خلال ثلاثين سنة سوف لن يتغير الكثير أو يطرأ تغييرا على بنية النظام والدولة في سوريا ,وهذا ما يحسبه المعارضون جمودا وديكتاتورية ويحسبه آخرون تكريسا لمبدا الدولة والنظام وثباتا وسوف نرى كيف أن الأمر حمل تكريسا لتلك الحوامل ولكن بدون اي انعكاس في البنية الفوقية أو تقدم على صعيد الحريات العامة .
فقد عجزت البنية السياسية عن أن تكون منتجة بتسلسل طبيعي من البنية التحتية , وبقيت الأمور تأتي بطريقة معاكسة , فلم يكن هناك مجال لبروز أية معارضة جدية لعدم وجود آليات ديموقراطية في بناء الدولة رغم وجود المؤسسات إلا أن البعث كان له دائما أكثر من النصف في أية مجالس أو مؤسسات , إضافة للعلة المستمرة منذ 1963 وهي الحكم بموجب قانون الطوارىء الذي عطل عمليا أية مظاهر لحياة ديموقراطية حقيقية .
لقد قامت سلطة الاسد على تحالف تكون قبل أن يستلم السلطة بين فئات ناهضة أرادت المشاركة في قرار البلد وبين الجيش الذي أحكم البعث سلطته عليه منذ الستينيات وتم له ذلك ليس بتحييده وإنما بتبني فكرة الجيش العقائدي , فاضاف لذلك تحالفة مع البورجوازية السورية والطبقة المتوسطة ,ونذكر أنه كان لتجار دمشق الدور الأبرز في إفشال المخطط الذي أتبعه الإخوان في إغلاق الأسواق .وأتى بمفهوم التضامن والتفاهم مع الدول العربية بدلا عن الهجوم والمقاطعه وخاصة مصر والسعودية . وكل ذلك محمولا على بنية اقتصادية –اجتماعية تأسست في فترة الستينيات على بقايا وأنقاض البنية (الإقطاعية,راس المال غير المنتج-الوسيط) واستمرت وخاصة في السبعينيات ولكن بدون النجاح المرتجى أو البناء عليها ومدها لإنتاج بنية مختلفة.
كم من هذه الاسباب له علاقة بالسياسيات المتبعة في الجانب الإقتصادي خصوصا , وكم منه له علاقة بالوضع القلق الذي وجدت سوريا نفسها تقع فيه ؟
بالتأكيد كان هناك سياسات اقتصادية خاطئة ومررنا على ذلك سابقا ولكن كان أيضا لعدم حدوث انفراجات مهمة ووجود سوريا في وسط الصراعات في المنطقة بشكل مستمر منذ استقلالها دورا مهما أيضا .
ففي السبعينيات وفي محطات أساسية نجد: حرب تشرين 73 والإستنزاف74 بدء الحرب في لبنان 75 دخول الجيش السوري إلى لبنان 76 بدء خروج مصر من المواجهة 77 حملة التفجيرات الداخلية 77-82 الإجتياح الأول للجنوب 78 معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية 79 الخلاف مع العراق 79-80 وبدء الحرب الإيرانية العراقية 80 غزو لبنان 82 الصراع على السلطة بعد مرض الأسد 83 بدء الحصار الغربي على سوريا واتهامها بالإرهاب 84-90 غزو الكويت 90 الإعتداءات المستمرة على لبنان خلال التسعينيات والتوتر مع تركيا وصولا إلى أحداث 11 أيلول واحتلال العراق والخروج من لبنان لتبدأ المرحلة الأكثرتوترا والتي تحمل أكبر الأخطار .
في الخلاصات وكنظرة للمستقبل :
تشكلت بنية النظام والدولة في سوريا من عدة حوامل ,تشكلت عبر الزمن , ابتدأت بدخول الجيش كطرف في الخيارات الكبرى والقرارات السياسية منذ الإستقلال وتقرير شؤون البلاد واصبح موضوع السيطرة على الجيش يعني السيطرة على أحد أهم الحوامل والمؤسسة للنظام والدولة في البلد.
لقد حيد الجيش وذلك بضمان ولائه المستمر للنظام , وهذا يستدعي أن تبرز الحوامل الأخرى ويزداد تأثيرها ,وصولا لإنتاج عوامل جديدة تفرز معطيات أخرى ليتم استتياع ذلك بتطور نوعي في البنية التشريعية والسياسية , إلا أن ذلك لم يحدث مع الاسف .
