب سكان سوريا التاريخية (والعراق أيضاً) مع المسيحية لا مع اليهودية؟ ولماذا انتشرت المسيحية، كانتشار النار في الهشيم في مدائن سوريا القديمة، أي في المنطقة الممتدة بين العريش في الجنوب وجبال طوروس في الشمال، وبين الساحل الشرقي لبحر الروم (البحر السوري) غرباً وباديتي الشام والسماوة شرقاً؟ ولماذا لم يستجب سكان سوريا التاريخية (والعراق أيضاً) للصيغة العربية للتوحيد (الإسلام) إلا بعد فترة طويلة من الفتح العربي الذي اجتاح بلاد الآراميين (السريان والأشوريين)؟ هل لأن المسيحية هي وارثة عبادات الخصب القديمة وديانات الأسرار التي كان العراق وسوريا ميدانها الرئيس؟

 


نحن إذاً أمام ظاهرة نشوء التوحيد السياسي والديني في مصر أولاً (أخناتون)، ثم عند أطراف مصر أي في سيناء (موسى واليهودية)، ثم، في ما بعد، في شبه الجزيرة العربية (النبي محمد والإسلام)، بينما تأخر التوحيد طويلاً ليعم سوريا والعراق، وما كان في إمكانه أن يعم هذه البلاد لولا الموجات البشرية المتمادية التي تدفقت على العراق والشام بالتدريج منذ عصر الفتوحات الإسلامية الأولى فصاعداً. وفي محاولة لتحليل هذه الظاهرة يمكن القول إن من المحال تفسير التاريخ بالأفكار، بل يمكن تفسير الأفكار بوقائع التاريخ. وبناء على ذلك فقد كان التوحيد المصري (ثم العربي بعده) تعبيراً عن حاجة سياسية بالدرجة، هي الحاجة إلى توحيد أقاليم مصر تحت قيادة واحدة وحاكم واحد وإله واحد بالطبع. وتوحيد الأرض ما كان ممكناً في ذلك العصر من غير توحيد السماء. والأمر نفسه ينطبق على التوحيد العربي. فالجزء المحاذي للبحر الأحمر من شبه الجزيرة العربية (نجد والحجاز وتهامة) راح يتحول إلى منطقة حيوية لعبور القوافل التجارية بين اليمن والشام، وتطورت فيه واحدة من المحطات التجارية المهمة (مكة)، وتحولت إلى شبه مدينة تجارية حقيقية بحسب مواصفات ذلك العصر، وظهرت فيها مؤسسات ائتمانية وتجار كبار ومرابون وجماعات وظيفية لحراسة القوافل من غزوات الأعراب. وهذه المنطقة كانت تحتاج إلى مَن يوحد الأجزاء المترامية من هذه البلاد، ويحمي القوافل التجارية العابرة تحت سلطة واحدة وحاكم واحد وإله واحد. وقد حاول كثيرون القيام بهذه المهمة قبل النبي محمد مثل خالد بن سنان الذي قال عنه النبي إنه «نبي ضيعه قومه».([) لكن هذه المحاولات كثيراً ما باءت بالفشل بسبب وقوف الدولتين العظميين ضدها آنذاك، أي الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية. غير أن الأحوال باتت مهيأة في القرن السابع الميلادي لنجاح فكرة التوحيد، وذلك مع ازدهار طرق التجارة الدولية العابرة لتلك المنطقة، وتراكم ثروات كبيرة لدى التجار، وتهتك أوضاع الدولتين الفارسية والبيزنطية جراء حروبهما المتمادية. وهكذا بزغ عصر التوحيد العربي على أيدي بعض تجار مكة.

