آخر الأخبار

13 نيسان 1975 فاتحة للحروب اللبنانية (1 من 2

آذنت حادثة عين الرمانة، بجنوب بيروت الشرقي، في اليوم الثالث عشر من أبريل
(نيسان) عام 1975، بابتداء الحرب الأهلية في لبنان. ففي هذا اليوم سقط أربعة
وثلاثون قتيلاً، هم ثلاثون فلسطينياً وأربعة لبنانيين. والقتلي الفلسطينيون
هم ركاب سيارة نقل كانوا راجعين من احتفال أقامته منظمة الجبهة الشعبية
لتحرير فلسطين - القيادة العامة وقوات الثورة الفلسطينية في جامعة بيروت
العربية، بغرب بيروت، إلي مخيم تل الزعتر، بشرق بيروت. وأحصت جبهة التحرير
العربية (العراقية الميول) بين القتلي اثنين وعشرين من مقاتليها، وأربعة
مقاتلين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة)، ومقاتلين من
الصاعقة، واثنين آخرين من فتح . أما القتلي اللبنانيون فهم محازبون من حزب
الكتائب اللبنانية ومواطنان كانا في عداد محتفلين بافتتاح كنيسة محلية.

من عين الرمانة إلي كل لبنان
ووقعت الحادثة عندما اجتازت حافلة النقل شارع الشيخ بيار الجميل بعين
الرمانة، وهي حي سكن مسيحي، في طريقها من غرب بيروت إلي شرقها. فأوقفها
مسلحون من الحي، وصعد بعضهم إليها، وقتلوا معظم راكبيها الفلسطينيين. وسبق
اعتراضَ سيارة النقل بنحو ساعتين اجتياز سيارة صغيرة الشارعَ نفسه. وكانت
السيارة تقل مسلحين أطلقوا النار علي المصلين المتجمهرين بفناء الكنيسة،
فقتلوا أربعة منهم وغابوا عن الأنظار. فلما لحقت السيارة الكبيرة بالسيارة
الصغيرة بدا توقيفها، وقتل معظم راكبيها، انتقاماً من فعل من كانوا في
السيارة التي سبقت إلي المرور.
وخرجت بيانات المنظمات الفلسطينية وحزب الكتائب اللبنانية برواية الواقعة
روايتين مختلفتين. فقصرت بيانات المنظمات الفلسطينية، ولا سيما بيان منظمة
التحرير الفلسطينية روايتها علي مرور إحدي سيارات الباص التي تقل عدداً من
المواطنين الفلسطينيين في محلة عين الرمانة (حيث) تعرضت لإطلاق كثيف من مكامن
نصبتها عناصر من حزب الكتائب بتدبير مسبق . علي حين قصر بيان حزب الكتائب
روايته علي مرور سيارة فيات مسرعة ومغطاة الرقم وفي داخلها أربعة مسلحين
(...) اجتاحت الشارع وأخذ (المسلحون) يطلقون النار علي جموع المصلين، ما أدي
إلي سقوط قتلي وجرحي .
