آخر الأخبار

الإندماج الوطني في مهب رياح الإسلام السياسي

ما أعنيه أن رد الفعل على الإحتلال كان بمثابة الحاضنة لوطنية سورية عابرة للتنوع الديني والطائفي وإلإثني للسسيولوجيا السورية ... تكفي يوميات السنوات الخمس الأولى من عمر الإحتلال الفرنسي لسورية -1920-1925- للتأكد من أن هذا الأخير قد استفز من ردود الأفعال عليه ما شق سياقا مناسباً لانبثاق هذه الوطنية " حيث عمت الثورات والتمردات المدن والأرياف والبوادي. وجذبت إلى المشاركة فيها مروحة من أتباع المذاهب والطوائف .وضعفت ديناميات التمايز الديني والطائفي المعيقة لإصطفافات بهذا الغنى والتنوع "من هذه الشروط التي ولدت على هامش الإحتلال , انطلقت ديناميكية للحداثة, وقودها مشتق من خارج الفضاء العقلي القروسطي(وتغذيتها الراجعة) مشتقة من ردود الأفعال على الإحتلال "..لقد انهارت بانهيار الإمبراطورية العثمانية , شبكات للتوظيف السياسي في الدين .وتمهدت الطريق لإعادة اصطفاف مجتمعي تحتل فيه الإن
قسامات العمودية "لاهوتية وإثنية " المرتبة الثانية .وجنح الخطاب الديني لكي يؤقلم نفسه مع الشروط الجديدة إلى الوسطية ,مما سمح بالتعايش. وأعطى فرصة للإجتماع السوري أن ينخرط حتى ثمانينات القرن العشرين في ركب الحداثة ..بعدها راحت تتراكم استعصاءات التحول الراسمالي" في وجه إستكمال بناء دولة العقد الإجتماعي" ..مدشنة عهداً من التوظيف العلني للدين في حقل الصراع على السلطة السياسية..وقد افتتح الأخوان المسلمون السوريون منذ منتصف السبعينات, الحقبة التي تتقلب في مقلاتها الآن مجتمعات العالم العربي -الإسلامي ..إلا أن ما يجب أخذه على محمل الجد في تحليلاتنا للظاهرة الدينية هو إمكانية تعشيقها مع مسننات الصراع الطبقي ,عندما تتراجع لهذا السبب أو ذاك الأيديولوجيات الوضعية عن القيام بوظائفها في دنيوة" من دنيا " الصراع الإجتماعي .. وفي هذا الإطار يحسب لأدلوجة "القومية -الإشتراكية "نجاحها في كسر التراتبات الطبقية الموروثة من المرحلة العثمانية بحد أدنى من الخضات الدينية ".. فتحت رايتها تم القضاء على ماتبقى من علاقات إنتاج إقطاعية في الريف. واصطف هذا الأخير -على الرغم من تنوعه الديني والم
ذهبي - في مواجهة كبار الملاك العقاريين" سنة في معظمهم ".. وعلى التضاد من ذلك أدت إجراءات استيلاء الدولة على التجارة الداخلية - منتصف السبعينات- إلى إعطاء الإخوان المسلمين الفرصة لمنح رايتهم الدينية حاملا إجتماعيا تكونت نواته من" تجار الجملة ونصفها" .. وتولى الطابع الطائفي للخطاب الإخواني , لحم باقي الفتات الطبقي المديني حول هذه النواة ..ليست الحالة السورية سوى عينة رمزية بكرت في موضعة نفسها في السياق الخطر الذي جنحت إليه مجتمعات في العالم العربي - الإسلامي: التتريث بدلا من التحديث لمواجهة مشاريع الهيمنة الغربية,ولإعادة ترتيب البيت الداخلي ..
لقد شكل التعليم المدرسي طيلة ثلثي القرن الماضي في سورية: العمود الفقري لمشروع تحديث الفضاء العقلي والقيمي .وجسرا ًللخروج من ثقافة إجترتها عبر القرون الخمسة الأخيرة : الكتاتيب والزوايا..
وعقب تأميم التعليم من قبل الدولة- في خطوة من جملة خطوات خطاها حزب البعث , توخت على المستوى الإستراتيجي وضع المجتمع السوري على سكة التدامج الوطني - أصبحت المدرسة الحكومية هدفاً رئيسياً للهجوم المعاكس الذي تشنه قوى التطرف الديني في محاولاتها لإعادة عقارب الساعة السورية إلى الوراء..و ساعد الفساد وتراجع التكوين العلماني للنخبة الحاكمة وأكلاف الصراع مع اسرائيل والتضخم الديمغرافي بنسب عالم ثالثية- قفز عدد السكان في سورية خلال فترة حكم البعث إلى خمسة أضعاف - في تقليص متفاقم لقدرات الدولة على النهوض بأعباء إستراتيجية تعليمية قائمة على مجانية التعليم وتوفيره للجميع. مما ساعد قوى الردة المدعومة ماليا وأيديولوجيا من الجوار النفطي على الزحف لإحتلال كل ما تتراجع عنه الدولة في التعليم والصحة والخدمات الإجتماعية, في سياق تزداد زاوية انحداره بفعل تدوير الفساد.وليس هذا مفصولا عن إكراهات أوسع نطاقاً, خضعت لها تجربة التحديث في سورية و المنطقة العربية أوضحها تأثيرا: النفط الوهابي من جهة والتحدي الإسرائيلي من جهة ثانية .. لقد آل سياق الإحتجاج على نقص المشاركة السياسية في مصر وس
ورية والعراق - البلدان التي قاد ت فيها المؤسسة العسكرية تجربة التحديث - إلى إعادة ترتيب للأولويات عند المعارضات العلمانية يتغلب فيها التكتيكي على الإستراتيجي .. وتتلاشى فيه خطوط التمايز العقلي بين من يحتج على نقص الحداثة وبين من يحتج عليها ..مما فتح الباب على تحالفات بين "أعدقاء ".