 


النهر والصحراء


لم يعش أخناتون طويلاً، وكذلك لم تعش أفكاره الدينية. لكن توحيد وادي النيل، كضرورة حيوية، هو الذي عاش وترسّخ واستمر طويلاً، مع أن وحدة هذا الوادي كانت أمراً حيوياً لمصر في جميع العصور، ولا بد منه لأي حاكم حتى قبل ظهور أخناتون. ومع أن الشرعية الدينية للحاكم المقدس، واستطراداً سلطاته المطلقة، كانت إحدى دعائم الحكم في مصر الفرعونية، بل مسألة اعتيادية في معظم الحضارات القديمة بما في ذلك حضارات أوروبا، وخصوصاً في الحضارات النهرية، إلا أن هذه السلطات المطلقة للحاكم المقدس والمستبد خضعت لإعادة النظر الجذرية في أوروبا حين تصدت المدن التجارية الساحلية لإحداث أعظم تغيير في التاريخ الوسيط، أي القضاء على النظام الإقطاعي، وتمزيق غلائل الانحطاط في العصور الوسطى، فأدارت ظهورها للكنيسة الواحدة الجامعة (الكاثوليكية)، واستعادت التراث الإغريقي المتعدد الآلهة. وهذه العودة كانت عودة ثقافية لا عقيدية بالتأكيد، إنما هي طريقة في القطيعة مع ثقافة العصور الوسطى، والاتكاء على ثقافة أوروبية موغلة في القدم، لكنها ظلت فاعلة في الفكر الأوروبي ولا سيما في الفلسفة والفن والرياضيات.
أما في بلادنا فقد حصل العكس؛ فجذور الاستبداد ما تزال حية وفاعلة، ولا سيما في المجتمعات النهرية والصحراوية التي شهدت ظهور الواحدية، وقامت فيها حضارات أو حركات توحيدية متفاوتة الأثر التاريخي. وقد تخلفت المجتمعات النهرية كمصر والعراق عن إدراك النهضة الحديثة التي عمت العالم القديم، وبالتحديد أوروبا والصين، منذ نحو 500 سنة، وكذلك عجزت المجتمعات الصحراوية وشبه الصحراوية كالجزيرة العربية وإيران ودول العقدة الآسيوية في أفغانستان وباكستان... وغيرها عن الخروج من شرنقة الاستبداد والحاكم المطلق شبه المقدس. فإذا كان المؤسسون الأوائل للمسيحية مثل القديس بولس قد انزلوا الله عن عرش اللاهوت إلى أرض الناسوت، فإن فقهاء الإسلام جردوا الحاكم المسلم من بشريته ورفعوه إلى مقام اللاهوت، فصار لا يُسأل عما يفعل، بل يَسأل عباده حتى عما لا يفعلون. وكل مَن يعارض هذا الحاكم يكون قد ارتكب المعصية بلغة الدين، والعصيان بلغة السلطة. وعقاب المعصية قطع الرأس بسيف السلطان، وعقابها الديني الحرق بنار جهنم. لذلك كان شعار الجلاد بعد إقامة الحد «هذا عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة فأشد.»

 

 


