<<ايها السادة: باخ الكبير بيننا>>... منذ سنوات وأنا افكر بهذه العبارة التي اطلقها الملك فريدريك الكبير عندما دخل يوهان سيباستيان باخ وكان يتدرب مع الاوركسترا في احدى البروفات... افكر الآن هل من المشروع القول: <<هل حقا لا يزال باخ الكبير بيننا؟>>.
لا ادري كيف قفزت هذه العبارة فجأة <<الى رأسي وأنا على خشبة المسرح، وعلى بعد خطوات من <<ستنا>> فيروز، ومع آخر كلمات اغنية <<نسم علينا الهوا>> وهدير التصفيق والصيحات التي مزقت فضاء قصر بيت الدين في الحفلة الاخيرة، تمنيت ان يسمعني الجميع وأنا اردد ما يقوله الجميع في داخلي بصمت: <<ايها السادة: ما زال عاصي الكبير بيننا>> وبتعبير الناقد الراحل نزار مروة: <<ذهاب عاصي الرحباني لا ينهي زمنا، ولا يستهل آخر. حسب هذا الذهاب انه يقيم صلة حية بين زمنين.. زمن ما قبل أواخر الاربعينيات وزمن ما بعد الثمانينيات...>>
لا ادري اين سيكتب من تسعفه الجرأة ليكتب عن الست فيروز، على السطور ام خلفها؟، فوقها، تحتها، عن يمينها ام عن يسارها؟ جربت الاوراق البيضاء مرات ومرات لكنني لم اجد نوعا من الاقلام صديقها، وإن كان ما سأقول مجرد كلمات، فالفعل هناك والحقيقة، انني ابدو كمن ارسله ملك الفراش ليكتشف حقيقة المصباح، لكنه عاد محترق الجناح، فقيل: انه اصاب جزءا من الحقيقة.
هناك، وعلى مقربة امتار من ذاك العاشق من المهد من <<ايام فخر الدين>> غنت ستنا <<لا إنت حبيبي>>، هي وإن كانت المرة العشرين بعد العشرين ألفا التي اسمعها لكني، كانت تلك، المرة الاولى التي اسمعها. إنني هنا ارى كيف يتجمع الهواء في الصدر ليمر عبر الحنجرة عابرا ببركان من العاطفة تخترق القلوب بغزل فجّره التوزيع الجديد، ثم أخمده بؤس الفرنش هورن والاكورد الاخير مع الترومبون، ليقذف بنا زياد رحباني الى الاعمق من اعماقنا. هناك يرمينا وهناك يبقينا.
إنني لطالما رأيت مشهد حكيم صيني كونفوشيوسي النزعة (ربما اصبح شيوعيا مع الثورة) يقف امام زياد ليقول له، لن تخدعني، قل ما شئت عن موسيقاك بأنها صنعت لتظهر في ثياب البهجة والفرح او للرقص بلا ثياب، لن تخدعني، هناك دوما زياد آخر يسكنه حزن بلا مكياج، بؤس بلا ببيّونه (راجع لحن الوتريات في <<مقدمة ميس الريم>> صراخ الترومبيتات في <<ابو علي>> <<ضيعانو>> تقسيمة البيانو في <<شوها لايام>> <<...وقمح>> <<المعتر بكل الارض دايما هو ذاتو>> موال <<موعود بعيونك انا>> من <<عهدير البوسطة>> <<صباح ومسا>> الهارموني في <<كبيرة المزحة هاي>> الحوار الفوغي داخل <<مقدمة 83>> اطلاق الرصاص العفوي في <<عودك رنان>> دور الفيولونسيل في <<زعلي طوّل>> <<حتى عيونك يا حبيبي كان عندك غير عيون>> مقدمة اغنية <<اشتقتلك>>... الخ).
هذا الحزن الذي يصل الى حد الصراخ قد ظل نفسه. فزياد هو دائما زياد المثقل بهموم الناس، الممزوجة والمجتمعة بهمومه الشخصية، وسيظل ما دامت <<العيشة سودا ومش بيضا>>، وهو يعلم انها ستظل سوداء ما دامت بيضاء في الركن الشمالي من الكرة وتحديدا في البيت الابيض. هذا الهم الذي حمّله زياد اغانيه الخاصة مع الست فيروز، لم يكن جديدا عليها فهي التي حملت منذ بداياتها هموم الناس والوطن والأمة: <<راجعون 1956>> على مدى نصف قرن وقد ظلت وفية لطلب فخر الدين: <<وإذا يا عطر الليل صار ما صارت وانكسر السيف بتكمل الغنية>> هذه النبوءة التي لم تكن الوحيدة للرحابنة قد صدقت على مدى الايام الى يومنا هذا.
كان علينا ان نجتمع في استوديو الاذاعة الوطنية في اول بروفة لكامل اعضاء الفرقة، وعلى حد تعبير زياد: <<اجتماع لأربع جنسيات يتكلمون اربع لغات ستجمعهم لغة واحدة>>... الساعة السادسة تجمع حشد الموسيقيين وبدأت البروفة بعدما اخذ كل موقعه... وبعد مضي فترة من الزمن تأتي الست فيروز وتعبر باتجاه حجرة الكونترول في الاستوديو وتأخذ بمراقبة الاوركسترا عبر الزجاج... ومع دخولها تنتهي لحظة انتظار اللقاء... العازفون الذين اتوا من بلدان مختلفة ليعزفوا مع مغنية طالت بشهرتها اصقاع الارض لم يعرفوها قبلا ولم يعزفوا معها، ها هم معها وجها لوجه... واذا كان الجميع قد اطلعوا سابقا على النوطات التي ارسلها إليهم زياد لكن تظل للبروفة الاولى وللقاء الاول رهبتها... كان العدد الاكبر من العازفين هم من الارمن.
