زاوية نظر أمام لوحة " حنان" للفنان بوعبيد بوزيد
الرسام الفنان بوعبيد بوزيد ، هو فنان أغنى الساحة الثقافية بمدينة تطوان، مسقط رأسه، سواء بكتابته عن رجالاتها، أو بالاشراف على البحوث الميدانية لطلبته في شعب المعمار القديم لمدينة تطوان،و فن الخزف ببواديها و غيره مما يدخل في التاريخ الحضاري لهذه المدينة التي نشاركه عشقه لها.كما أغنى ساحة الفن التشكيلي محليا على مستوى مدينته و مغربيا على ساحة الوطن، ودوليا ، بمشاركته في معارض متعددة خارج الوطن، وهو بهذا ليس بحاجة أن أدرج بيبليوغرافيته هنا. فهي بغناها الابداعي و ثراء تجربة صاحبها، موجودة في متناول الجميع، على صفحات الأنترنيت.
استسمح الأستاذ بوعبيد، أنني اطلعت على اللوحة في غيابه، فاللوحة كالكتاب، كونها قابلة للقراءة، وان اختلفت عنه في باقي التقنيات، ثم اني تجرأت أكثر، و أخذت بقانون نظرية التلقي، التي تتيح لي بعضا من الحق في المساهمة في محاولة انتاج دلالة اللوحة،ومنها استلهمت العنوان.
اللوحة من فن " البورتريه" ، و هو فن يهتم برسم الشخصيات بمحمولاتها، و لعل الشخصية المحورية في اللوحة هي الأم بشحنتها الدلالية، و حمولتها في الفكر و الوجدان الانساني.و سنعود الى هذا في سياق رحلتنا في اللوحة.
اللوحة بأناقتها و انسيابية محتوياتها، تسبح في هدوء مستفز يثير الدهشة.تلك الدهشة التي تبعث فيك شهوة الغوص، لتكتشف أن ما يبدو لك هادئا، بينما هو عالم يضج بالحياة.ألوانها تثير الأفكار، تخلخل المعاني الجميلة الكامنة فينا.تكلم الشاعر نزار قباني عن الرسم بالكلمات، و يقول أحد الدارسين :"ليس المهم ما يقوله الشاعر، بل المهم الكيفية التي يقوله بها" بهذا التلاقي بين الشعر و الرسم ، ندرك ما ينتظر من الفنان شاعرا كان أم رساما، وحدها الأدوات هي التي تختلف.
فضـاء اللوحة يغلب عليه اللون الأزرق، و حضور زرقته جاءت مختلفة عن الزرقة في ثبوتيتها، لانها زرقة منفلتة من رتابة اللون الواحد.زرقة تعج بالامتلاء. مساحتها تكفي أن تكون مهدا لحياة بأكملها. بل انها تجسد نافورة نبع الميلاد، تليه الزرقة الفاتحة لرداء الأم الذي يجسد الحضن و الاحتواء و السكينة. بينما ،حضور لون البيج المشاكس وليد اللون الأبيض ، الخارج من بوتقة سكونيته، وقد داخلته شحنة الدينامية، ، فأتى مفعما بأكمام الحياة الخفية،ناضحا بفعل النشأة.
هكذا تطالعك الألوان ببساطتها المطرزة بالتركيب، و الوجهان المجسدان لكل من الأم و الطفل، بناء شكليا مرئيا متميزا، يتسلل الى مسامك، يأسر فهمك، يدغدغ حواسك، يستفز قدراتك لفهم " الجميل" كما ينبغي له أن يتبدى رسما.
رسما يقدم لك خصائصه الفنية كبناء جمالي في أبهى تجلياته. اللوحة بقيمها الجمالية تمنحك سلاما لا تتقن حياكته الا الأمهات.تمد أمامك بساطا ملائكيا يرحل بك نحو عوالم مسكونة بالدعة. ثم ان اللوحة بالاضافة الى بنائها الجمالي من ألوان و شخوص و سمات، تقدم فيمة ذات مرجعية عاطفية و اجتماعية و قدسية، و هذا الدمج بين الأخلاقي و الفني في بوتقة " الجميل" داخل لوحة توحي ـ لأول وهلة ـ بالبساطة، تجعلنا نقف اجلالا لصاحب هذه التركيبة الساحرة.