المقدس والمستبد
لماذا لم تتمكن هذه المجتمعات ذات التجربة «الحضارية» القديمة من تحطيم أغلالها، ومن شق عصا الطاعة على الحكام المستبدين؟ هل الدين عامل أساس في هذا العجز؟ أم أن ثمة أسباباً أكثر عمقاً؟ وفي هذا الميدان يقول مراد وهبة إن الفرعونية هي أساس الدكتاتورية في العالم، لأن الحاكم لديها مقدس؛ فهو دكتاتور لأنه مقدس (مجلة «روز اليوسف»، 2/12/2007). والمعروف أن الحضارة الفرعونية اتسمت بروح الاحتفاء بالموت أكثر من الاحتفاء بالحياة، ومع أن عقائد الخصب كانت شائعة لديها باعتبارها حضارة نهرية، إلا أن عقائد الموت كانت الرائجة أكثر من عقائد الانبعاث. وكان الفراعنة لا ينتظرون الموت مثل معظم الشعوب الأخرى، بل يستدعونه، الأمر الذي جعل الماضي مقدساً أيضاً. وأحد أمثلة المصريين الرائجة حتى اليوم يقول: «قطع الورايد ولا قطع العوايد». ولعل من نتائج ذلك أن الفراعنة برعوا جداً في علمين: الطب والهندسة. لكن الدافع إلى هذه البراعة الفريدة، في الحالتين، كان خدمة الموت؛ فالطب للتحنيط، والهندسة لبناء المقابر (الأهرام). وكان العلم لديهم عملياً، ولم يتطور ليصبح علماً نظرياً، أي عقلياً. بينما اليونان، وهم شعب بحري متناثر، فقد تعلموا من المصريين والسوريين، لكنهم تجاوزوا ما أخذوه بأشواط. وعلى سبيل المثال فيثاغورس الذي أخذ من المصريين علم الهندسة، فقد طوّره إلى مصاف النظرية، فوضع ما يسمى «البرهان»، وعلى البرهان قام «المنطق». ثم جاء أوقليدس ليؤسس تصوراً عقلياً للمكان أبعد مدى من نطاق العلم التطبيقي وحده؛ وأقصد بالعلم التطبيقي هنا العلم السابق للعلم النظري، لأن العلم النظري يصبح تطبيقياً أيضاً.
هل الاستبداد، في هذه الحال، هو الوجه الآخر للتوحيد؟ وهل سنعاني هذه الآفة طويلاً، ونظل ندفع ثمن ما جرى منذ ثلاثة آلاف سنة في مصر، أو بسبب ما وقع منذ نحو 1500 سنة في جزيرة العرب؟ وهل ان أوروبا تمكنت من النجاة من أهوال الاستبداد حين أعادت اكتشاف الثقافة الإغريقية، وأدارت ظهرها للمسيحية القديمة ذات المنشأ الشرقي الآرامي؟ أم أن هذه الأفكار مجرد مواقف معادية للإسلام، ولا شيء غير ذلك؟

 

 


إما المسيحية القديمة أو الإغريق
من الصعب الإجابة عن مثل هذه التساؤلات المشروعة في أي حال. ومهما يكن أمر الأجوبة، فإن أوروبا التي شرعت في نهاية العصور الوسطى في عملية تاريخية لإطاحة الإقطاع، والتحول إلى الرأسمالية، كانت تحتاج إلى التخلص من قداسة الحاكم، ومن المسيحية الواحدة المسكونية (الكاثوليكية) التي سيطرت عليها منذ عهد الإمبراطور قسطنطين، وتحولت، جراء ذلك من دين الناس إلى دين السلطة ودين الحاكم. وكانت العودة إلى الثقافة الإغريقية غير المقدسة، وذات الآلهة المتعددة، محاولة للانقضاض على المسيحية نفسها التي تتناقض، في الجوهر، مع تعدد الآلهة، ولا