ونجم عن الحادثة انتشار المسلحين، وقطعهم الطرق العامة في عين الرمانة نفسها،
وفي فرن الشباك، الحي القريب من عين الرمانة والمسيحي السكن مثلها، وقطع
مسلحون فلسطينيون ولبنانيون طرق محلة الغبيري، ومحلة الشياح؛ والمحلـتان
قائمتان في مقابل عين الرمانة، ويغلب المسلمون، ولا سيما الشيعة منهم، علي
سكانهما. وفي المساء فجرت عبوة ناسفة علي مقربة من بيت الكتائب، وهو مكتب
فرعي ومحلي للحزب، بحارة حريك، المحلة المحاذية لمخيم برج البراجنة
الفلسطيني. وأطلقت قذيفة مضادة للدروع، من طرز (آر.بي.جي.)، علي مدرسة حارة
حريك الرسمية. وفي الساعة الواحدة صباحاً من نهار اليوم الرابع عشر من أبريل
(نيسان) مرت سيارة، تقل مسلحين، بإزاء بيت الكتائب القائم قرب ساحة بيروت،
ورمي ركاب السيارة النار علي المبني فأردوا شخصين كانا أمامه. فلما مرت، بعد
دقائق قليلة، سيارة خاصة أمام المبني رماها حراسه بقذائف (آر.بي.جي.) فقتلوا
رجلين كانا يستقلانها. وأطلقت نيران البنادق الآلية، وقذائف القاذفات المضادة
للدروع، في أحياء بيروت كافة، وكانت دور السينما والمحال التجارية وبعض حواجز
المسلحين أهدافها. فآذنت الحوادث المتفرقة هذه بحوادث مثلها، غامضة، في
أنحـاء مخـتلفة من لبنان: في مديـنة زحلة (في سهل البقاع)، وفي عكـار بشمال
لبنان... واستقرَّ في شطري بيروت، غربها وشرقها، حال طوارئ أهلية أنفذتها
المنظمات المسلحة، وما لبثت أن انفجرت تراشقاً مسـتمراً، وقطَّـعت العاصمة
مناطق تفصلها خطوط تماس أو جبهات عسكرية وخنادق ثابتة. ودخل لبنان كله، مذ
ذاك، في نفق الجولات ، أي حلقات المعارك المتنقلة من ناحية إلي ناحية، ومن
مدينة إلي مدينة، ومن محافظة إلي محافظة.
وبنت القوي السياسية، اللبنانية والفلسطينية، علي حادثة عين الرمانة نتائج
متباينة. فنفي رئيس حزب الكتائب اللبنانية، بيار الجميَّل، عن جميع العاقلين
من الفلسطينيين تهمة العمل علي إشعال الفتنة في لبنان (والإقدام) علي مثل هذه
الأعمال . وحمَّل أيدي مجرمة، قد لا تكون فلسطينية ولم يستبعد أن تكون
إسرائيلية ، التبعة عنها (عن أعمال إشعال الفتنة ). ولم يتطرق بيار الجميل
إلي تهمة حزبه بالمسؤولية عن الحادثة الدامية، ولو من باب النفي. أما ياسر
عرفات، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فأرسل باسم اللجنة
برقية إلي الملوك والرؤساء العرب، جاء فيها: إن المجزرة الدموية التي نفذتها
عصابات حزب الكتائب المسلحة ضد أبناء شعبنا الأبرياء العزَّل هي مؤامرة
مكشوفة تقوم بها هذه العصابات بتنسيق وتوجيه من الإمبريالية والصهيونية (...)
في محاولة لخلق فتنة وضرب الأخوة الفلسطينية - اللبنانية . ودعا عرفات الملوك
والرؤساء إلي إحباط (...) المؤامرة ، ومعالجة الأزمة من طريق دعوة السلطات
المسؤولية في لبنان الشقيق للضرب علي أيدي عصابات الكتائب الآثمة .
وماشت الأحزاب والقوي الوطنية والتقدمية ، وتجمع المنظمات السياسية اليسارية
(الشيوعية) والعروبية (الناصرية والبعثية والقومية السورية ) وعلي رأسها
الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، رأي رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في المشكلة
الطارئة، وفي سببها. فحمَّلت حزب الكتائب المسؤولية عن المجزرة (...) ضد
المدنيين من أبناء الشعب الفلسطيني ، وقَصَرت دور الحزب علي تنفيذ بعض أقسام
(...) المخطط الإستعماري الصهيوني ، وجمعت المقاومة الفلسطينية والحركة
الوطنية والتقدمية اللبنانية في هدف واحد وصف واحد. وخلص البيان من مقدماته
هذه إلي مطالبة الحكومة اللبنانية بأن تحزم أمرها وتضرب بيد من حديد علي
محترفي الإجرام السياسي (من) عصابة الكتائب . ودعا الحكومةَ، وعلي رأسها
السيد رشيد الصلح، وكان كمال جنبلاط اقترحه رئيساً للحكومة وزكّاه باسم القوي
الوطنية ، إلي اقتحام المناطق التي تحتلها ميليشيا الكتائب وتطهرها ، و حل
الحزب، وإلي طرد وزيري الكتائب من الحكم ومقاطعة هذا الحزب وطنياً وسياسياً
وقطع كل حوار معه .
