يستعذب كثير من الكتاب العرب بين الفينة والأخرى طرح هذا السؤال: لماذا نكتب؟ ويهرق حبر كثير في الإجابات "الاستملاحية" الشاعرية عن هذا السؤال الذي تجاوزه قطار الزمن. لكن السؤال الذي لا بد أن يكون مطروحا اليوم عربيا في ظل "فيالق الحمقى" التي تغزو الإنترنت في وسائل "الغباء الكتابي" هو: لمن نكتب؟ بعد قليل سنكون أمام الحقيقة الصادمة.
لنُثَبِتَ بداية الأرقام (وهي بالمناسبة فوضوية لجهة عدم دقتها). يعيش في الدول العربية نحو 345 مليون نسمة بحسب بيانات للبنك الدولي في 2014. يوجد في الدول العربية 54 مليون شخص أمي، بحسب أحدث معلومات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) في 8 يناير 2017، اليوم العربي "للاحتفال" بمحو الأمية. لكن تقديرات اليونسكو في 2014 أشارت إلى 98 مليون أمي بالدول العربية. وهذه الأرقام تخص -على ما يبدو- من تزيد أعمارهم عن 15 عاما، ويستثنى منها الأطفال أو من لم يقوَ بعد عودهم التعليمي. تم استثناء نسب الأمية مقارنة بعدد السكان، لأنها غير منطقية، ولا يعرف إن كانت تجمع "الخُدّج" أم تستثنيهم. (ألم أقل لك قبل قليل أن أرقامنا تعج بالفوضى؟ خلاصة أولى: نحن إذ أمام نحو 100 مليون أمي، في أقصى تقدير.
يقول تقرير لليونسكو صادر عام 2015، أن 15 مليون طفل تسربوا من التعليم في منطقة الشرق الأوسط. وأفاد تقرير الرصد العالمي للتعليم في 2011، أن عدد الأطفال غير الملتحقين بالتعليم بالبلاد العربية يزيد عن 6 ملايين طفل، وأن 7 إلى 20 بالمئة من الأطفال يهربون خلال المرحلة الدراسية الأولى. تبلغ النسبة في بعض الدول 30 بالمئة. يضاف إلى هؤلاء نحو 14 مليون طفل آخرين حرمتهم الحروب والنزاعات المسلحة في المنطقة من التعليم النظامي، بحسب معلومات (ألكسو) مطلع هذا العام. خلاصة ثانية: نحن أمام 35 مليون طفل على الأقل بلا تعليم، سينضمون قريباً إلى صفوف 100 مليون أمي ليصبح العدد 135 مليوناً.
كانت هذه أرقام الأمية في معناها المجرد، أي عدم القدرة على الكتابة والقراءة، لمن لم يحالفهم الحظ بالتمدرس. وبالانتقال إلى الذين ينتهي مشوارهم التعليمي عند الثانوية العامة، فإن الأرقام للأسف تخوننا مرة أخرى، إذ إنها غير متوفرة للأسف. لكن تقديرنا أن هؤلاء يَعدون بالآلاف إن لم يكن بمئات الآلاف أو الملايين. تحدثنا عن ذلك أرقام الفقر الذي يرزح تحته الملايين. بحسب بيانات للبنك الدولي في 2014، فإن 11 مليون شخص في الدول العربية يعشون على أقل من دولار واحد في اليوم، ويصف البنك هذا الفقر بأنه "مدقع". السؤول: كيف لهؤلاء أن يتدبروا تكاليف المدارس أو رسوم الجامعات الباهظة؟ خلاصة ثالثة: بإضافة الأحد عشر مليونا إلى المائة وخمسة وثلاثين نكون أمام 146 مليون شخص، إما أميون أو ذوي تعليم يتعكز.