سيما أن الثقافة الإغريقية لا تعرف ما يسمى «الخطيئة الأصلية»، ولا تعترف، في الوقت نفسه، بأن الجسد الإنساني هو مستودع الخطيئة، بل كانت تُعلي من شأن الجسد والجمال الجسدي، وتمنح المتعة والجمال ركناً أساسياً في منظومة أفكارها وفي ثقافتها كما تجلى ذلك في الحياة اليومية للناس الذين ابتدعوا الكوميديا في سياق احتفالات أعياد الخمر الصاخبة، وابتكروا التراجيديا في سياق موت الآلهة، فضلاً عن الأفكار الفلسفية كالأبيقورية التي جعلت تحقيق المتع الذهنية والجسدية غاية في حد ذاتها. بينما ازدهر التقشف والزهد والانعزال والتصوف وإماتة الجسد في الحضارات ذات الطابع الصحراوي وشبه الصحراوي في ذلك السديم الممتد من صحراء العرب حتى الهند، وتأثرت به حتى المسيحية. لذلك كان الانقلاب على المسيحية الكاثوليكية يحتاج، بالدرجة الأولى، إلى مرجعية فكرية مختلفة، فكانت العودة إلى الثقافة الإغريقية التي تمجد العقل والتفكير الفلسفي، والحوار بين الأفكار، وحق الاختلاف. وهكذا كان عصر الإصلاح الديني وانبثاق البروتستانتية ونقد الإيمان التقليدي ونقض الطقوس وقدسية الحاكم والبابا معاً، مجرد مظاهر فكرية لحاجة أوروبا إلى التغيير في المجتمع وفي الدولة أيضاً؛ هذا التغيير الذي دشنته الطبقة الثالثة الأوروبية الصاعدة (البرجوازية) في سياق تشكل القوميات الأوروبية، وفي سياق تحلل الثقافة اللاتينية الجامعة واللغة اللاتينية المقدسة ومركزية روما السياسية، لمصلحة الثقافات الأوروبية المتعددة، تماماً مثلما كان تجار الجزيرة العربية يحتاجون، مع اختلاف المضمون، إلى نظام سياسي جديد يحمي قوافلهم وأموالهم وأرواحهم، ويتيح لهم التوسع في الاتجار وتحقيق الأرباح عبر البلاد المفتتحة، ويوجه غزوات البدو في الداخل نحو الخارج. لنتذكر كيف خاطب النبي محمد قبائل العرب حين دعاهم إلى الفتح والخروج من الجزيرة العربية إلى العراق والشام فقال: «ألا أدعوكم إلى كلمة تقولونها تدين لكم بها العرب وتؤدي لكم العجم الجزية؟ والله لتنفقن كنوز كسرى وقيصر». فالحركة التوحيدية الإسلامية في سنة 630 ميلادية، التي استندت على أعراب البادية وتجار مكة لتحقيق مشروعها السياسي، لا تختلف كثيراً، إلا بالفارق الزمني وتحولاته، عن الثورة العربية الكبرى سنة 1916 التي قادها الشريف حسين بن علي التي استندت على بدو الحجاز والأردن (وعلى رجال الاستعمار البريطاني مثل «لورنس العرب») لتحقيق طموحها السياسي في إقامة مُلك عربي في الشام والعراق لحاكم مكة. ومع أن الدولة العربية الأولى أسسها التجار والأعيان، إلا أنها لم تلبث ان انفصلت عن مكوناتها الأولى ما إن صار لها مدينة؛ ففي دمشق صارت هذه الدولة ذات شخصية اعتبارية فوق التجار والأعيان والأعراب، وإن استندت إلى عصبية الدم (بنو أمية وحلفاؤهم وبقية العرب).