وتفصِّل شروط الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية علي الحكم اللبناني، وزارةً
ورئاسةً، بنود المعالجة التي دعا السيد ياسر عرفات القادة العرب إلي العمل
بها في برقيته. وكان هذا التفصيل، لو أُخذ به، أدَّي إلي تأليب القوي المسلحة
والدولة علي نصف الأهالي اللبنانيين. فالحزب المدان، أي الذي دانه السيد
عرفات وكمال جنبلاط وحملا الملوك والرؤساء العرب علي إدانته، هو أقوي الأحزاب
السياسية اللبنانية، وأوسعها انتشاراً في أوساط المسيحيين، وأشدها انضباطاً.
وعلي حين يدعو السيد عرفات الدول العربية إلي حماية المنظمة التي يرأس - وهي
كانت حظيت في مؤتمر القمة العربي بالرباط، في العشرين من أوكتوبر (تشرين
الأول) عام 1974 بصفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني - من إحدي القوي
السياسية والأهلية اللبنانية، بواسطة الدولة العربية التي تنتسب إليها هذه
القوة، تدعو الأحزابُ والقوي العروبية واليسارية المحلية، من داخل الدولة،
الدولةَ اللبنانية إلي قمع القوة السياسية والأهلية اللبنانية والمسيحية
بالقوة والعنف. فتكمل الدعوتان، الفلسطينية والمحلية، الواحدة الأخري،
وتُجمعان علي ضرب حزب الكتائب، المسيحي واللبناني، بالدولة والجيش
اللبنانيين.

وجها الخلاف اللبناني
ومهما كان من ذيول الحادثة العتيدة، فالحادثة نفسها لم تكن إلا حلقة في سلسلة
من الحلقات المتصلة التي ترقي إلي عشية حرب يونيو (حزيران) عام 1967، أو إلي
أواخر عام 1968 في التقدير الأقرب. ويتقاسم هذه الحوادث قاسم مشترك واحد هو
خلاف اللبنانيين علي سياسة دولتهم بإزاء الفلسطينيين ومنظماتهم المسلحة
وهيئاتهم الحزبية والسياسة، المنتقلة إلي الأراضي اللبنانية علي نمو متعاظم
منذ إخراجها من المملكة الأردنية في خريف عام 1970 وشتاء عام 1971. وغذي
الخلافَ المستجد علي سياسة لبنان الفلسطينية، آن تصدرت القضية الفلسطينية
السياسات العربية الإقليمية والدولية غداة حرب (يونيو) حزيران، خلافٌ داخلي
قديم علي استقلال الدولة اللبنانية بكيان سياسي وحقوقي ناجز وحقها في هذا
الكيان، أولاً؛ وعلي توزيع الدستور اللبناني السلطات والصلاحيات بين الهيئات
الدستورية، وما يستتبع هذا التوزيع من تفاوت في تقسيم القوة السياسية والقوة
الإجتماعية بين الطوائف والمذاهب الدينية والمناطق، ثانياً.
وانفجرت الإضطرابات حروباً داخلية، علي الأراضي اللبنانية، في سياقٍ من
الحوادث دمجَ وجهي الخلاف واحدهما في الآخر. فبات من العسير تمييز الوجه
الناجم عن اتخاذ المنظمات الفلسطينية المسلحة أراضي لبنان وأهاليه معقلاً، من
الوجه الداخلي الصرف. والوجه الداخلي الصرف، بدوره، مزدوج. فيتصل بعضه بـ
هوية لبنان، علي ما يقول اللبنانيون، أي باستقلاله بدولة وكيان سياسي تام
السيادة؛ ويتصل بعضه الآخر بتوزيع السلطة علي الجماعات، الطائفية والمحلية،
وبينها. ويعود الوجه الداخلي، بدوره، فيرتبط بالقوي والتيارات العربية
والإقليمية. فالخلاف علي هوية لبنان هو، في آنٍ خلاف علي راعي هذه الهوية ،
وعلي متقلِّد المقاليد التي تمكنه من رعاية الهوية ، وتثبيتها، والمحاماة
عنها. وإذا تنسب الجماعات المسيحية إلي نفسها رعاية هوية لبنانية مستقلة
بدولتها ومصالحها، تنيط هذه الجماعات بنفسها، وبمن تندبهم من ممثليها،
السلطات الكفيلة برعاية كيان الدولة.