و حتى لا نغرق في الانطباعية، سنعمد الى البحث عن الميكانيزمات الخفية للعمل، و قد وجدنا أن اللوحة تحكمها ثلاث تقنيات هي:
-1 التناقــض
-2 الألـــــوان
-3 الحركـــة
1- التناقـض:
التناقض التقني بين الشكل و المضمون، هو ذلك " التضاد بين حجم اللوحة المادي الملموس،الصغير نسبيا، و بين محمولها الفكري، سواء كأمومة، أو كعطاء، أو كحياة بحروف غليظة بين مزدوجتين، مقبلة في تؤدة و هدوء.وهي إحدى الميكانيزمات الضمنية التي أعطت للوحة كل تلك الحمولة الدلالية،و جعلت إشاراتها و إيحاءاتها تأتي مركزة و جلية.عبرها استطاع الرسام أن يمرر الى المتلقي كمشاهد، كما من القيم الجمالية.فاللوحة بحجمها الصغير ، و ألوانها و شخوصها المحدودين، توحي بزخم من الاشارات و الدلالات، مما أعطى للوحة ثقلا ابداعيا متميزا، أفسـح المجـال لقيم انسانية أجمل و أرقى ، تتحف المشاهـدة، و تسافر به نحو أبعـاد جماليـة تنبع من اللوحـة لتنطلق به نحو دلالات أخرى تغذي وعيه و تمتعه.
صاغ الفنان بوعبيد عناصر لوحته انطلاقا من وجهين: وجه أم شابة ذي لون قمحي و ملامح مغربية ،ولباس تقليدي مغربي بسيط ، يوحي ببداوة راقية . أي شخصية محددة في الزمان و المكان و الدلالة . العينان مسدلتا الأهداب ، ترشح بحركة حنو، ذات وظيفة دلالية، تضفي على المشهد المرئي احدى سمات الأمومة.أما وجه الطفل الذي يحمل نفس السحنة المغربية ، و نفس نمط اللباس النابع من بيئتنا البدوية، فتلك صفحة أخرى للوحة تشرع لك أبواب قراءة خطت سطورها بالريشة و اللون.
أعطت تقنية " التناقض" لموضوع اللوحة كثافة، حولتها الى قصيدة شعر، أو سوناتة موسيقية، بحيث بقدر ما جاءت الشخوص و الألوان محدودة العدد، بقدر ما زخرت بومضات جمالية عالية النبض، ذات شحنات متعددة من الاحالات.
-2 الألــــــــــــوان:
الألوان المحدودة العدد، كما أسلفنا ، تندمج في انسجام منمنم، تخترقها الأضواء و الظلال، و التفاصيل الدقيقة.رمزية الأزرق المخترق بخضرة خفية،تشي بحياة جنينية في رحم المستقبل، و هو يغطي فضاء اللوحة، و زرقته الكثيفة تكفي أن تكون مشروع حياة تتبلور. لباس الأم، بين ضفتي الأزرق و الأبيض يجسد رداء للطمأنينة.الأبيض في اللوحة يخرج من بوتقة السكون، ليرتمي في أحضان البيج المفعم بدفء حياة تتغلغل.يليه اللون القمحـي ممزوج باللون الوردي المتخفي في طياته، الحامل لبذور الحياة الجنينية. وقد أعطاه الرسام للبشرة كلون يشع بجذوة الحياة المشتعلة، مع تسليط ضوئي على وجه الطفل، و لمعان شديد في المقلتين ، ينطق بسر السعادة الذي مده بها حضن الأمومة. و يعكس بوادر عنفوان حياة آتية. السمة الأساسية لألوان اللوحـة تكمن في عدم وجود فروع لها، و هي تتمرد على السكونية و المباشرة، كما تجعلك تشعر أنها ألوان في طور التكوين، و تلتقي وظيفتها الفنية ، في محدوديتها، مع تقنية " التناقض" في تكثيف الدلالة، فهي تخرجك من ربقة المألوف و ضجته، لتسحبك نحو هدوء جميل مسكون بحياة وليدة تتغذى بالحب.
