خطاب العشق بين الذات المؤنثة و الذات المؤلَهة
قراءة في "الحب و الفناء" لعلي حرب
يتمحّض الفناء اسما للحضور في عقلية شرقية يحاول الباحث علي حرب تفكيكها لا من جهة كُنهها لأن الكلام في الكُنهِ هو في كنه الكلام لا في كنه الشيء فيقابل الباحث المفاهيم في جدل يهدف لبلوغ جوهر هذه الثيمة العربية التي تتلبس بكل مفاصل الفعل و الفكر و الشعور متخذا من العشق و المرأة و الحب العذري مطايا لفهم السياسي و الثقافي الذي يصنعه الرجل بدءا.
و إذا كان الكلام في المرأة لا يخلو من عوائق ثقافية يتطرق لها الكاتب تتعلق بالمنظور الذكوري الذي يتأثر به الرجل و يعيد إنتاجه إضافة إلى خصائص هذه المجتمعات كبنى أبوية تشكلها المؤسسة الدينية و المنظومات الاجتماعية فإن تجاوز هذه العوائق لا يكون إلا عبر خروج المرأة من سلطة صانع الخطاب إلى سلطتها هي على وجودها و إخضاع الرجل لخطابها عن ذاتها بما هو خطاب وجود و تحرر لا كإعادة إنتاج للخطاب الذكوري في نوع من الخضوع اللاشعوري لتقاليد الكتابة و توجهاتها المألوفة.
ينبني العشق الصوفي كخطاب على الأضداد و استوائها و يقدم علي حرب بيتا لابن الفارض يطرح هذه الجدلية القابلة للسحب على كل المفاهيم المادية (رجل و امرأة) و الروحية (انسان و اله) و الفكرية (الواقع و الحقيقة) فيقول ابن الفارض "أسامٍ بها كنتُ المُسمّى حقيقة/ و كنتَ ليَ البادي بنفسٍ تخفّتِِ" فالعلاقة العشقية علاقة ظهور و ضمور و مادة تراود فكرا و هي عين ترى العالم "أكَرًا مقسومة" (ابن حزم) تتنادى و تتعادى حتى تصل إلى أخص خصائص الكينونة فما أغربنا عن ذواتنا إلا إذا رأيناها في الآخر و بواسطته و بمعيته.
و يردّ علي حرب الخطاب الديني إلى مرجعيته الإنسانية و الدنيوية فالرجل كمؤسس للاجتماع هو الذي يكرس علاقة القوامة التي تظل دائما في صالحه مهما تفاوت مستوى المرأة التي ينكحها انخفاضا و ارتفاعا و الرجل كذلك هو صانع الخطاب الديني "و قد أعطى القرآن الولاية للرجل على المرأة و لذلك فهو بمعنى ما خطاب الرجل، كما هو خطاب عربي باعتبار لغته و بيانه"ص54
و يفكك علي حرب من داخل الخطاب الديني ذاته علاقة الإنساني بالإلهي قائلا:"أعتقد أن الإنسان مشبَّهٌ لامحالة فيما يسمّيه و يتصوّره و أقصد بذلك انه يخلع أسماءه و أوصافه على الأشياء و هو يشبّه بعض تشبيه في تصوّره لحقيقة الذات الإلهية و تسميته لها بأسائها إذ الحق الغالب لا يظهر له أو فيه إلا بمقدار قابليته أي هو لا يتقبله أو يتلقاه إلا بحسب الشرط الإنساني و لهذا فاستعارة الأسماء الحسنى لخلعها على الإنسان إنما هي بمعنى من المعاني حديث الإنسان عن نفسه أو هي بضاعته رُدّت إليه"ص45
فتفكيك الخطاب اللغوي يكاد يقطعنا عن عالم روحي ممكن الوجود إن وجوده إلا لغوي بحت و هذه الثنائية تتكرس من خلال اللغة لا من خلال الحقيقة المحضة بل إن عدم نقد الخطاب الذكوري لا يضع المرأة في مأزق وجودي فحسب بل الرجل كذلك لأن خطاب التأثيم في المؤسسة الدينية و الاجتماعية يشمل الطرفين و إن بدا أكثر تركيزا على المرأة و خطاب التأثيم ذاته هو الذي يمنع الذكورة الناشئة من أن تتفتح زهرتها لفائدة ذكورة مُكرّسَة لا تتداول الثروة و الحكم إلا بعد الموت و هكذا يتجلى معنى من معاني الفناء بما الفداء و تبريره من خلال استيتيقية الموت و إعلائه فكأن مفهوم القربان يتخذ معنى تدريجيا حسب الأفضلية فالرجل فداء الطوطم و المرأة فداء الرجل حسب هرمية غير قابلة للدحض أو القلب.