لكن ماذا عن "الأمية" في الجامعات العربية؟ نعم، أمية من يدخلون الجامعات، وسيتمكنون بعد 4 سنوات من "فك الخط"! (وين رايح: على الجامعة!. من وين جاي: من الجامعة!) خذ هذا الرقم. بلغ عدد خريجي الجامعات المصرية (الحكومية والخاصة) في 2010-2011 (343 ألف خريج) بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. ترى كم واحدا منهم قرأ كتاباً بعد تخرجه؟ إليك رقماً ثانياً: خرجت الجامعات السعودية في 5 أعوام (1431-1435هـ)، (2010-2014) نصف مليون طالب وطالبة من مرحلة البكالوريوس. في السعودية الآن 300 ألف عاطل عن العمل من حملة البكالوريوس، بحسب وزارة العمل. ترى كيف لعاطل عن العمل أن يشتري كتباً وهو لم يجد بعد لقمة العيش؟ هذه فقط نماذج يمكن تعميمها لولا أننا نجد أنفسنا -مرة أخرى- أمام انعدام أرقام تخص قياس الجودة التعليمية وكفاءة العملية التربوية برمتها.
يضاف إلى هذه الأرقام، أولئك الذين يحصلون على شهادات بالتزوير أو الرشى أو الواسطة في طول الدول العربية وعرضها. وهناك من لا يفعلون هذه ولا تلك، وتكون أموالهم حاضرة لشراء "تلك الكرتونة" من روسيا أو قبرص أو اليونان. وفي ما يتعلق بالجودة، بعيداً عن غوغائية الأرقام، فقد فشل أكثر من نصف الجامعات الأردنية مؤخرا في امتحان الكفاءة الوطني الذي نظمته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وفق ما يقول خبير التعليم جميل سالمي في مقال منشور. خلاصة رابعة: على الأرجح أن عدد طلاب الجامعات في الدول العربية يعدون بالملايين. ولأن عددهم غير معروف بالضبط نكتفي بالقول إن عدد طلاب جامعة القاهرة في مختلف الكليات والمستويات يزيد عن 300 ألف طالب.
ما الذي نريد أن نقوله من عرض هذه الأرقام؟ ما نريد قوله أنه عندما نطرح 146 مليون أمي أو متسرب من التعليم، من 345 مليوناً، يتبقى 199 مليون شخص. ثم احذف من هؤلاء ملايين الأطفال دون السن التعليمي النظامي (لا يعرف عددهم بالتحديد في البلدان العربية لأن فوضى الأرقام لا تزال قائمة)، وكذلك أسقط ملايين الجامعيين الذين يحصلون على الشهادة كوسيلة للعمل -إن وجد- وليس رغبة في العلم. السؤال الآن: كم مليونا يا ترى يبقى ممن لديهم الاستعداد للقراءة واستهلاك المعرفة؟
ولأن الناس تكتب لمن يقرأ، فإن جدلية الكتابة والقراءة في الدول العربية، تضعنا على الدوام أمام فئتين عريضتين: أميون- لم يدخلوا المدارس أبداً، وجهلة- يحملون شهادات لكن لا رغبة لهم بالقراءة، إلا قليلا منهم. وفي أحسن الأحوال، إن استأنسنا بالأرقام الآنفة على علاتها، ستجد أن من يقرأون في الدول العربية لا تتجاوز أعدادهم بضعة آلاف. وما نقصده بالقراءة هنا، ذلك النمط الحياتي المخطط له، وليس السلوك الطارئ. القراءة من أجل تطوير الذات معرفياً ومهنياً وترقية المحيط تنموياً. القراءة عن قصد، وليس لمجرد الصدفة أو التسلية أو تمضية الوقت، أو ما يصفها البعض اعتباطا "الهواية".
وأمام منظومة تعليمة تعرج، وجامعات تخرج متعلمين مشوهين، كان من الطبيعي أن تُنتج المجتمعات العربية أجيالا لا تقرأ. عفوا، تقرأ، لكن ماذا تقرأ؟ إنها تقرأ ما يعيد إنتاجه "جيوش التافهين" في فيسبوك وتويتر من تراث جاهلي وإرث تاريخي عقيم. نعم، ها نحن نعيد إنتاج التخلف ذاته، لكن بأدوات عصرية. فما كان لمنظومة مجتمعية وتعليمية وتربوية على هذه الشاكلة، إلا أن يكون هذا هو منتوجها، الذي يعز أن نطلق عليه "ثقافي"، ولا نخجل أن نطلق على كل ما باتت تعج به المكتبات العربية هذه الأيام، لا سيما في السنوات العشر الأخيرة، من روايات وكتب، صفة "النفايات الورقية"، التي لا يمكن أن تأتي كلمة "ثقافة" في جملة مفيدة معها.
إضافة تعليق جديد