وكما هي الأوضاع في كل مكان استحوذ فيها الخطاب الديني على وظائف الخطاب السياسي ,فإن سيرورة الاندماج الوطني سيتغير سمتها ..ذلك أن استكمال تأثيث الدولة بالديمقراطية السياسية وبفصل السلطات ..إلخ- وكلها مستنبتات فضاء عقلي مفارق للفضاء العقلي الإسلامي ومن خارج تخوم تجربته التاريخية -لا ُيغذ السير إليها, باستقواء المعارضة العلمانية بمن يرى في صوت المرأة عورة, وفي الموسيقا دعوة للفجور ..لقد راكمت الحداثة في سورية من المنجزات ما يرتب على جميع العلمانيين فيها الدفاع عنها بالأسنان .. وفي هذا الإطار تكبر هذه المسؤولية كلما تراخت نخب السلطة أمام الضغط الأصولي المتنوع الرايات والمصادر . فأوسع الثغرات التي ينفذ منها دعاة التشدد الديني بأخيلتهم المريضة وحمى الكراهية التي ينشرونها حيثما حلّوا ,هي في قطاع التعليم بمناهجه التلقينية التي لاتصنع عقلا نقدياً ,وكوادره التي تأهلت تحت نفس السقف المنخفض معرفياً ..ولا نكتشف البارود عندما نقول أن المستقبل الذي ستصنعه الأجيال سيأتي من طينة الوعي الذي تمتصه الآن من ثدي أعجف بالفلسفة ..
ويشير التوسع المذهل في عدد المدارس والمعاهد الدينية في سورية إلى نوعية المستقبل الذي يجري الإعداد له تحت أنف النخبة الحاكمة ومعارضتها "العلمانية ".. ففي العام 2006 .وبعد قرار مد التعليم المجاني -الإجباري إلى نهاية المرحلة التأسيسية (6+3 سنوات ),أفلحت ضغوط القوى الدينية للسماح بتسرب الطلاب إلى التعليم الديني قبل خط النهاية بثلاث سنوات .. و لم تجد يومها ولا تجد الآن القوى العلمانية المعارضة ما تقوله في التعديلات المنوي إجراءها على قانون الأحوال الشخصية،فالمعركة لاتمتلك جاذبية سياسية في عين تختصر السياسة في "المرافسة على السلطة " ..
ويزحف كالليل على الحيزالخاص والعام, دعاة وداعيات زوادتهم المعرفية حنبلية منقحة وهابيا . يعظون في المساجد والبيوت والسرافيس . وينشرون نسخة من إسلام ضيق الأفق ومتقشف, سبق وأن اعترض قبل ألف عام من الآن سيرورة التمدن الإسلامي .. قال ابن الأثير في حوادث سنة 323 هـ ( ذكر فتنة الحنابلة ببغداد ): " وفيها عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون من دور القوّاد والعامّة وإن وجدوا نبيذًا أراقوه وإن وجدوا مغنيّة ضربوها وكسروا آلة الغناء واعترضوا في البيع والشراء ومشي الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه مَن هو فأخبرهم وإلاّ ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأرهجوا بغداد‏. " فهل سيعيد التاريخ نفسه كأسطوانة مشروخة.فلا نكاد نضع قدما على طريق بناء الدولة الحاضنة لجميع مواطنيها حتى تخرج من بيننا قوى ترفع راية الآخرة ولعابها يسيل على الدنيا .ولا ترى في هذه الأخيرة إلا مغانم ينبغي اقتناصها بالغلبة, و يكفي تخميسها لتصبح حلالاً..
تنام الحداثة في العسل بينما تجري مياه الردة من تحتها ! تختصر هذه الصورة المشهد العربي- الإسلامي ..فمن خليج البنغال إلى طنجة تترنح مشاريع بناء الدولة الحديثة تحت ضربات الإسلام السياسي الذي أفلح في دمجها- داخل المخيلة الشعبية المتلاعب بها دينيا- بمشاريع الهيمنة الغربية ..ومن أمارة الحشيشة التي أقامتها طالبان فوق جماجم الشيوعيين الأفغان , مروراً بطلاب المحاكم الإسلامية اللذين خّمسوا البحر في خليج عدن , إلى تخميس أمراء المؤمنين فتيات القرى الجزائرية النائية , ُيرشُّ سكر الجهاد في سبيل الله فوق الغرائز . و يرفع المتأسلمون راية الدفاع عن الأرض وعينهم على تخميسها ومن عليها بعد النصر..