و يعرض علي حرب لقصة رابعة العدوية بما هي تجربة أنثوية للعشق الإلهي كلقاء عنيف للواقع بالرمز و للمادي الشهواني بالروحاني و تبدو المرأة في هذه الصورة كسيزيف الذي يحمل حجره مستمتعا بسقوطه لأن الألم يغدو في هذا المقام جوهر وجود فالمتعة هنا تغدو السبيل الوحيد لتقبل التشظي مع الواقع فإما جلد الذات و إما الجنون و تتقاطع تجربة رابعة العدوية مع كل التجارب الصوفية في إنكار الواقع الذي يعود في شكل ملفوظ كلما أمعنا في إخفائه.
و إن كان ألم الحب الصوفي في أحاديته و عدم قابليته للتبادل بما أن المحبوب هو الذات المؤلهة المنزهة عن الشوق و العشق و النطق فإن تجربة الحب تصير ذهولا عن الواقع بكل المقاييس فتكون اللغة هي الحبل السري الذي يربط الذات العاشقة بواقعها فإذا انقطع أشرعت لنفسها الجنون. و إن بدا العاشق الصوفي شخصية مخصوصة فهو يظل جزءا من بيئة انتحارية، استشهادية لا تفضل ما هو عقلاني، أناني بل هو جماعي قطيعي، حِسّي و بتمييز تجربة الحب و تجربة القول نجد أن الجنس قد ظل ضمن دائرة التحريم كثيمة مستقرة لا يرقى لها الذوق الفني العربي و لا يستوعبها إلا ضمن ثيمات أخرى تكون هي على هامشها بل يلاحظ علي حرب أن الخطاب العربي في الجنس و الحب كان أكثر انفتاحا في العصر العباسي و الأندلسي أكثر منه في الأدب المعاصر "إن من يقرأ خطاب المحبة مكتوبا باللغة الصوفية يقرأ في الحقيقة خطابا ما ورائيا يطل من خلاله على مسألة الكائن و يقف على تأوّل للوجود و تفسير لمعنى النور و الإشراق(ص81) فالتنوير يتجلى حقا في تحرر العقل مما يعيقه من أشكال دغمائية و أنماط سلوكية و يتجلى في سعي الفكر إلى السؤال عن الممنوع و جلاء المخفي"ص81
لكن علي حرب يطرح السؤال ثانية من داخل الخطاب الصوفي نفسه: هل الموقف الصوفي موقف تنويري خادع؟ يقوم الموقف الصوفي حسب علي حرب على أن المعرفة انكشاف و مشاهدة و تقتضي طبيعة المشهود مناقضة المنطق لأنه غير قابل للقيس و الحِسبة و هذا هو المأزق الذي يسقط فيه الطرح الصوفي إذ أن المعرفة الصوفية مرغمة على متاخمة المرئي و اللامرئي، المعقول و اللامعقول، الحدس و المنطق في خطاب مواراة يشذ عن الإفصاح لفائدة الإلماح و عن التفسير لفائدة التأويل كتأويل الحب بمناسبة الأرواح لبعضها في أزمنة سرمدية و أمكنة أولى إضافة إلى علاقة الأصل و الصورة فيرى ابن عربي أن المرأة تكونت على صورة الرجل و تكون الرجل على صورة الله فصار العشق حنينَ الصورة للأصل و الأصل للصورة و قد تتخذ المناسبة بين الله و الإنسان حدّا يفوق كون الإنسان خليقة و صورة إلى حالة من حالات التماهي التي يستشعرها الصوفي بسبب غلبة العشق على العاشق و ذهوله عن غير المعشوق و بما أن الإنسان هو صورة العالم الأكبر فهو إما مشابِهٌ أو متشبَّهٌ به في سُلم الذوات فهو مشابه لما هو أرقى منه و متشبه به من قبل من هو أدنى منه في المرتبة الوجودية مما يجعل الخطاب الصوفي قائما على معنى المحبة المتبادلة بين كل الذوات لكن هذه المحبة تخضع للتناسب الناجم عن اختلافها و تظل المقاربة الصوفية مقاربة ذاتية رغم حقلها الاشتقاقي الواسع فالجمال كمعنى حسي و الكمال كمعنى عقلي و الجلال كمعنى روحي صفات إن توفرت لا بد أن يتوفر الإشراق للصوفي حتى يعيش التجربة بما هي هي فيقول ابن عربي "فاُجتمعنا لِمَعانٍ و اُفترقنا لِمَعانٍ" و كأنه يقول ""فاُجتماعُنا لَمَعانٌ و افتراقُنا لَمَعانٌ" أي لا بد من اُنبجاس النور في التجربة العشقية في حال اللقاء و في حال الفراق و في كل حال منهما نور معرفة مختلف عن الآخر.
