لعل الدولة الأبرز التي نسجت لنا خيوط المآزق هي روسيا بعد أن غزلت لنا أملاً في الماضي إبان اتحادها السوفييتي، وكأنها نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.
فأغلبية العرب الساحقة المؤيدة، أو المتعاطفة، مع الانتفاضة السورية، مسها الحنق والغيظ غير المكظوم تجاه مواقف موسكو من هذه الانتفاضة، وبدت كأنها المعادية لحرية الشعوب العربية، ومع قمعها، بينما واشنطن هي رسولة الخلاص من الفاشية والاستبداد.
قبل عقود خلتْ، كان المشهد هو العكس تماماً، فطالما توسمت الشعوب العربية، المقهورة مرتين، أملاً في مواقف السوفييت تجاه قضاياهم وتقرير مصائرهم، فقدم "البيت الأحمر" حينها نفسه على أنه رائد وقائد التحرر في العالم، في وجه ما نشأنا على تسميتها "الإمبريالية" وضد "الرأسمالية" بزعامة البيت الأبيض الذي بدا للعرب أنه مع قهرهم واستبدادهم واستعبادهم، فصار عَلَم السوفييت لدى بعض العرب صنو علم بلادهم، وربما حفظوا النشيد البلشفي أيضاً.
لعل المواطن العربي الأكثر وخزاً بهذا المأزق هو الفلسطيني باعتباره لم يزل ثائراً في وجه الاحتلال الإسرائيلي وقابعاً بين براثنه. فهو المقهور والمبهور معاً. مقهور من وا
شنطن بسبب دعمها المهول لتل أبيب آكلة حقوقه، ومبهور بموقف موسكو من قضيته، وآخرها دعمها توجه الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطين، وقبلها بسنوات استقبال موسكو وفدا من "حماس" في وقت صنفتها واشنطن بالإرهابية، ومواقف أخرى. لكنه في الوقت نفسه جرب، وما زال، مُرّ ومرارة الاستبداد، ليجد الفلسطيني، بفطرته الثورية، نفسه مناصراً لحرية وإرادة الشعوب حتى لو ضد حكامها، فكم سيكون اتساع المأزق أمامه حين يناصر "منتفضي" سوريا وكله حنق من موقف روسيا التي تناصر منتفضي فلسطين، فروسيا في مأزق أيضاً.
لم تتوقف المآزق أمام العربي عند هذا الحد، وإن خفّتْ حدتها فلعلنا نسميها "حيرات". فقبل تفجر انتفاضة ياسمين الشام، علا منسوب التأييد لحزب الله بشكل لافت خصوصاً إبان مواجهته العسكرية مع إسرائيل، وبدا حسن نصر الله حينها وليّ التحرريين، فتهشمت تلك الصورة بعد أن بارك ثورة مصر وتونس وليبيا، بينما طالب "ثوار" سوريا بالكف عن ثورتهم والالتفاف حول نظامهم "الممانع والمقاوم". حيرة أخرى تضاف إلى مخزن حيرات العربي السعيد أحيانا من موقف تشافيز، والملسوع منه أحيانا أخرى.
ما أكثر مآزقنا، تارة نتخوف من الهيمنة العثمانية المتجددة خوفنا من الفارسية، وتارة أخرى نهلل لأردوغان تهليلنا لطهران في يوم القدس العالمي، لتتوالى المآزق علينا من كل فج، فوجدنا أنفسنا متحولين حائرين وفقا لما تمليه الظروف علينا، وما زلنا عاجزين عن خلق الظروف.
في عام 1960، تحول حذاء الرئيس السوفييتي، آنذاك، نيكيتا خروتشوف إلى رمز بالنسبة إلينا بعد أن صفع به الطاولة في مجلس الأمن، واليوم يُحرق العلم الروسي في سوريا بسبب ما جنته موسكو من موقفها المهادن والمتهاون مع نظام الأسد. لذلك ستتعاقب علينا المآزق ما دام ليس لنا حذاؤنا مِنْ صُنْعنا، لا لنضرب به طاولة ديبلوماسية، ولكن على الأقل لننتعله بدلا من "الماركات" العالمية. هذا هو حال الخائر أمام سياسة الجائر. حقاُ السياسة لا تعرف الأخلاق. Politics knows no ethics.
mrnews72@hotmail.com