.... دخلنا.....الساحة مليئة لا يوجد فيها مقعد فارغ أشاروا إلينا بعد استقبالهم لنا....تفضلوا إلى الصالة..... الصالة مكتظة وجانب منها فارغ......يعلو فيها اللغط، أصوات ُهمهمة ٍ....الجميع يخترعون الأحاديث ،يقطعون بها الزمن البطيء حتى يحضر الطعام، وهناك في أحد الدهاليز ترتفع أصوات،...ثم يظهر طابور طويل لشبان تتهلل وجوههم،يحملون كل فوق رأسه منسفا ً ،ويتقاطرون إلى طاولات عليها ملاءات حمراء منثورة ،،وكؤوس ماء مختومة تحيط بأطرافها، أفرغوا كل ما يحملون على الطاولات الجاثمة،وكان كثير من الطاولات ليس حولها أحد فملئوا بعضها وأرجعوا الباقي.
يتعالى صوت جهور .. ويتبعه صوت آخر ...تفضلوا إلى غدائكم...كان أكثر فعل أمر ٍ محبب إلى النفوس تبعته استجابة سريعة من الجميع..... ،اقتربت من طاولة أمامي،جاء أربعة آخرون ،أخذ أحدهم إبريق الشراب وسقى المنسف بعدما أزلنا عنه حجابه من الورق المعدني، سمينا باسم الله وغرسنا أيدينا في الأرز واللحم .....بجواري رجل قصير عبوس،وضع يده في المنسف ومدَّ الأخرى إلى جيبه،أخرج منها هاتفا قديما ،ضغط عليه ضغطة واحدة ثم وضعه على أذنه والأرز يملأ فاه...هآه أين أنت ياجمال ..أين ذهبت..أِحْضَرْ اليَّ أنا هنا في الداخل تعال إلي وهات محمد.....أغلق هاتفه ودسَّه ُفي جيبه،ثم طأطأ رأسه وأظهر شيئا من الضيق وهو مطرق برأسه الى المنسف.
كان المنسف منسفا بحق لا ترى فيه أرزا من كثرة اللحم..... ثوان ٍ قليله بعد مكالمة الرجل القمئ وإذا رجل مقبل معه طفل صغير انه جمال ولا شك ..!عرفت هذا لان الرجل القمئ العبوس بجانبي،تحول صوته إلى ما يشبه ثغاء الخروف وهو ينادي عليه،حيث لم يستطع أن يوفق بين مضغ اللحم الذي يملأ فاه وبين حرصه على التأكيد بأن يأتي جمال إلى طاولتنا بالذات ، فأخذ يشير إليه ويهمهم ،ورغم أن جمال تجاوز في مسيره أكثر من طاولة فارغة من الآكلين إلا من اثنين أو ثلاثة أشخاص...إلا أنه على مايبدو لم يستطع عصيان أمر الرجل القمئ بالانقضاض علينا،والغريب أكثر أن يمين جمال ملطخة بالطعام فلابد أن الهاتف الذي عاجله به القمئ قد أدى إلى انسحابه من منسف قبله ..وهذا في العرف عيب! .إصطف جمال وأفسح للطفل........أمره بقسوة ٍ أن يمد يده والطفل لصغره لا يرى ما فوق الطاولة،وقانون جمال في التربية أن الطفل لابد أن يأكل وحده من غير مساعدة هكذا يبدو .
يحاول الطفل أن يتراجع...فينهره جمال مرة أخرى... ويعبس في وجهه،ويأمره بأن يمد يده إلى الطعام،وعبثا يحاول الطفل الصغير الذي بدأ وجهه يمتلئ بالتجاعيد استعداد للبكاء،لقلة حيلته في إطاعة جمال...................................... الرجل القميء بجانبي يأخذ اللحم من أمامنا ويكوِّمه ...أمام جمال وطفله..... وهذا ايضا عيب ! والطفل يمضغ ببطء وخوف..وجمال لا يفتأ ينظر إليه كأنه ينتظر أن يحتج فيلطمه ،والرجل القمئ،يحاول أن يفتح في اللحم والأرز طريقا يجمع فيه بحركة تظهر كأنها عفوية ما هو أمامي وأمام الرجل الذي يليه من اليمين،حيث لم يكتفِ بأن نقل معظم اللحم أمام جمال وولده !... ....أصابني الضيق وخفت أن يأتي بحركة فيها النذالة فأقوم بإهانته ..كان أمامي قطعة من اللحم، مددت يدي إليها ،وبحركة سريعة أمسك بها القمئ بشدة وثبتها،وقال بلهجة غاضبة،...خذها عمي خذها...أحسست عندها ببركان يثور في رأسي ،وتشظى لدي الوعي فرحت في غيبوبة إلا من كابوس وقوفي بجانب هذا القمئ الشره،لملمت بعضي وانكمشت إلى نفسي وتركت الطعام،وتركه معي رجلان على مائدتنا .
من غير أن ابدي حركة،خرجت..... وكأنني لا أرى أحدا بالرغم من وجود المئات........وأنا لا اعرف أن أجمع شيئا مما تبعثر مني...هل أعود إليه فأجعله احدوئة ذلك النهار....يراجعني صوت ينطلق من أعماقي... لن يخسر القمئ شيئا..لا لا بد أن الخسارة عنده هي أن يصبح آدميا ويخلع عنه اخلاق الضباع.................... غسلت يدي...وهاهنا صديق...وهاهنا قريب...انشغلت بهم اسلم عليهم ويسألني كل عن أحوالي أسأله عن احواله ويمضي الوقت وأنا أجمع بعضي ،وما زلت في دوامة من الارتباك...وأهُمُّ بالذهاب لأقتلع عيني القمئ الشره، وظني أنني لن أجده بعدما فرغ الناس جميعا منذ زمن من الطعام..اتجهت إلى داخل الصالة ..وتوجهت بعيني صقر جارح إلى تلك الطاولة التي تركته عندها ،وإذا به مازال واقفا عندها ويمضغ..ويرفع بشماله كأسا من اللبن..وما زال يلملم ويلقي أمام جمال..والطفل الصغير مازال مربوطا بشمال جمال ....يحاول الهروب ولكن ولات حين مناص. فقفلت راجعا أتربص به منتظرا أن .......يشبع وظني انه لن يفعل لأن الضبع من الحيوانات الكانسة!?