وعلي خلاف الجماعات المسيحية، تنسب الجماعات الإسلامية والعروبية إلي نفسها
رعاية هوية عربية تشدها إلي السياسات والمصالح الإقليمية روابط كثيرة؛ وعلي
الدولة اللبنانية أن تتحمل تبعات روابط التاريخ والجوار العربية، علي قول
الجماعات الإسلامية والعروبية هذه، مهما غلا الثمن. وعلي هذا فمن يمثلون
الجماعات الإسلامية والعروبية هم الأَوْلي بتولي السلطات الكفيلة بحماية
روابط لبنان العربية والإقليمية، وبتوزيع الموارد الإقتصادية والإجتماعية
توزيعاً منصفاً وعادلاً.
ودخلت الأراضي اللبنانية، ودخل اللبنانيون تالياً ومعهم السياسة اللبنانية،
حلبةَ المشكلات المترتبة علي القضية الفلسطينية، وتجدد طرحها في منتصف العقد
السابع، باكراً. وكان دخول الأراضي اللبنانية، ودخول اللبنانيين والسياسة
اللبنانية، الحلبة الفلسطينية، ومن ورائها المنازعات الإقليمية، العربية
والإسرائيلية، حاداً ومحرجاً.
فقد انتهي مؤتمر القمة العربي الثالث، وهو انعقد بالدار البيضاء من 13 سبتمبر
(أيلول) عام 1965 إلي 16 منه، إلي تسليم المؤتمرين بإرجاء تحويل روافد نهر
الأردن، وبتجميد إنشاء الجيش الفلسطيني، الذراع العسكرية لمنظمة التحرير
الفلسطينية التي أنشأها مؤتمر القمة الأول بالإسكندرية في أواخر عام 1963 -
وكان تحويل الروافد السبب في تداعي الملوك والرؤساء العرب إلي الإلتئام في
قمم لا تقيدها أنظمة جامعة الدول العربية. وجهر وفدا الأردن ولبنان، في أثناء
المؤتمر واجتماعاته، رفضهما القاطع تجنيد الفلسطينيين المقيمين علي أراضي
الدولتين. ونص ميثاق التضامن العربي ، الموَّقع في ختام القمة الثالثة، علي
احترام الموقعين ودولهم الأنظمة الداخلية للدول العربية كافة. ودعا الموقعين
إلي لجم الحركات التخريبية التي تعمل علي قلب الأنظمة . وعلي رغم إجماع
المشاركين في القمة الثالثة علي بنود الميثاق وقرارات البيان الختامي، ندّد
أحمد الشقيري، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، بالقرارات، وحمَّل الأردن
المسؤولية عن ثقل الوصايات العربية علي الفلسطينيين وعملهم العسكري.
وكان الأول من يناير (كانون الأول) 1965 شهد أول عمل عسكري فلسطيني ضد منشآت
الضخ الإسرائيلية علي الأردن. وآذن العمل هذا بابتداء العاصفة ، و فتح (حركة
التحرير الفلسطينية) من ورائها، نشاطها العسكري. وتصدر البلاغان 14 و18،
الصادران عن قوات العاصفة ، في 24 يوليو (تموز) 1965، الصحف السورية
الحكومية. واتهم عضو في القيادة السورية، العقيد فهد الشاعر، ملك الأردن،
بالتسبب في ركود الجبهات العربية والرجوع عن تحرير فلسطين .
