آخر الأخبار

عن الأمية الصحفية..

ففي الصحافة وجدت صحفيين لا يفرقون بين المقال والتقرير والخبر. يرسل أحدهم إيميلاً يقول فيه: "مرسل لكم مقالاً بعنوان كذا وكذا"، والموضوع في أصله خبراً لا يتجاوز عدد فقراته الأربع (200 كلمة). هذا المثال قد يقابله في الطب مثلاً عدم القدرة على التفريق بين الإبرة والمشرط في غرفة العمليات. وقد يقابله في الهندسة مثلاً عدم التفريق بين الزاوية الحادة والزاوية القائمة، أو إن شئت المنقلة والمثلث. مع اعتذاري للهندسة والطب وأهلهما، إن كنت مُخطأ.

حِياكة الجُمل.. وإحياء النص
هناك صحفيون آخرون من لو "لخبطت" له فقرات موضوع صحفي، وطلبت منه إعادة ترتيبها لاستغرق الأمر بضع ساعات قد يخلد خلالها إلى استراحة. ومنهم من لو أعطيته ٥٠ كلمة، وقلت له أعد ترتيبها في جمل مفيدة تؤدي إلى مقدمة خبر، لما ترك شعرة في رأسه إلا وفركها قبل أن ينجز المهمة. ولأن الجُمل لا بد أن تُحاك بعناية، فإن هذا الشيء قد يقابله في الطب مثلاً سوء تقدير استخدام غرز داخلية أم خارجية لتضميد جرح جريح. مع اعتذاري لكل الأطباء، إن كنت مُخطأ.

وفي مهنة الصحافة أيضاً هناك من لا يزال لا يعرف كيف يُعيد صياغة نص بمقدمة جاذبة للقارئ. يأتيه الموضوع مثلاً من مراسل ميداني على شكل معلومات غير مرتبة، فيحتار من أين يبدأ في إعادة تحريره. سبب الحيرة، فقدانه ميزة تقدير أهمية المعلومات، وافتقاره مهارة وزن الأحداث. يستسلم، فينشر الموضوع "بعبله"، "الحشيش مع الجرجير". وهذا الشيء قد يقابله في الطب مثلاً ارتباك طبيب استقبل جريحاً مغمى عليه، فلا يعرف أيُقدم له الإسعافات الأولية أم يضمد الجرح أولاً؟ مع اعتذاري للأطباء، إن كنت مُخطأ.

وفي كثير من الأحيان ما يأتي للصحفي العامل في الديسك المركزي موضوعاً ميتاً، خصوصاً من وكالات الأنباء، وتحديداً إن كان مترجماً إلى العربية؛ فيُطلب منه بث الروح فيه بإعادة صياغته من جديد، فيقف حصانه فجأة وسط أرض معركة لم يعهدها من قبل، وينكسر سيفه، وتراه لا يقوى على القتال. هذا الشيء قد يقابله في الطب مثلاً اختلاف طبيبين في التعامل مع تدهور حالة أحد المرضى، وبينما يناقشان الطريقة المثلى لمعالجة الموقف، يموت المريض. مع اعتذاري للأطباء، إن كنت مُخطأ.

النقطة التي حَيّرت العرب ومازالت..
أما عن كتابة العناوين فحدث ولا حرج. أحدهم مثلاً ينسى الإشارة في العنوان إلى مكان وقوع الحدث. وهذا يشبه نسيان طبيب لفافة قطن في بطن مريض بعد الانتهاء من عملية جراحية. آخر يحشو العنوان بكلام فاضٍ. مثلاً: "الإخوان المسلمون يصدرون بياناً يؤكدون فيه على ترشيح عضو منهم للانتخابات المصرية". ومن الممكن أن يقول: "إخوان مصر يرشحون الشاطر للانتخابات الرئاسية". هي كيميا..!! الأدهى أن البعض مازال لا يعرف لليوم أن الجملة تختتم بنقطة. هذه هي النقطة يا جماعة (o). آخرون معرفتهم بعلامات الترقيم، تماماً مثل معرفة جدتي بقيادة طائرة "إيرباص 380 A" الحديثة.

ناهيك عن الفشل الذريع في طريقة عرض وتقديم معظم الصحفيين للإصدارت المهمة، مثل الكتب والدراسات ذات القيمة الخبرية. فهذا صحفي يختزل كتاباً بشكل مَعيب، مكتفياً بنسخ مقدمته كما هي دون الدخول إلى أهم وأدق تفاصيله، ثم يروس الخبر باسمه. ثانٍ يكتب خبراً عن دراسة مهمة، وبنفس الطريقة، ينسخ مقدمتها، ويَغفل عن الإتيان بأهم ما فيها، وهي التوصيات، والتي عادة ما تكون في آخر صفحاتها. وثالث يترجم موضوعاً صحفياً من لغة غير العربية ويكتب اسمه في صدر الخبر وكأنه له. والصحيح هو أن يُذيل الخبر باسمه، مع الإشارة إلى أنه مترجمة من الصحيفة الفلانية أو المجلة العلانية.