في قصر بيت الدين وبعد ايام انطلقت البروفات النهائية استعدادا للحفلة... ويأتي زياد متأخرا كعادته، او لا يأتي لكنه هناك في بيروت يقوم بما هو اهم. لقد ظل حتى الساعة السابعة مساءً يعد توزيعاته الجديدة، انه يريد حتى اللحظات الاخيرة ان ينجز ما يمكن انجازه، وقد أدرك أنه أمام عازفين محترفين، فمن يعلم؟ قد لا تتكرر له مثل هذه الفرصة على المدى المنظور... وكانت الست تسألنا سؤالا تتمنى ان تتغير أجابته: <<ما إجا زياد؟>>، فقد كان لا بد من وجوده في كثير من الاحيان لحسم بعض الاشكالات الموسيقية... حقيقة كان زياد كثيرا ما يتصل من بيروت ليستمع عبر موبيل ما لبروفة أغنية كان قد بعث بنوطاتها للتو، فقد كان على اطلاع دقيق على ما يجري، مع انه سيكون على اطلاع أدق عندما يستمع الى كاسيت البروفات... وكثيرا عندما كان يأتي الى البروفات يوجه ملاحظاته للعازفين وبالاسم <<في أغنية كذا، انت اخطأت بكذا، او ممكن تعزفها هيك...>>... ولا أدري لو كان واحدنا ممّن عاشوا قبل قرنين لاتهم زياد بالشعوذة فكيف له ان يعرف ما يجري لو لم يكن ساحرا!؟
في بروفة أغنية <<يا محلا ليالي الهوا>> يقول لي عازف بجواري: <<وين صرنا؟>> فأجيبه: <<ما بعرف>>. حقا كان علينا بموجب العقود ان نراقب النوطات الموسيقية لكي نعزف أدوارنا وليس أن نراقب السحر الذي يغنّي. كيف يمكن للست فيروز بعد مضي كل تلك السنين ان تحتفظ بسهر وألق الأداء الأول لهذه الأغنية؟... لا أدري، انه سؤال يشبه آخر: ما السر الذي يجعلها تقف مجددا مع جمهورها على خشبة المسرح. لم أجد دافعا أقوى من التصوّف. الغناء تحوّل الى ما يشبه العبادة والصلاة. هل يكف المؤمن عن إيمانه اذا تقدم السن به؟. <<بنذر صوتي، حياتي وموتي، لمجد لبنان>>.
أتلصص على بعض الأدوار المكتوبة للآلات، مرة بالنظر وأخرى بالسمع عندما لا يكون لي دور في بعض الأغاني. ومن وراء عازف الدرامز الهولندي، أراقب دوره في <<عندي ثقة فيك>> وبعد الانتهاء منها أسأله: ما رأيك؟ الى أي نوع او ستيل تنتمي موسيقى هذه الاغنية؟ بالاد BALLAD مثلا؟ فيجيب: ليس تماما.
وهذه ال: ليس تماما هي ميزة تسجّل للمؤلف الشرقي الذي لا تحكمه قوالب موسيقية معروفة <<غربية>>. زياد، عن وعي، يدرك أن نحت قوالب موسيقية شرقية يحتاج الى تجارب كثيرة والى الزمن الكافي لاختبارها. وهذه الصيغ الجاهزة التي لا يقبلها الشرق ببساطة تنساق بالإجمال على مختلف الميادين <<بما فيها السياسة>>.
عازف الدرامز الذي قال إنه لم يكن قد سمع بفيروز او استمع إليها، كان يخوض تجربته هذه بمنتهى السعادة ودهشة الاكتشاف. هناك في الكواليس كنا ندردش ويستمع بعضنا الى أحاديث وتعليقات البعض. مثلا: استمع الى عازف التينورساكس الارمني وهو يقول لعازف ترومبيت فرنسي عن الموسيقى الآلية التي عزفها تحديدا Crazy music وماستر عازفي الكمان الاولى ان هذه الموسيقى لا تعني العرب وحدهم، انها موسيقى شرقية مقدمة بشكل راق وليست محلية صرفا.
وما أن انتهت الحفلة الاولى والثانية، حتى ابتدأت الصحافة تدلو بدلوها وبدأ الصحافيون المتخصصون بجميع أنواع النقد، بترجمة أحاسيسهم وقذفنا بتحليلات هي في الحقيقة كل ما يعرفون.
لو لم يكن زياد موجودا والحارس الحصري لتراث أهله لكنا قد شاهدنا الويلات من قراصنة الموسيقى من أقرب المقرّبين الى الخليج ومن المحيط الى أقرب المقرّبين.
شكرا زياد، مكتوبةً لأنه لم يكن لديك الوقت الكافي لكي تسمعها، ولأنك تدفع ضريبة صمودك وحيدا، ولأنك كما قال عنك أحد المنتقدين: ... اذا كان الرحابنة معلمي مرحلة في الغناء فإننا في صحراء الموسيقى العربية اليوم لا نجد أملا سوى زياد الرحباني.