ولكن الحدود بين سـورية وبين الدولة العبرية لم تشهد اشتباكاً عسكرياً واحداً
بين 12 أغسطس (آب) عام 1969 و30 مارس (آذار) عام 1966. وعلي الضد من هذا
الهدوء - وعزاه المراقبون إلي إعلان إسرائيل عزمها الرد علي أعمال المنظمات
الفلسطينية العسكرية الناشئة إذا كانت الأراضي السورية مصدرها رداً قاسياً -
أحصي بيـان حكومي إسرائيلي، غداة دخول الجيش الإسرائيلي في ليـلة 28 أوكتوبر
(تشرين الأول) 1965 إلي 29 منه قرية حولا اللبنانية الجنوبية، ثلاثين حـادثة
تخريب قام بها فلسطينيون داخل أراضي إسرائيل (و) انطلقوا في تنفيذها من
الأراضي اللبنانية . ولم تحل السلطات اللبنانية دون تسلل أصحاب العمليات هذه
من المخيمات الفلـسطينية، الـقائمة في لبــنان، إلي أراضي إسـرائيل .
والحق أن قرارات مؤتمر القمة الأول ألزمت لبنان إنشاءَ مخيم تدريب فلسطيني
ببلدة كيفون، في قضاء عاليه، إلي الشرق من بيروت. فأجازت الشعبة الثانية في
الجيش اللبناني إنشاء المخيم. لكنها لم تغفل عن مراقبة الفلسطينيين الذين تظن
فيهم المشاركة في أعمال عسكرية فدائية كان بعض أجنحة حزب البعث العربي
الإشتراكي، الحاكم في سورية، يحض عليها ويشجعها. وفي 29 ديسمبر (كانون الأول)
1965 أوقفت السلطات العسكرية اللبنانية فلسطينياً في السادسة والثلاثين من
عمره، يعمل حارساً في مخازن وكالة الغوث (أونروا) بمخيم عين الحلوة، شرق
صيدا، وأحبطت محاولة تسلل كان أعد العدّة لها، هو وفلسطينيان آخران. وأقر
الثلاثة بعضويتهم في تنظيم العاصفة العسكري. وفي أثناء توقيف جلال كَعْوَش
(وهو إسم الفلسطيني) والتحقيق في محاولة التسلل، قضي الموقوف. وكانت وفاته
طبيعية ، علي ما جاء في تقرير اللجنة الطبية، في 17 فبراير (شباط) 1966، بعد
تشريح الجثة. وكان مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بسورية، والإتحاد النسائي
العربي، أذاعا، في 13 يناير (كانون الثاني) 1966، بياناً بثته إذاعة دمشق
اتهما فيه السلطات اللبـنانية بقتل الفلسطيني المفقود. وغداة إذاعة البيان
طالبت جبهة الأحزاب والهيئات والشخصيات الوطنية والتقدمية ، بزعامة كمال
جنبلاط، الحكومة بالتحقيق في وفاة جلال كَعْوَش. ومالت الجبهة ميلاً واضحاً
إلي تهمة الحكومة بالتسبب في الوفاة وتعمدها.
ولم تقتصر الأنشطة الفلسطينية العسكرية علي العمليات والإعداد لها. ففي أوائل
فبراير (شباط) 1966، كشفت مصادر مطلعة لصحيفة النهار اللبنانية (عدد السادس
من الشهر) عن ضبط الأجهزة الأمنية شحنات سلاح فردي، معظمه من المسدسات،
يهرِّبها مهرِّبون مجهولون إلي ميناء طرابلس، حيث تستبدل بقطع غيار سيارات
وترد إلي مصدرها، إسبانيا. وكانت هذه الشحنات ترسل إلي إسم وهمي، هو مارون
قسيس، ويتولي تفريغها من السفن حمَّالون مسلمون، بعضهم فلسطينيون، يأتون من
مخيم البداوي الكبير، إلي الشمال من طرابلس والقريب من الحدود اللبنانية
والسورية. أما الفلسطينيون الذي كانوا يسقطون في العلميات العسكرية في ذلك
الوقت، فكان يعثر معهم في معظم الأحيان علي رشيش كارل غوستاف، البلجيكي
الصناعة. ولم تعرف البندقية الهجومية السوفياتية، كلاشينكوف، إلا غداة حرب
1967. وقد يكون نوع السلاح قرينة علي ضعف المساندة السورية العسكرية للعمل
الفلسطيني المسلح يومذاك.