-3 الحـركـــــــــــــــة:
الحركة في اللـوحة تقنية ذات وظيفة عالية. فهي التي بعثت فيها أنفاس الحياة. و هي ذات رموز ستة :
- الخصلـة
- الأهداب المسدلة
- القـرط
- الانحنـاءة
- القبلـــة
- اليـــدان
هذه الرموز الستة هي مفاتيح اللوحة نحو تقنية الحركة. و سنعمد الى فكها حسب محمولها الدلالي الذي يشير اليه موقعها في اللوحة .
ا
الخصلة: الخصلة المنفلتة من شعر رأس الأم، فوق جبين غض، خال من التجاعيد أو آثار التعابير،آتية من مفرق شعر أسود ناعم و متناغم مع لون البشرة، ممشط بعناية، أخرجها من مكمنها انفعال عاطفي اجتاح حنايا الأم و هي تتأمل وليدها فحرك فيها الرغبة في تقبيله.الخصلة جزء مكمل لحركة مشروع التقبيل.
الأهداب المسدلـة:
الأهداب المسدلة، حركة هادئة ، تنبئ باندماج شخصية الأم مع مشاعر فارت منها أثناء فيض روحاني انتابها و هي تحتضن وليدها ، فغمرتها الرغبة في أن تسكبها في مشروع قبلة تهديها له، مع مشروع رؤية مستقبلية ما زالت نزيلة الآحداق، غطتها الأم برموشها حتى لا تنفلت منها.
القــــــــرط:
القرط المتدلي من أذن الأم ،تداهمه نسمة حركة خفيفة تنفخ في بوتقته أنفاس الحياة، فتحوله الى ناقوس يمجد الفرحة.بالاضافة الى وظيفته المادية إكسسوار يبدي الجانب الأنوثي الجمالي في اللوحة و يغنيه، وهو يساهـم مـن جهته، في تكثيف حركة التقبيل.
الانحنـاءة:
الانحناءة جاء بها الرسام بعيدا عن أي شكل هندسي، و هي فعل حركي أخرج اللوحة من ثبوتيتها، و دعم معاني جميلة فيها ، و أثراها بالمفاهيم الجميلة للأمومة، ففيها الاحتضان و الاحتواء و الضم، ليتوجه بمنح فعل التقبيل شروطه التقنية، كتقريب الشفاه من مهبط التقبيل الذي هو خد الطفل المستقبل للقبلة. كما تبرز في الانحناءة دلالة أخرى أسلفت الاشارة اليها، تلك هي دلالة المرحلة العمرية التي حددت شخصية الأم في الزمن. فالظهر في انحناءته الخفيفة يكاد يكون مستقيما ، لا يشوبه تحديب العمر.
القبلــــــة:
القبلة التي مازالت لم تطبع في مكانها، ترمز الى قبلة الحياة المقبلة،التي هي في طور التحقق .كما أن النظام الذي تحكيه اللوحة في مكونات صورة الأم وولدها، و الدقة و جمالية التناسق في التفاصيل، توحي بالملموس و المحسوس بالفطرة المثالية للأم.
اليــــــدان:
اليدان ، يخاطبك المرموز فيهما، فتفور الحركة متقدة الحرارة، دفقها كثيف ، يفيض عطاء.انهما اللمسـة المكثفـة للرسـام، بهما أعطى للمشهـد العام للوحة نقطة " الزوم "، نزلت فيها ريشة الفنان على يد الأم الشابة. اليد المحتضنة من الأسفل، لا يكاد يبدو منها غير المعصم، وهي تدخل بك في سراديب الحدب الخفي، عند احتراق الفراشات، حيث الأصابع الخفية المتغلغلة في رداء الطفل، تنسج وشائج من نوع خاص، ستكون أردية للسنين المقبلة.بينما اليد المحتضنة من الجهة العليا ، تجسد حركة احتضان شديدة الحضور، الأصابع ذات بريق الضياء ، تمند في حركة قوية
ممتلئة بالإصرار على التمسك بالمحمول الثمين. الضوء المنعكس على الأصابع يجلي انفعالا مشحونا بالشغف.
و يستمر عنفوان اللوحة في استفزازي، يلح علي سبر أغواره، تغمر اللوحة أمامي احتفالية الحياة الهادئة كسمفونية عذبة الايقاع. تملأ النظر براعم حياة في أكمامها، يلفها ربيع أزرق حالم، يعد بالطمأنينة و السلام .