ربما كان للمواجهات المستمرة في الداخل والخارج والتهديد الخارجي المستمر مع فرض الحصار لفترات طويلة دوره في أن يبقى للجيش والأمن الأولوية على التنمية , إلا أن ذلك الأمر لا يمكن أن يستمر , ولا يمكن أن يظل حجة لتأخر الإقلاع بعملية التنمية .
وهذا لا يعني أنه لم تكن للحوامل الأخرى من تأثير , بل كان لإهمالها دورا في فشل محاولات البناء المتعدده وهي : الحوامل الإقتصادية-الإجتماعية , الموضوع الإقتصادي بشقيه الصناعي والزراعي , والأرض وتوزيعها وإعادة الإعتبار للعاملين فيها دون أن يعني ذلك نهاية تحكم الوسطاء بعملية تسويق المحاصيل , ومسألة تأمين الغذاء أولا ومن ثم الوصول لمرحلة إنتاج الفائض منه وفي هذا نجاح جزئي, وقيام المشاريع الصناعية والإنشائيةالكبيرة التي لم يكن سجلها ناجحا على أية حال .
و الإجتماعي وبروز فئة كبيرة من الموظفين (أجراء الدولة) أصبحوا المدافعين عن الدولة مشغلتهم ولهم مصلحة باستمرارها , وايضا ما طرأ على هذا الجانب من تغيير في ملكية الأرض ووسائل الإنتاج الكبيرة وانعكاس ذلك على العلاقات المتبادلة.
ومصالح الفئات الصاعدة والتي أحدث صعودها تغييرات هامة في بنية المجتمع السوري وتضخم القطاع العام , و دور البورجوازية السورية , وضرورة أن يكون لها دورا وطنيا ,وأهمية ذلك
مع بروز طبقة طفيلية كبيرة من الوسطاء والسماسرة تعتاش على مشاريع الدولة وتحقق الأرباح الكبيرة من التلاعب بالمواصفات والغش , بالتقاسم مع الشركات العامة .
إلا أن العلة الكامنة في خلال السنوات الثلاثين كان عدم حدوث أي تغييرات أو انعكاس لتلك الحوامل على البنى الفوقية , بما يؤدي لحدوث تحسن في الحريات العامة وخاصة السياسية وأيضا في موضوع القوانين والتشريعات والتعليم , واعتماد الكفاءة في اختيار المرشحين للمراكز والمسؤوليات بدل الولاء .
. لقد تحولت المدن إلى ملجأ للفقراء الذين اضطروا لبيع أراضيهم لقوى الاستغلال الجديدة ، والتي فشلت في أن يكون لها أي دور منتج , في ظل عدم القدرة على المنافسة مع المنتجات الأجنبية , وفي ظل فساد إداري ورقابي عام,لجأت للقيام بالسمسرة والوساطة والتهريب وقبض العمولات وقامت بذلك بالمشاركة مع الشركات والمؤسسات العامة .
يجب ان تخاض تجربة التنمية بأبعاد جديدة للوقوف في وجه الطبقة الطفيلية المتوسعة والمستفيدة من تخريب الوضع الإقتصادي والتي لا يهمها سوى الربح وعلى حساب أي شيء و الغزو للشركات والمصالح الكبرى الأجنبية تحت ستار العولمة وغيرها ,الذي يؤدي في النهاية إلى القضاء على رأس المال المنتج وتخريب الزراعة لصالح بورجوازية الكومبرادور التي يقودهاالوسطاء والسماسرة .
ويجب أن تنهض سوريا في سياسة اقتصادية جديدة تعتمد على تكريس ما تحقق سابقا خاصة في قطاع الزراعة وتحقيق الوفرة الغذائية ,(ويذكر هنا أن الدولة قد التفتت أخيرا لهذا الموضوع الهام وزادت سعر المنتجات الزراعية الإستراتيجية ولكن هذه نقطة وغير كافية ) وايضا فتح الباب أمام الإنتاجات المتوسطة وأمام رأس المال المنتج ,التي أمنت حاجة البلد من الأشياء الضرورية اليومية , مع ضرورة مراقبة الإنتاج بصرامة وفق معايير محددة , ويجب العمل على محاربة وتقليص نفوذ طبقة الوسطاء والسماسرة التي نمت على حساب تخريب المنشآت العامة وغياب المواصفات اللازمة عن المشاريع, بحيث أن المشاريع تنفذ حسب العمولة وليس حسب الجدوى والمواصفة وحاجة البلد.ويجب أن يتم ضرب الفساد بدون هوادة لأن ذلك هو الشرط الضروري لقيام اي خطوات يتوخى منها النجاح . وهذا يشكل ضمان (البقاء) واستمرار الحياة , ولكن هذا لا يكفي .