واستتبعت الحادثة وما سبقها، علي تواضعها قياساً علي الحوادث اللاحقة، ذيولاً
استبقت، علي نحو متواضع ذلك، الأزمات الآتية. فغداة إذاعة الحكومة
الإسرائيلية بيانها بالعمليات العسكرية الفلسطينية من الأراضي اللبنانية، عقد
مجلس النواب اللبناني، في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1965، جلسة سرية طمأنت
اللبنانيين إلي وحدة الصف وإلي إجماع الدولة علي سياسة واحدة بإزاء فلسطين
والتضامن العربي وإسرائيل و الضمانات الأجنبية . لكن الصحافة اللبنانية،
المتفرقة الآراء والمنازع، كانت مرآة خلاف سياسي وأهلي واسع الشقة.
فحمل الصف العروبي والإسلامي الدولةَ علي ترك المراقبة و الوساطة إلي
المنازعة (السيدة علياء الصلح)؛ واتهم حزبَ الكتائب اللبنانية بتحريض السلطة
علي القيام بحملة بطش ضد 170 ألف فلسطيني يعيشون علي أرض لبنان (صحيفة المحرر
الناصرية في 1966/1/21)؛ وسارت بدمشق، في 15 يناير (حزيران) نفسه، تظاهرة
تقدمها رجال منظمة العاصفة وهم يحملون صورة كبيرة لجلال كعوش، الحزبي البعثي؛
ونبهت صحيفة حزب الكتائب، العمل ، إلي ما قد يترتب علي لبنان من تعاظم عدد
الفلسطينيين المقيمين من نحو خمسين ألفاً إلي نحو مئة وخمسين ألفاً، مصدر
معظمهم المخيمات الفلسطينية في سورية. أما الحكومة اللبنانية فاقترحت علي
الفلسطينيين، غداة ظهور أمر العمل المسلح تحت جناح منظمة التحرير الفلسطينية
الشرعية، نقل المخيمات من بيروت - حيث يقيم كثرتهم بجوار المطار الدولي
(مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا) والضاحية الصناعية الشرقية (مخيم تل
الزعتر) وأحياء السكن المتسع في الضاحيتين - إلي بلدة عدلون في قضاء
الزهراني، جنوب صيدا، حيث حصرهم ومراقبتهم وعزلهم عن اللبنانيين أيسر علي
السلطة وأجهزتها.

انقسامات واستقطابات
فظهرت عوامل إشعال أزمة أهلية وسياسية في لبنان، وإنما ظهوراً خفيفاً. وأول
هذه العوامل إقامة جالية فلسطينية، قد تتكاثر وقد تتضاءل عدداً، علي الأراضي
اللبنانية. ويسع الجالية المتعاظمة العدد هذه أن تتحول إلي قوة سياسية
وعسكرية مستقلة عن الدولة المضيفة، وعن سياستها، استقلالاً تاماً، وذلك متي
قيّضت لها الظروف الإقليمية الفرصة المناسِبة. وثاني العوامل هو انقسام
الجماعات اللبنانية علي الموقف من تحول الجالية الفلسطينية إلي قوة سياسية،
أو قوي سياسية مختلفة، مستقلة بسياستها ومنظماتها. فعلي حين تنزع الجماعات
المسلمة والعروبية إلي تأييد هذا التحول ومساندته، تتحفظ الجماعات المسيحية
عنه وترتاب فيه وفي نتائجه السياسية والإقتصادية المحلية. وثالث العوامل هو
توسل التكتلات العربية بالجالية الفلسطينية، وبانقسام اللبنانيين في صددها،
إلي خوض الحرب الأهلية العربية (مالكولم كير) بالواسطة.
فالإنقسام السوري الداخلي بين جناح قومي معتدل وجناح قطري أقل اعتدالاً،
والإنقسام العربي بين تكتل ناصري وتكتل وسطي، وعلاقة الإنقسامين بالحرب
الباردة وقطبيها - كل هذه الإنقسامات والإستقطابات دخلت عقرَ الدار اللبنانية
من باب دولة ضعيفة القبضة ومضطرة إلي مداراة جماعاتها وعصبيات هذه الجماعات.