أقول ذلك، لأن القارئ أصبح أكثر وعياً، ومن السهل أن يكتشف ضعف النص، وهو الذي يختار إلى أي الصحفيين يقرأ أو يستمع، وهنا تلعب كفاءة الصحفي دوراً هاماً لدى المتلقي. وبما أن هذا العصر لا يقبل أنصاف الكفاءات، فالمهنة بحاجة إلى صحفيين يجيدون اللغة العربية واللغة الصحفية حد الإتقان شبه الكامل. فالمتلقون اليوم يبحثون عن رسائل إخبارية أكثر متانة، لأن النص الرديء ببساطة يُبهت الحقيقة ويضعفها مهما كانت ساطعة، فما من شيء يَخذل الحقيقة إلا نص سيئ.

الخَيّاطة الشاطرة.. ورِجل الحمار
لا أريد أن يُفهم كلامي على أنه درس في الصحافة، فمازلت طالباً للمعرفة في حقل لم أكتشف بعد الكثير من مكنوناته. لكني أقول ذلك وفي خاطري مثل يقول: "الخَيّاطة الشاطرة بتغزل برجل حمار". كما يحضرني مثل أجنبي آخر: "الحرفي غير الماهر يَلوم على الدوام أدواته".

وفي مسألة الكتابة الصحفية الإخبارية تحديداً، أعتقد أنه في مرحلة من المراحل لا بد للصحفي "الشاطر" أن يُدرب نفسه على تأليف الخبر، من باب إتقان الصياغة وسرعتها، لا أن يكتبه أو يُعيد صياغته فقط. وهذه المرحلة عادة ما تكون في بدايات العمل الصحفي، بالأحرى في الأشهر الستة الأولى أو السنة الأولى من الممارسة على أبعد تقدير، هذا لو أخذنا في الاعتبار التطورات اليومية المتسارعة في هذا الحقل.

لكن للأسف، هناك صحفيون أمضوا في المهنة سنوات وسنوات، ومازالوا لا يتقنون تركيب الجمل، وترتيب الفقرات، وتكوين البناء الهيكلي للنص كله. ولا أعرف إن كنت مصيباً أم لا حين أقول: إن حال الممارسة الصحفية أصبح يتحول مع الوقت من سيئ إلى أسوأ، وإن المهنة أضحت أكثر رداءة من ذي قبل، وباتت مساحة الإبتكار فيها تتقلص يوماً بعد يوم، تحديداً لجهة النص وتجويده.

حتى على المستوى الأكاديمي، فإن الأمور ليست أحسن حالاً، ولا تبشر بخير في العديد من الجامعات. إذ مازالت مستويات التدريس فيها كما هي، رغم مرور الزمن وتسارع التطورات العلمية في حقل الصحافة. فقد راجعت مؤخراً كشف درجات أحد حديثي التخريج في الكلية التي درست فيها قبل عشر سنوات، وصابتني الدهشة حين وجدت أن أي من المساقات العلمية أو التدريبية لم يتغير، لا مضموناً ولا حتى اسماً، وكأن عقداً من الزمن غير كافٍ ليلفت أنظار القائمين على التدريس إلى ضرورة التغيير.

الصحافة وما حَوَتْ..
كنت أعتقد أن مأساة الصحافة هي في دخول الأطباء والمهندسين والكيميائيين والفيزيائيين والزاعيين وحتى الطباخين عليها. وهذا إلى حد كبير صحيح، ولمسته عن قرب، لكني لا أنكر على أي منهم أن يكتب، فالتعبير عن الرأي حق مكفول للجميع، إلا أن احتراف الكتابة الصحفية الإخبارية تحديداً لا يمكن أن يجيدها إلا ممارس تلقى تدريباً أو تعليماً، أو على الأقل أحب أن يتخذ من هذه المهنة حرفة، لا أن يرى فيها فقط برستيجاً اجتماعياً يجني منه شهرة. فكم من صحفي مشهور مشهود له بالرداءة.

وتأسيساً على ذلك، هل رأيتم صحفياً مثلاً يقوم محل طبيب في غرفة العمليات؟ أو صحفياً يُهَندس عمارة؟ أو صحفياً يعمل في مفاعل نووي؟ أو صحفياً يُرَكّب دواءً في معمل للصيدلة؟ أو صحفياً يقود طائرة نفاثة أو قطاراً سريعاً؟

أقول ذلك بكثير من الحُرقة، لأني أريد لهذه المهنة أن تتطور، أن يقوم العاملون في حقليها العلمي والميداني بواجبهم في التغيير، فشواهد الممارسة لا تبعث على الارتياح، والقراءات في الحقل العلمي لا تدعو للتفاؤل، والداخلون الجدد إلى المهنة ليسوا بكفاءة من سبقوهم، والشخصيات الأكاديمية في كليات الإعلام باتت متكلسة، والرداءة في المضامين مازالت تزحف رويداً رويداً على ما تبقى من المهنة، لدرجة انحسرت معها مساحة الإبداع، وصار لزاماً علينا جميعاً العمل على "محو الأمية الصحفية"، في الجامعات وميادين الممارسة.

دبي
10 أبريل 2012