يجب إشراك الناس في ذلك عن طريق فتح استثمارات يكون للأسرة وللفرد نصيب منها وتكون برعاية وضمان الدولة , بما يحقق دخولا إضافية يؤدي لعودة التوازن بين الدخل والمصروف ,ويصبح للناس مصلحة في بقاء الدولة وحمايتها , لأن التنغييرات التي تجري من تحرير الإقتصاد والتجارة , سوف يزيد الهوة بين الفئات وسينجم عنه بلبلة وقلق , إضافة لحماية المنتجين من جشع السوق وتقليل المراحل التي يجب على المنتج قطعها ليصل للمستهلك وتقليل دور الوسطاء والمضاربين وبذلك يتم تقليل هامش الربح الكبير بين سعر السوق وسعر المنتج.وأيضا الإلتفات أخيرا لموضوع الإستثمار التكنولوجي والتصنيع الدقيق الذي يحتاج لمهارات وأدمغة أكثر مما يحتاج لتجهيزات ضخمة , ويجب أن توقف الدولة النزيف المستمر للخبرات والعقول التي اكتسبت مهارات وذلك بإعادة النظر في قانون العمل الموحد الذي وحد الناس في الحضيض , واصبح بهذا القانون يتساوى في الراتب العامل صاحب الخبرة والكفاءة مع ذاك الآخر الذي يجلس في بيته بدون عمل .
أي يجب تخليق حوامل جديدة لاستمرار الدولة ,لأن الدولة بشكلها الحالي لا يمكن لها الإستمرار في الظروف والتحديات المقبلة وخاصة الإقتصادية , إذا لم يتم تخليق حوامل لبنى جديدة تفرزمعطيات بهدف إشراك أكبر فئات المجتمع في عملية التنمية وضمان حصول هذه الفئات على نصيبها العادل من ذلك .
من جملة الأمور التي ستحددشكل النظام والدولة والتطور الذي سيطرأ عليه في المستقبل نذكر:
الأول: الشروع عمليا في التخلي عن سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج ,والتدرج نحو إقتصاد السوق ,وإن كان يغلف ذلك بشكل تجميلي بمصطلح(إقتصاد السوق الإجتماعي) أي تحرير السوق مع المحافظة على مصالح الطبقات المتوسطة والفقيرة ,وهذا حقيقة لا أعلم كيف !؟
ومدى ذلك في خسارة الدولة لشريحة هامة من هذه الفئات .وهذا يمكن أن يكون له أثر كبير في ازدياد الفارق بين الطبقات الجديدة والقديمة الغنية وبين الأخرى التي ستجد نفسها تحت رحمة السوق والعرض والطلب.
وما هي البدائل التي تطرح للمحافظة على هذه الفئات .
أي مايسمى بالأمن الإقتصادي –الإجتماعي .
الثاني: مدى التطوير في استثمار الموارد ووضع التشريعات العادلة للموازنة بين جشع السوق وحصول المنتجين على حقوقهم وتأمين الضمانات اللازمة لذلك,وخاصة الأرض ,وزيادة الإنتاج وتحسين الري , إذ أن العالم يشهد طفرة في ارتفاع أسعار الغذاء , ولا يمكن لدولة أو نظام أن يكون صاحب قرار حر وسيادة, مهما بلغ من الثروة والقوة العسكرية إذا لم ينتج غذاءه ولم يستثمر ثروته المائية .
أي مايسمى( بالأمن الغذائي ).
هذان الأمران ضروريان وهما من الحوامل الأساسية لأي تطوير في البنى الفوقية , لقد تكرست حوامل مهمة للدولة والنظام عبر هذه السنين المديدة , ولا يمكن لأي حكم حالي أو مستقبلي تجاهلها أو القفز فوقها ,ولكن العلة تبقى في عدم حدوث تطور نوعي شاقولي .
لا بد من إفراز وتخليق معطيات جديدة تكون أساسا لمرحلة مقبلة في سلم التطور الذي يمر حاليا في أدق مرحلة له وهي المرحلة الإنتهازية وصولا إلى إقرار تشريع عادل وتكريس الحريات العامة .
هذا هو الأمر الذي سيحدد استمرارية وشكل الدولة ولكن بحوامل متجددة.
وذلك ضمن التفاعل المستمر مع العامل الآخر وهو الموضوع الخارجي والصراعات في المنطقة , إن هذه البنية ستشكل عوامل استقرار وصمود وسيتم تفادي أية إنعكاسات للصراعات في المنطقة على الوضع الداخلي .
إضافة تعليق جديد