و تقتضي حركة الجدل الكونية تعارُضَ النور و الظلمة و الحسي و العقلي فتتجلى العلاقة القهرية من العالم العلوي الذي يقتضي الهيبة و الإجلال و التطلع من العالم السفلي و العلاقة العشقية من العالم السفلي الذي يتحرك صعودا برغبته في الإكتمال نحو العالم العلوي.
إن الفناء لدى الصوفي هو سفر للإمتلاء و تميمة للبقاء، هو خصيصة الإنسان الذي يتمحض معرفة و عرفانا و يمتلئ بمعنى الكل فيتجاوز محدوديته و هو يقدم محبته مقابل المعرفة ضمن عقد ضمني بينه و بين المعشوق يتخلى فيه عن إنّيّته لفائدة تلك الذات ليتمحض روحا أزلية من البدايات قبل أن يسكنها دنس المادة.
و إذا كان الجسد مستبعَدا في المنطوق الصوفي بسبب خضوعه لوطأة الزمن و غياب الروح عنه بالموت و غياب العقل عنه بالجنون يجعل فيه عيبا يمنع علاقة العشق فإن اللذة تتخذ معنى بالإدراك و آخر بالمباشرة أما الإدراك فيكون حسب ابن سينا بالحس و الخيال و الظن و الوهم و العقل و أما النيل فبحسب النفس إن كانت نباتية أو حيوانية أو ناطقة و تخضع هذه اللذات للتراتب في سلم أعلاه لذة العقل و أسفله لذة البطن و يرفض علي حرب تقسيم ملكات الإنسان على أساس التفاضل كما قامت على ذلك الفلسفات (ابن سينا/ ديكارت/ كانط) و بعض القراءات الدينية و يدعو إلى إدراكها ضمن علاقة تكامل فالجسد لدى الإنسان لا يمكن أن يتحدد بدلالات حيوانية بل يتعداها إلى دلالات رمزية روحية فكرية فالذات لدية شبكة رموز و أدوار معقدة لا قوام لها من دون الجسد و بتفكيكه للنص الصوفي يقف علي حرب على ازدواجية المجتمع الذي يفضي بالذات إلى صراع مرير بين الواقع و النص فيقول "الجسد المنفي يتسلل عبر الحروف و الكلمات و الشهوة المقموعة تبتكر لغتها في حديث الحب الإلهي"ص140 و ينقل عن الناقد الإسباني خوان غويتسولو قوله "ان لغة بعض المتصوفة و الزهاد و الكهنة تشي بالإباحية و إن فيها ميولا عهرية و شحنات إيروسية و مزجا بين الورع و الإباحية أو بين الحكمة الشهوية و الصلاة التقوية"ص140
فالخطاب الصوفي ليس سوى إعادة إنتاج للجوع يقول علي حرب "فالإنسان يفنى عن الجسد الإيروسي (جسد المرأة أو الرجل) ليفتش عن بديل له في جسد النص و في متن الخطاب"ص142 و هكذا تكتسب الكتابة وظيفتها العلاجية بما هي تعويض و إعلاء و من خلال النص الصوفي الموغل في الفناء في شخص المعشوق مؤنثا كان أو مؤلها يبدو العاشق متمحضا كذات مضخمة لا تُستهلك بقدرما هي مستهلكة للكون و مستغرقة في ذاتها استغراقا ينفر من الوعي القطيعي الجماعي ليبني ذاتا محضا تكسر كل القوالب التي يصنعها المجتمع لتصير هي القيمة الجمع و تبلغ مرحلة التأله في حالة نفسية متطرفة يقودها وهم العظمة و تنسبها القراءات النقدية إلى الذوبان في الإله-المحبوب.
إن التصوف حالة مخصوصة نابعة عن حساسية معينة و لكنها ابنة ظروفها و احداثياتها الاجتماعية و هي حالة تقتضي منا العودة إلى نصوصها و عدم الارتكان للقراءات القديمة لهذه النصوص لأن الصوفي على علمه و حساسيته يظل شخصا يعاني فصاما خطيرا يجعله يقوم بإعلاء رغباته و مكنوناته التي لا تخلو من شق اجتماعي يتعلق بالبيئة و بإنكارالفردي لحساب الجماعي و الإلهي.