ليس الكلام هنا "اندساساً" لغوياً، ولا "تشبيحاً" كلامياً. إنه بعثة مراقبة تابعة للغة العربية وليست للجامعة العربية، لتوثيق تجاوزات "البلاغة اللغوية"، وعلى رأسها نعت ما هو عكس البلاغة بالبلاغة. لذلك لا يأتي الكلام هنا من باب التصنيف الاعتباطي القائل بأنه من ينتقد كلام الرئيس فإنه متآمر، أو مندس بالمحكية الشامية.
الأنزيم المُحَفّز الطاغي في أجسام الطغاة هو الذي يمنحهم الظن أنهم إذا صاروا حُكّاماً انقلبوا إلى حكماء، فكلامهم فلسفة تفوق فلاسفة الإغريق وصدر الإسلام، وخطاباتهم مقدسة كما لو أنها المزمور. بنظرة موضوعية على خطابات الرئيس السوري بشار الأسد ما قبل الثورة وبعدها يدرك، من يريد أن يدرك، الفرق بين البليغ و"المستبلغ". فأولى سمات البلاغة الإيجاز في الكلام لا أن يوشك أن يربو على الساعتين، ولا حول للمخاطَبين سوى التصفيق أو التهليل بعبارات المدح التي تفوق سيف الدولة الحمداني.
في أحد خطاباته، جاء الأسد بقول نسبه إلى القرآن وهو في حل منه، فقال "هؤلاء الذين جاءت فيهم الآية (في غيهم يعمهون)"، والحقيقة أنه لا يوجد في القرآن هذا القول، إنما هو "في طغيانهم يعمهون" وورد في الآية 15 من سورة البقرة، والآية 186 من سورة الأعراف، والأية 110 من سورة الأنعام. ثم، إضافة إلى تقويل الله ما لم يقل، قدم الرئيس البليغ تفسيراً غير المعني الحقيقي للآية بلفظها الصحيح.
ثم في خطابه في شهر يناير 2012 ، يسهب الأسد البليغ في تعريف العروبة التي تكررت عشرات المرات، علماً أن البلاغة تنهى عن فحشاء التكرار. كأنه فسر العروبة بالعروبة على خطى من أراد أن يصف حالة قوم والماء من حولهم فقال: "كأننا والماء من حولنا، قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ. ثم أطلق العنان لبديع لسانه ليمجد ممارسة "نظامه" للعروبة فساق أمثلةً عن التعريب في المدارس والجامعات.
لعل البلاغة بريئة من التشدد في التعريب بينما هناك تمادٍ في التعذيب، ولعل العروبة لن ترضَ ضبط الفتح والضم على وقع الحتف والدم. إن البلاغة، إن نَطَقت لا اسْتُنْطِقت، ستفضل رايات الحرية على روايات التعريب.
في موطن آخر من خطابه المُقاطَع بالتصفيق عشرات المرات، مدح الأسد ما جاد به فوه فقال: "هذا كلام جميل ما قلته، مديح شخصي"، ثم ضحك، ثم صفقوا، فضحك، فأكمل، على غرار خطابات أخرى يكمل، ثم يصفقون، فيضحك، ثم ينهض أحد "نُوّام" مجلس الشعب ليقول له: " الوطن العربي قليلٌ عليك، فيجب أن تقود العالم". هكذا خاطب البالغُ البليغَ.
وفي موضع آخر، يشن الرئيس الأسد هجوماً على "الجامعة العربية" وينعتها بالمستعربة التي تتلقى أوامر من الغير. وبعد فيض من الهجوم عليها يقول الرئيس إنه ليس بصدد الهجوم على الجامعة لأن سوريا جزء منها. ذكرني ذلك بجارة لنا منذ زمن، حيث لم يكن يسلم الناس من سوط لسانها ثم تقول اللهم لا نميمة. ثم يتساءل في معرض الهجوم على "الجامعة العربية" إنْ كانت قد أعادت شجرة زيتون فلسطينية إلى أهلها بعد ان اقتلعها الاحتلال الإسرائيلي، فهل "فلسفة الخطاب" أعيت الذاكرة، فنسي أن جيشه "المقاوم" لم يُعِد أيضاً تلك الشجرة التي حكى عنها إلى صاحبها الفلسطيني!.
يبدو أن الحاكم يرى في نفسه حكيماً حين يتولى أعناق وأرزاق أشخاص يساوون في شعاراتهم وأشعارهم بين الله وعبده، فيرددون في بلاط حضرته: "الله، سوريا ، بشار وبسّْ"، ومن هذه النواة يبدأ تشكل الفرعون.
mrnews72@hotmail.com