الـربيـع الأزرق
زاوية نظر أمام لوحة " حنان" للفنان بوعبيد بوزيد
الرسام الفنان بوعبيد بوزيد ، هو فنان أغنى الساحة الثقافية بمدينة تطوان، مسقط رأسه، سواء بكتابته عن رجالاتها، أو بالاشراف على البحوث الميدانية لطلبته في شعب المعمار القديم لمدينة تطوان،و فن الخزف ببواديها و غيره مما يدخل في التاريخ الحضاري لهذه المدينة التي نشاركه عشقه لها.كما أغنى ساحة الفن التشكيلي محليا على مستوى مدينته و مغربيا على ساحة الوطن، ودوليا ، بمشاركته في معارض متعددة خارج الوطن، وهو بهذا ليس بحاجة أن أدرج بيبليوغرافيته هنا. فهي بغناها الابداعي و ثراء تجربة صاحبها، موجودة في متناول الجميع، على صفحات الأنترنيت.
استسمح الأستاذ بوعبيد، أنني اطلعت على اللوحة في غيابه، فاللوحة كالكتاب، كونها قابلة للقراءة، وان اختلفت عنه في باقي التقنيات، ثم اني تجرأت أكثر، و أخذت بقانون نظرية التلقي، التي تتيح لي بعضا من الحق في المساهمة في محاولة انتاج دلالة اللوحة،ومنها استلهمت العنوان.
اللوحة من فن " البورتريه" ، و هو فن يهتم برسم الشخصيات بمحمولاتها، و لعل الشخصية المحورية في اللوحة هي الأم بشحنتها الدلالية، و حمولتها في الفكر و الوجدان الانساني.و سنعود الى هذا في سياق رحلتنا في اللوحة.
اللوحة بأناقتها و انسيابية محتوياتها، تسبح في هدوء مستفز يثير الدهشة.تلك الدهشة التي تبعث فيك شهوة الغوص، لتكتشف أن ما يبدو لك هادئا، بينما هو عالم يضج بالحياة.ألوانها تثير الأفكار، تخلخل المعاني الجميلة الكامنة فينا.تكلم الشاعر نزار قباني عن الرسم بالكلمات، و يقول أحد الدارسين :"ليس المهم ما يقوله الشاعر، بل المهم الكيفية التي يقوله بها" بهذا التلاقي بين الشعر و الرسم ، ندرك ما ينتظر من الفنان شاعرا كان أم رساما، وحدها الأدوات هي التي تختلف.
فضـاء اللوحة يغلب عليه اللون الأزرق، و حضور زرقته جاءت مختلفة عن الزرقة في ثبوتيتها، لانها زرقة منفلتة من رتابة اللون الواحد.زرقة تعج بالامتلاء. مساحتها تكفي أن تكون مهدا لحياة بأكملها. بل انها تجسد نافورة نبع الميلاد، تليه الزرقة الفاتحة لرداء الأم الذي يجسد الحضن و الاحتواء و السكينة. بينما ،حضور لون البيج المشاكس وليد اللون الأبيض ، الخارج من بوتقة سكونيته، وقد داخلته شحنة الدينامية، ، فأتى مفعما بأكمام الحياة الخفية،ناضحا بفعل النشأة.
هكذا تطالعك الألوان ببساطتها المطرزة بالتركيب، و الوجهان المجسدان لكل من الأم و الطفل، بناء شكليا مرئيا متميزا، يتسلل الى مسامك، يأسر فهمك، يدغدغ حواسك، يستفز قدراتك لفهم " الجميل" كما ينبغي له أن يتبدى رسما.
رسما يقدم لك خصائصه الفنية كبناء جمالي في أبهى تجلياته. اللوحة بقيمها الجمالية تمنحك سلاما لا تتقن حياكته الا الأمهات.تمد أمامك بساطا ملائكيا يرحل بك نحو عوالم مسكونة بالدعة. ثم ان اللوحة بالاضافة الى بنائها الجمالي من ألوان و شخوص و سمات، تقدم فيمة ذات مرجعية عاطفية و اجتماعية و قدسية، و هذا الدمج بين الأخلاقي و الفني في بوتقة " الجميل" داخل لوحة توحي ـ لأول وهلة ـ بالبساطة، تجعلنا نقف اجلالا لصاحب هذه التركيبة الساحرة.