ولم تكن هذه الحال لتخفي لا علي السياسة الإسرائيلية، ولا علي السياسة
الفلسطينية الآخذة في التبلور. فكانت الأعمال العسكرية الإسرائيلية (دخول
زمرة من الجيش الإسرائيلية قريتي حولا وميس الجبل في ليلة 28 إلي 29 أوكتوبر
عام 1965، ودخول زمرة ثانية في الأول من نوفمبر / تشرين الثاني قرية الضهيرة)
ترمي إلي جر الدولة، وقواتها المسلحة والأمنية، إلي قمع العمليات الفلسطينية؛
بينما تحصنت المنظمات الفلسطينية المسلحة بتضامن شق أهلي لبناني، عروبي
وإسلامي غالب، معها.
فكانت الدولة اللبنانية في خيرة من أحد أمرين (وهو العامل الرابع في إشعال
الأزمة الأهلية والسياسية): إما إجابة السياسة الإسرائيلية وضبط الأعمال
العسكرية الفلسطينية، واستعداء الشق اللبناني العروبي تالياً، ومع هذا الشق
سندُه العربي القريب؛ أو القبول بهذه الأعمال، والدخول في دوامة اضطراب
دائمٍ، داخلي وعلي الحدود، تؤدي في آخر الأمر إلي قيام الجماعات اللبنانية
بعضها علي بعض، وإلي انفراد كل جماعة بأحلاف عربية وإقليمية ودولية مستقلة.
ومعني الحالين انهيار الدولة. فتذرعت كل سياسة من السياستين بهذا الإنهيار،
أي بالتهديد به، إلي إنفاذ أغراضها في لبنان.
ولم يكن في وسع أي سياسة من السياستين تهديد لبنان، في شتاء عام 1966،
بالإنهيار، ولا حتي باضطراب واسع. ولعل مرد الأمر هذا إلي تواضع الأعمال
العسكرية الفلسطينية، كمّاً ونوعاً، من وجه أول، وإلي انضباط المنازعات
والخلافات العربية علي العلاقة بين قطبين راسخي الشرعية هما الجمهورية
العربية المتحدة (مصر) والمملكة العربية السعودية من وجه ثانٍ. فحالَ هذا
الإنضباط دون توسل بعض الدول والحركات السياسية الإقليمية بالقضية
الفلسطينية، وبالعمل الفلسطيني المسلح، ذريعة إلي المنازعة علي القيادة
الإقليمية والتسابق إليها. ولذا أدت حرب يونيو (حزيران) 1967 إلي ضعف العلاقة
القطبية برمتها. فقدرت المنظمات الفلسطينية المسلحة، وبعض القوي الإقليمية،
علي الخروج علي معظم ضوابط المرحلة السابقة. وسوَّغ انهيارُ جبهات دول الطوق
، أي مصر والأردن وسورية (باستثناء لبنان الذي لم يشارك في الحرب ولم يعلنها)
هذا الخروج.
فضعفت ذرائع الدول في ضبط الأعمال العسكرية، وقد خسرت هذه الدول جزءاً من
أراضيها التي احتلها العدو. وتأخرت القيادات السياسية العربية في صوغ سياسة
مشتركة ومتماسكة ترد بها علي الهزيمة التي منيت بها لتوها. فانكفأت كل دولة
من دول الطوق علي معالجة مشكلاتها الداخلية حين غلبت القضية الفلسطينية، في
أعقاب الحرب الخاطفة، علي العلاقات الإقليمية، وعلي العلاقات بين الدول
العربية وبين القوي الدولية. لكن التفاوت الكبير بين تأثير القضية الفلسطينية
في الرأي العام العربي، والمشاعر العربية، وبين وزن القوي الفلسطينية
السياسية والعسكرية، أخرج تدبير السياسة الفلسطينية وتوجيهها من أيدي أصحابها
المباشرين، ووضع التوجيه والتدبير هذين في أيدي الدول العربية التي ألحقت
النكسة بها، وبدورها الإقليمي وتوازنها الداخلي، أفدح الضرر.
