آخر الأخبار

زياد عبد الله سندباد (برّ) اللاذقيّة

في عمله الروائي الثاني الصادر عن «دار المدى»، يعود زميلنا الشاعر السوري إلى ثمانينيات المدينة الساحليّة. أبطاله مجانين وبحارة وأناس أرعبهم الاستبداد
إيلي عبدو

لا يتّبع زياد عبد الله في روايته الجديدة «ديناميت» (دار المدى) الأسلوب الحكائي ذاته الذي استخدمه في عمله السابق «برّ دبي» (2008). الجُمَل المتقطعة، والنفس السردي السريع المستلهم من مناخات مدينة تشتهر بصخبها الدائم، يصير في «ديناميت» سرداً بطيئاً متمهلاً، يشبه هدوء اللاذقية، وتعثر الأمنيات والأحلام فيها. يتسلّل زياد إلى الفضاءات الداخلية لمدينته الأثيرة. يتوغّل في أحيائها وأزقتها ومدارسها، مستعيداً من ذاكرته وقائع وأحداث وتفاصيل، ستغدو مادةً ضرورية للدفاع عن تاريخ مدينة طالما انتهك الاستبداد هويتها ونكّل بمعالمها.
يرصد عبد الله أثر القمع والقهر على حيوات الناس، ومصائرهم العبثية، متخذاً من حقبة الثمانينيات الدموية مسرحاً للأحداث. تستبطن السلطة بوجهها الشرس، النسيج الداخلي للرواية، من دون أن يبرز ذلك بشكل مباشر في أحاديث الشخصيات.

كلما تقدمنا في القراءة، سنحسّّ بألم اللغة، ووجع المفردات، وجحيمية المصائر. سلمى المرأة الجميلة، تزوجت غسان البراني البحار الملقّب بالطوربيد. تتشرد من مكان إلى آخر بعد سفر زوجها في البحر بقصد العمل. تتفاقم معاناتها بعد إنجاب طفلها عبودة من أحمد البطم الشاب البرجوازي المثقّف الذي انتهز فرصة سفر غسان ليتسلل إلى بيت زوجته، ويمارس معها الجنس. المرأة التي شغلت أهل الحي بجمالها وغرابة سلوكها، تتحوّل إلى مجنونة بعد استدعائها من قبل أحد الفروع الأمنية، والتحقيق معها بطريقة مهينة. ستسير ابنة الضابط السابق في شوارع اللاذقية، وتحدّث نفسها بصوت عالٍ، لتسأل أي شخص تصادفه «كم الساعة»، ليلقّبها الجميع «أم الساعات». وحين يعود زوجها غسان البراني من السفر، يتشاجر مع عناصر دورية المخابرات التي توقَّفت قرب منزله. البحار الشرس الذي تحدّى أمواج البحر وهزمها، سيُهان تحت نعال عناصر الأمن، وتنتهك كرامته أمام الجميع. ينتسب لاحقاً إلى تنظيم الإخوان المسلمين، في ردّ فعل على هذه الحادثة، ويصير من أخطر المطلوبين وأكثرهم ممارسة للعنف.
يرسم زياد عبد الله صورة بانورامية لواقع اللاذقية في تلك المرحلة، وبداية إخضاع أهلها، مستعيداً أمكنتها الأولى، وزقاقات أحيائها الأصلية، مكتفياً بالشوارع القديمة. بور سعيد، والصليبة، والعوينة والقلعة، والطابيات تصير مسرحاً لأحداث روايته. كأنه يسعى إلى استرداد مدينة تفنَّن الاستبداد في سلب جغرافيتها، إلى درجة ردم شاطئ البحر وتحويله إلى مرفأ تجاري.
يستعين صاحب «قبل الحبر بقليل»، بشخصية أحمد البطم، ابن العائلة العريقة، لاكتشاف أهالي مدينته، ودراسة أحوالهم. إذ يقرر العيش معهم والاحتكاك بيومياتهم، بعدما ملّ من قراءة الكتب الفكرية والفلسفية. نكتشف أنّ المدينة كانت تصدر عدداً كبيراً من الصحف، تهتم بالسياسة والثقافة والفنون الساخرة. وسنعرف أنّ مهد أبجدية أوغاريت، كانت تستقبل كوكب الشرق أم كلثوم في مسرح «شناتا» الكبير المطلّ على البحر. أمّا سكانها، فحوّلهم الاستبداد إلى أفراد سلبين خائفين، لا شغف عندهم بالحياة. كانوا ينظّمون إضرابات ضد الحكومة ــ أشهرها إضراب المرفأ احتجاجاً على الإبطاء في بنائه. يومها هتف الناس آنذاك: «بدنا المرفأ بدنا البور/ حاجة ظلم وحاجة جور».
تمرّ شخصيات كثيرة في سياق السرد، يسعى الكاتب من خلالها إلى إبراز نماذج من الاجتماع اللاذقاني، وتبيان الظروف القاسية التي مرت بها شخصيات تلك المرحلة. أحمد البطم الذي يفقد أمه ومدينته وطموحه، يصل به العبث واليأس إلى حدّ تعلّم كيفية صناعة المتفجرات. ينتقل للسكن داخل غرفة صغيرة في حي شعبي، فتنفجر به مواد الديناميت، ويسقط قتيلا. ينهي زياد عبد الله روايته على وقع سيارات الشبيحة تجوب شوارع المدينة، وتزرع في نفوس أهلها الخوف والرعب. قبل الختام، يتعقّب مصير الطفل عبودة، وريث مرحلة القمع الذي يكبر على تدريبات التربية العسكرية، وإيقاع هتاف «بالروح بالدم» الذي يمجد القائد.
قد لا تكون مصادفة أن تصدر «ديناميت» في هذا التوقيت تحديداً. في الأمكنة ذاتها التي عاشت فيها الشخصيات، تنتشر فيها حواجز الأمن والشبيحة، لتمنع أهلها من التظاهر والمطالبة بالحرية. في الرواية، يشيع الأمن أن أحمد البطم كان مسؤولاً كبيراً في تنظيم الإخوان المسلمين، وتمّ قتله بعد معركة ضارية. هذا ما يتكرّر الآن على شاشات الإعلام الرسمي، فيما شعب بأكمله يتحول إلى «ديناميت»
(الأخبار)