 

 


بين عقلين


من باب المقارنة فإن «العقل الإغريقي» الذي نشأ في الجزر البحرية المتناثرة، وفي لجج المجازفة والتحدي في البحار الهائجة، ابتدع مفهوم البطل التراجيدي الذي يعاكس أقداره بإرادة التحدي من جهة، وبعقله الذي يعرف مسبقاً أن تغيير الأقدار من المحال. أي أن الفرد المأساوي يعرف قدره منذ البداية، ومع ذلك لا ينفك متحدياً أقداره متوسلاً تغييرها بهذا التحدي الدائب. وفي معمعان هذا الصراع مع الأقدار فإن الآلهة نفسها ربما تتغير فتبدل إرادتها ومسلكها، وربما تنقلب على ما كانت قدّرته سابقاً. والآلهة لدى الإغريق متعددة؛ لهذا كان العقل لديهم تركيبياً، أي متعدداً. بينما العقل العربي الذي نشأ، في بداياته التكوينية الأولى، في الفيافي والقفار وعند مفارق طرق التجارة الداخلية وفي الواحات التي تتطلع إلى استمطار الغيث من الغيوم العابرة، «ابتدع» مفهوم التسليم والانتظار والقضاء والقدر، مع ما في ذلك من الاستكانة والخضوع للأقدار. وحين لاحت فرصة تاريخية لظهور حضارة عربية قوية، كان وعاء هذه الحضارة يتخذ شكل الدولة المستبدة التي عطلت أي تعددية ممكنة، وكان مضمونها دينياً كي تصبح قيادة الناس أمراً ممكناً.
وللمقارنة أيضاً، فإن العقل الغربي حين أنهى صراعه ضد الآلهة انتقل إلى الصراع ضد الطبيعة، فحصل التقدم. بينما «العقل العربي» حين أقر واحدية الحاكم وأحادية السلطة والمرجعية الواحدة للتشريع وتسيير شؤون الناس، انتقل إلى الصراع ضد البشر، فحصل التخلف. ولعل التعدد والاختلاف جعلا العقل الغربي غير متصادم تكوينياً مع الحرية؛ فالسلطات هي التي تصادمت طويلاً مع الحرية. وهذه السلطات كانت، في جوهرها، إما سلطات دينية، أو تستمد شرعيتها من الدين. لكن نسبية المعرفة والحرية النسبية انتصرت في نهاية المطاف. وفي رحابها ظهرت العقلانية النقدية التي هزت المحرمات، وتصدت لإعادة النظر في المسائل الدينية كلها بلا تحفظ بما في ذلك أسطورية المسيح وتاريخيته، وحتى عذرية مريم. بينما واحدية التفكير عند العرب التي كثيراً ما استمدت جذورها من الحاكم الواحد، ومن الدولة المركزية الواحدة، فقد أنتجت الطغيان والتعصب. ومن نافل القول إن بعض مظاهر «التعدد» في الفكر العربي القديم لم يكن تعدداً حقيقياً، بل مجرد اختلاف في سياق هيمنة الفكر الواحد، أي الدين. وعلى العموم ظل الفكر الشرقي مرتبطاً بالدولة المركزية الواحدة، وبرجال الدين وبهيمنة الطقوس، وبسيطرة النصوص، فلم يستطع ان يتحرر من هذه السلطة المربعة الرؤوس. وبسبب هذه الإعاقة افتقر إلى المغامرة الفكرية والجرأة النقدية، تماماً مثلما افتقد البرهان المنطقي الذي هو عماد الفلسفة. وفي أي حال فإن مفهوم العقل عند العرب هو أنه جوهر خلقه الله منفصلاً عن الكائن العاقل ومتعالياً عليه ومفارقاً له، وغايته الوحيدة عبادة الخالق ومعرفة إرادته ومشيئته. أما العقل لدى الغرب، فهو الإدراك، أي إدراك قوانين الوجود، ثم تسخيرها لمصلحة الكائن العاقل. وهو، بهذا المعنى، غير منفصل عن الكائن وله طبيعة شبه مادية. وهنا، في هذا الافتراق، ربما نعثر على معضلة التقدم والتخلف التي خضعت لها المنطقة العربية بأسرها منذ نحو 800 سنة فصاعداً.
[ [ [
من الصعب، بالتأكيد، اكتشاف رابطة سببية بين التوحيد في ذلك الزمان، والاستبداد في زماننا الحالي، مع أن الوشائح كثيرة جداً. والسؤال المهم هو: لماذا استمر الاستبداد في بلادنا، بينما راح يذوي ويتضاءل وينحسر منذ زمن بعيد في بلدان الكرة الأرضية الواسعة؟ هل لأن بلاد العالم هذه انقلبت على التوحيد بمعناه السياسي القديم، وأطلقت سراح الأفكار المقموعة المناهضة له، وتمكنت من حفر مجرى حضاري جديد يختلف تماماً عما كان قبله، أي أنها قامت بقطيعة جذرية مع القديم؟ لماذا تمكنت شعوب كثيرة عاشت طويلاً في ظل الاستبداد السياسي والديني من الخروج من تلك الشرنقة، بينما فشل العرب (والمسلمون أيضاً) من تحقيق هذه المهمة؟
انها أسئلة حيرى حقاً، ونحن في لجة الجواب ولجاجته حائرون. وما هذه المقالة إلا تحرشاً أولياً بهذه الأسئلة.

([) تتحدث سيرة ابن هشام عن ابنة خالد بن سنان التي جاءت النبي محمد وقالت له: أقرئني بعضاً من قرآنك. فقرأ. فقالت له: هذا ما كان يقوله أبي. فقال لها: ومَن أبوك؟ فقالت: خالد بن سنان. فقال لها النبي: هذا نبي ضيّعه قومه.

 

صقر ابو فخر