و حتى لا نغرق في الانطباعية، سنعمد الى البحث عن الميكانيزمات الخفية للعمل، و قد وجدنا أن اللوحة تحكمها ثلاث تقنيات هي:
-1 التناقــض
-2 الألـــــوان
-3 الحركـــة
1- التناقـض:
التناقض التقني بين الشكل و المضمون، هو ذلك " التضاد بين حجم اللوحة المادي الملموس،الصغير نسبيا، و بين محمولها الفكري، سواء كأمومة، أو كعطاء، أو كحياة بحروف غليظة بين مزدوجتين، مقبلة في تؤدة و هدوء.وهي إحدى الميكانيزمات الضمنية التي أعطت للوحة كل تلك الحمولة الدلالية،و جعلت إشاراتها و إيحاءاتها تأتي مركزة و جلية.عبرها استطاع الرسام أن يمرر الى المتلقي كمشاهد، كما من القيم الجمالية.فاللوحة بحجمها الصغير ، و ألوانها و شخوصها المحدودين، توحي بزخم من الاشارات و الدلالات، مما أعطى للوحة ثقلا ابداعيا متميزا، أفسـح المجـال لقيم انسانية أجمل و أرقى ، تتحف المشاهـدة، و تسافر به نحو أبعـاد جماليـة تنبع من اللوحـة لتنطلق به نحو دلالات أخرى تغذي وعيه و تمتعه.
صاغ الفنان بوعبيد عناصر لوحته انطلاقا من وجهين: وجه أم شابة ذي لون قمحي و ملامح مغربية ،ولباس تقليدي مغربي بسيط ، يوحي ببداوة راقية . أي شخصية محددة في الزمان و المكان و الدلالة . العينان مسدلتا الأهداب ، ترشح بحركة حنو، ذات وظيفة دلالية، تضفي على المشهد المرئي احدى سمات الأمومة.أما وجه الطفل الذي يحمل نفس السحنة المغربية ، و نفس نمط اللباس النابع من بيئتنا البدوية، فتلك صفحة أخرى للوحة تشرع لك أبواب قراءة خطت سطورها بالريشة و اللون.
أعطت تقنية " التناقض" لموضوع اللوحة كثافة، حولتها الى قصيدة شعر، أو سوناتة موسيقية، بحيث بقدر ما جاءت الشخوص و الألوان محدودة العدد، بقدر ما زخرت بومضات جمالية عالية النبض، ذات شحنات متعددة من الاحالات.
-2 الألــــــــــــوان:
الألوان المحدودة العدد، كما أسلفنا ، تندمج في انسجام منمنم، تخترقها الأضواء و الظلال، و التفاصيل الدقيقة.رمزية الأزرق المخترق بخضرة خفية،تشي بحياة جنينية في رحم المستقبل، و هو يغطي فضاء اللوحة، و زرقته الكثيفة تكفي أن تكون مشروع حياة تتبلور. لباس الأم، بين ضفتي الأزرق و الأبيض يجسد رداء للطمأنينة.الأبيض في اللوحة يخرج من بوتقة السكون، ليرتمي في أحضان البيج المفعم بدفء حياة تتغلغل.يليه اللون القمحـي ممزوج باللون الوردي المتخفي في طياته، الحامل لبذور الحياة الجنينية. وقد أعطاه الرسام للبشرة كلون يشع بجذوة الحياة المشتعلة، مع تسليط ضوئي على وجه الطفل، و لمعان شديد في المقلتين ، ينطق بسر السعادة الذي مده بها حضن الأمومة. و يعكس بوادر عنفوان حياة آتية. السمة الأساسية لألوان اللوحـة تكمن في عدم وجود فروع لها، و هي تتمرد على السكونية و المباشرة، كما تجعلك تشعر أنها ألوان في طور التكوين، و تلتقي وظيفتها الفنية ، في محدوديتها، مع تقنية " التناقض" في تكثيف الدلالة، فهي تخرجك من ربقة المألوف و ضجته، لتسحبك نحو هدوء جميل مسكون بحياة وليدة تتغذى بالحب.
