آخر الأخبار

في مثل هذه الأيام..

فستق عبيد...عبيد قرّب ..دعاية..
وصلني صوت بائع الفستق عبيد ,وكأنه طوق نجاة, وأنا منطويا على نفسي ألتصق بثوب أمي ,حالي حال أخوتي السبعة..كان يجب سماع الدقة الثانية لصوت صفاّرة الانذار ,
لكي نستطيع الخروج من الملجأ وإشعال بعض الأنوار..والملجأ هذا هو الحمام نفسه, فقد كانت من ضروريات منح رخص البناء وجود غرفة في المنزل من الاسمنت المسلح بكاملها..تشكل ملجأ عند الضرورة.
كنت في الثامنة ..والحدث في الخارج كان حرب تشرين..الحرب التي سترسم ملامح الأعوام المقبلة ..في تاريخ سوريا والمنطقة.
كان ..صوت البائع ..هو الشيء الوحيد الباعث للطمأنينة ..في جو الخوف والترقب . إضافة لأصوات إناس تنطلق من حين لآخر طفّي الضو..
وصوت فيروز.. خبطة قدمكن عالأرض هدّارة.. التي كانت تسمع بعد كل موجز أو بلاغ عسكري..
هاهو بائع الفستق في الشارع ..اذن فالحياة تسير ولاشيء خطير. .
كان والدي (المدرس) , متغيبا بشكل شبه دائم عن المنزل..يعود لساعات قليلة يطمئن ويأكل وجبةساخنة, ثم ينطلق حاملا سنباله الذي وزعوه على المدنيين والذين تولوا حماية بعض النقاط المهمة داخل المدينة مثل مستودعات التموين والأفران وخزانات الوقود والشواطىء..
كانت تسيطر على لغة الرجال..مفردات جديدة ..وكانت روحهم المعنوية في أوجها.
-2-
أحببت كرة القدم..والسباحة منذ صغري..
كان أبي يأخذنا الى شاطىء الرميلة في جبلة لنسبح منذ أعوامنا الأولى..وتولّى المهمة بعده أخي الأكبر.
وكان يوجد في الرميلة على مرتفع صخري محاط باشجار الكينا والسرو..قاعدة للفدائيين الفلسطينيين ..
كنت أنشغل لفترة طويلة بمراقبة هؤلاء الناس الذين يرتدون الزي المرقط ..وشعورهم الطويلة..وكوفياتهم المنسدلة على أكتافهم ,
كانت تدخل سيارة جيب مكشوفة توصل إناس وتأخذ غيرهم..كما كان لديهم زورق مطاطي ..كنت أراهم أحيانا وهم يسحبونه من الماء.
وصدف ..أن أخذنا أخي الأكبر من الرميلة باكرا أي قبل ميعادنا اليومي والسبب هو حضور مباراة بكرة القدم بين الفريق المحلي جبلة وأحد الفرق الزائرة..
وما كدنا نصل الى الملعب حتى دوّت في الجو أصوات طائرات ودب الناس الصوت غارة... .
هرعنا باتجاه المنزل ..وأخذت أصوات الانفجارات تلاحقنا..
وعلمنا فيما بعد أن الإسرائيليين قصفوا تلك القاعدة واستشهد عدد كبير من الفدائيين واسشهد معهم مجموعة من أبناء مدينتي كانوا لا يزالون يسبحون ..وأذكر منهم ابن حارتي الشهيد سمير زيدان.
وانطلقت التحذيرات بأن لا نقترب من أي جسم غريب ,فد ألقى الأسرائيليون كمية من القنابل الموقوتة في المنطقة.
..وكان ذلك قبل حرب تشرين بفترة قصيرة.
-3-
بعد مدة ...أسبوع ..تقريبا ولسبب ما قرّر أبي أن نصعد جميعا باستثنائه الى القرية حيث بيت جدي ..
وفي القرية اختلف جو الحرب ..كان هناك عزلة ..كانوا يأخذوننا الى النوم باكرا..
وكان الحديث اليومي ... طلّعوا شهيد للضيعة الفلانيه ...وفلان من الضيعة المقابلة أصابته شظية ..وآخر لا يعلم أهلة شيئا عنه...
وفي أحد الأيام ك....ر طوق العزلة هذا..لهب أرجواني..كان يرى عند الغروب ..كانت تبدو السماء الغربية وكأن أحدا قد أشعلها برمتها..
وانتشر الخبر...لقد قصفوا خزانات الوقود في بانياس ..
وبدأت اسرائيل في حرب تدمير للمدن والمنشآت الإقتصادية في سوريا.
ومن يومها بدأ العقاب ..
لقد تجرأوا وفعلوها..ويجب معاقبتهم..هكذا قررت اسرائيل والغرب ..وبدأوا...ولم ينتهوا بعد..
من قصة ايقاف القتال على الجبهة المصرية..الى النفط واغتيال الملك فيصل..الى إهانة سليمان فرنجية(وكان فرنجية قد فتح موانىء بيروت وطرابلس أمام شحنات الأسلحة الى سوريا بعد ضرب الموانىء السورية والجسور على الطرق البريّة في سوريا) في نيويورك وهو ذاهبا لالقاء كلمة عن العرب في الأمم المتحدة وتفتيش حقائبه بحجة وجود مخدرات فيها..
الى حرب لبنان والإخوان المسلمين ..ومعاهدة السلام ..والإتهام بالإرهاب ومن ثم الحصار..وصولا الى اجتياح لبنان عام 1982 .
هذا هو العقاب المسلّط ...ضغط خارجي بكل الوسائل...ونخر وإفساد في الداخل.. لإخضاع هذه السوريا المتمردة..
لم يعد عندي شك أبدا..أن ما نعانيه اليوم من هذا الفساد المعمم ..هو سلسلة متصله من هذا العقاب ,ونتيجة مباشرة لمرحلة الحصار,على الرغم من أنه قد كبر ونما وأصبح ابن عيلة وله حماته ..وقوانين استمراره الذاتيه ,إلا أن جذوره تعود لتلك المرحلة.
وأن أي محاولة جديّه لخلاص البلد لن تكون إلا بضرب هذا النخر الداخلي ...الذي تمادى ..وأصبح يماثل العدو الخارجي خطورة .
-5-
يا سوريا...
هاهم يحاصرونك برا وبحر وجوا...
ويتقاطر المتبرعون ..للهجوم على ما تبقى من تلك الروح بك...
والفاسدون..ينخرونك ..من الداخل..
كم أحبك..
كم أحبك ..وأحبك أكثر وأنت معمّدة باللهب الأرجواني..
كم أحبك ..وأحبك أكثر وأنت متمردة ..متفردة..لا تشبهين إلا ذاتك...
كم أحبّك ..
واحبك أكثر في مثل هذه الأيام.