فتناولت الدول الثلاث التي خسرت في الحرب بعض أراضيها، والكثير من دالَّتها
ودورها، المسألة الفلسطينية علي وجوه مختلفة باختلاف أوضاعها وأحوالها. فأرست
الدولةُ المصرية معالجتها الخسارة العسكرية، والنشاطَ الفلسطيني الذي أعقب
الخسارة، علي حرب استنزاف دامت نحو ثمانية عشر شهراً وعلَّقها قبول مصر
مشروعَ وزير الخارجية الأميركية، روجرز (في 23 يوليو / تموز عام 1970، وفي 8
أوغسطس / آب سري وقف إطلاق النار). واضطرت المملكة الأردنية الهاشمية، في وقت
أول، إلي احتمال وطأة الأعمال العسكرية الفلسطينية، والمنظمات المسلحة
المتنازعة، ووطأة الرد العسكري الإسرائيلي القاسي علي هذه الأعمال. وحسمت
القوات المسلحة الأمر في سبتمبر (أيلول) عام 1970، وأخرجت المنظمات
الفلسطينية المسلحة من عمان، ثم من شمال المملكة كله، في شتاء 1971. فهدأت
الجبهة علي نهر الأردن.
وأما سورية فلابس العمل الفلسطيني المسلح، من الأراضي السورية ومن الأراضي
العربية المجاورة مثل الأردن ولبنان، ولابس استعمالُه الداخلي والإقليمي،
الخلافات السورية الداخلية. فحاول جناح من الجناحين الحاكمين منذ 23 فبراير
(شباط) عام 1966، التوسل بالعمل العسكري الفلسطيني إلي حسم سيطرته علي
السلطة. فدعا إلي تنشيط هذا العمل، وإلي مدّه بأسباب القوة، وإحلاله محل
القوات النظامية، ونشره في البلدان العربية. أما الجناح الثاني، وإليه آلت
الغلبة في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 مع رئاسة اللواء حافظ الأسد
الحكومة، فحمل علي انتهاج سياسة أقوي تضامناً مع الدول العربية الأخري، وأقل
تعويلاً علي العمل الفلسطيني.
ولبنان وحده، بين الدول الأربع المحاذية لفلسطين ورسمِ حدودها الإنتدابي، لم
يخض حرباً، ولم يخسر أرضاً في الحرب العربية والإسرائيلية الثالثة. لكن ذلك
لم يحصنه من توسل السياسات الإقليمية به وبأراضيه إلي احتياجها الملح. فتوسلت
السياسة المصرية به، وهي تباشر حرب استنزافها في أواخر عام 1968، إلي فتح
جبهة شمالية مساندة، تتمم الجبهةَ السورية، بواسطة القوي الفلسطينية
وعملياتها. ووافقت هذه السياسة الإرادةَ السورية تطويقَ العدو، المنتصر في
حرب تقليدية، بقوات غير نظامية تنشر الحرب علي طول الطوق العربي، وتقوي الدور
السوري الإقليمي، وتُبعد عن الأراضي السورية والسوريين جزءاً من عبء الرد
الإسرائيلي المتوقع. وصادفت المنظمات الفلسطينية في لبنان دولة تقضي الأعراف
برسم سياستها العربية والدولية في ضوء الموازنة الصعبة بين منازع الجماعات
الأهلية والطائفية (الدينية والمذهبية) التي تتألف الدولة منها.
فأدخلت المنظـمات الفلسـطينية نفسَها في سلك الجماعات الأهلية المحلية، وحملت
ممارسة العمل العسكري علي الأراضي اللبنانية علي حق من الحقوق السياسية
والأهلية التي تتمتع بها الجماعات اللبنانية. وتضامنت بعض الجماعات المحلية،
المسلمة والعروبية والشيوعية، مع المطالبة الفلسطينية هذه، وتولت إدخال
المطالبة في دائرة حقوق الجماعات السياسية والأهلية. وتضافر الإحتياج المصري
إلي تكثير الجبهات، والإحتياج السوري إلي نشر العمل المسلح غير النظامي،
والإحتياج الفلسطيني إلي تكثير المعاقل - تضافرت الإحتياطات هذه كلها، غداة
حرب عام 1967 وذيولها المتفجرة، علي إضعاف سياسة الموازََنة اللبنانية بين
المقتضيات العربية والدولية المتنافرة.

الكاتب: وضاح شرارة