-3 الحـركـــــــــــــــة:
الحركة في اللـوحة تقنية ذات وظيفة عالية. فهي التي بعثت فيها أنفاس الحياة. و هي ذات رموز ستة :
- الخصلـة
- الأهداب المسدلة
- القـرط
- الانحنـاءة
- القبلـــة
- اليـــدان
هذه الرموز الستة هي مفاتيح اللوحة نحو تقنية الحركة. و سنعمد الى فكها حسب محمولها الدلالي الذي يشير اليه موقعها في اللوحة .
ا
الخصلة: الخصلة المنفلتة من شعر رأس الأم، فوق جبين غض، خال من التجاعيد أو آثار التعابير،آتية من مفرق شعر أسود ناعم و متناغم مع لون البشرة، ممشط بعناية، أخرجها من مكمنها انفعال عاطفي اجتاح حنايا الأم و هي تتأمل وليدها فحرك فيها الرغبة في تقبيله.الخصلة جزء مكمل لحركة مشروع التقبيل.
الأهداب المسدلـة:
الأهداب المسدلة، حركة هادئة ، تنبئ باندماج شخصية الأم مع مشاعر فارت منها أثناء فيض روحاني انتابها و هي تحتضن وليدها ، فغمرتها الرغبة في أن تسكبها في مشروع قبلة تهديها له، مع مشروع رؤية مستقبلية ما زالت نزيلة الآحداق، غطتها الأم برموشها حتى لا تنفلت منها.
القــــــــرط:
القرط المتدلي من أذن الأم ،تداهمه نسمة حركة خفيفة تنفخ في بوتقته أنفاس الحياة، فتحوله الى ناقوس يمجد الفرحة.بالاضافة الى وظيفته المادية إكسسوار يبدي الجانب الأنوثي الجمالي في اللوحة و يغنيه، وهو يساهـم مـن جهته، في تكثيف حركة التقبيل.
الانحنـاءة:
الانحناءة جاء بها الرسام بعيدا عن أي شكل هندسي، و هي فعل حركي أخرج اللوحة من ثبوتيتها، و دعم معاني جميلة فيها ، و أثراها بالمفاهيم الجميلة للأمومة، ففيها الاحتضان و الاحتواء و الضم، ليتوجه بمنح فعل التقبيل شروطه التقنية، كتقريب الشفاه من مهبط التقبيل الذي هو خد الطفل المستقبل للقبلة. كما تبرز في الانحناءة دلالة أخرى أسلفت الاشارة اليها، تلك هي دلالة المرحلة العمرية التي حددت شخصية الأم في الزمن. فالظهر في انحناءته الخفيفة يكاد يكون مستقيما ، لا يشوبه تحديب العمر.
القبلــــــة:
القبلة التي مازالت لم تطبع في مكانها، ترمز الى قبلة الحياة المقبلة،التي هي في طور التحقق .كما أن النظام الذي تحكيه اللوحة في مكونات صورة الأم وولدها، و الدقة و جمالية التناسق في التفاصيل، توحي بالملموس و المحسوس بالفطرة المثالية للأم.
اليــــــدان:
اليدان ، يخاطبك المرموز فيهما، فتفور الحركة متقدة الحرارة، دفقها كثيف ، يفيض عطاء.انهما اللمسـة المكثفـة للرسـام، بهما أعطى للمشهـد العام للوحة نقطة " الزوم "، نزلت فيها ريشة الفنان على يد الأم الشابة. اليد المحتضنة من الأسفل، لا يكاد يبدو منها غير المعصم، وهي تدخل بك في سراديب الحدب الخفي، عند احتراق الفراشات، حيث الأصابع الخفية المتغلغلة في رداء الطفل، تنسج وشائج من نوع خاص، ستكون أردية للسنين المقبلة.بينما اليد المحتضنة من الجهة العليا ، تجسد حركة احتضان شديدة الحضور، الأصابع ذات بريق الضياء ، تمند في حركة قوية
ممتلئة بالإصرار على التمسك بالمحمول الثمين. الضوء المنعكس على الأصابع يجلي انفعالا مشحونا بالشغف.
و يستمر عنفوان اللوحة في استفزازي، يلح علي سبر أغواره، تغمر اللوحة أمامي احتفالية الحياة الهادئة كسمفونية عذبة الايقاع. تملأ النظر براعم حياة في أكمامها، يلفها ربيع أزرق حالم، يعد بالطمأنينة و السلام .