آخر الأخبار

الله والروح والوجود.. في فلسفة كَانط

عماد الدين الجبوري *:

تبدأ أهمية الفيلسوف الألماني عمانؤيل كانت 1724-1804 من كونه أحد أقطاب المذهب العقلاني في الفلسفة الحديثة.

وكذلك من كونه رائد النزعة النقدية التي نقلت الفكر الغربي إلى منعطف حاسم نحو الاتجاه الطبيعي - المادي وما ترتب عليه من جوانب علمية وأخلاقية واجتماعية في الحضارة الغربية عامة.

وسوف نقرأ هنا وباختزال أهم ركائز كانت الفلسفية. أعني الموضوعات في المسائل والمشاكل التي بحث فيها كانت وهي: نظرية المعرفة، الوجود، الماوراء، الأخلاق ونظرية الجمال.

نظرية المعرفة

يرى كانت أن في العقل البشري عناصر أولية هي شروط ضرورية في المعرفة.

فالإنسان يمتلك هذه المعارف الأولية أو الأفكار القبلية كالزمان والمكان ومبادئ الرياضيات والله والروح الخ. ولكن ليس بشكل فطري مغروسة بالعقل هكذا، كما كان يعتقد ديكارت. بل إن العقل هو الذي يقوم بتأليفها وخلقها عندما يتقبل المعطيات الحسية المتمثلة أمامه في الظاهرات الموجودة. وحسب رأي كانط أن أي عنصر فطري أولي لا يقدم لنا معرفة بحد ذاته إن لم يكن العقل قد ركبً منها تجربة وفق نطاق ما نسميه بالعلم.

في كتابه الشهير نقد العقل المجرد الطبعة الإنكليزية ص 300 وما بعدها، يقول كانط: إن كل معرفتنا تبدأ من الحواس، تنشأ منها ومن ثم إلى الفهم وتنتهي بالعقل الذي لا يكون وراءه أي مِلكة عالية موجودة فينا لكي تُحكِم مادة الحدس وتجعلها تحت الوحدة العليا للفكر... إن الفهم هو الملِكة التي تحقق وحدة الظاهرات بوسائل قاعدية، والعقل هو الملِكة التي تحقق وحدة قواعد الفهم تبعاً للمبادئ .

ويركز كانط على دور وأهمية التجربة في معارفنا. إلا أنه يفصل ما بين المعارف التي تستخلص من التجارب، وبين التي تستقل عنها تماماً. فالمعرفة الخالصة هي أولية متقدمة. والمعرفة التجريبية لاحقة متأخرة. الأولى ضرورية ليس فيها شك أو ظن.

بالإضافة إلى كونها معرفة كلية ليس فيها تحديد أو تخصيص معين كما في قضايا الرياضيات والفيزياء. والثانية ناتجة عن المعطيات الحسية ليس إلا.

وكذلك كان كانت يفصل ما بين الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية في نظرته إلى المعرفة العلمية. فالأولى تكون وفق الصيغ التالية: الكل أكبر من الجزء. أو إن الأجسام ممتدة. أو غيرها من الأحكام التي يكون المحمول فيها متضمناً ذاتياً في الموضوع. حيث يمكننا أن نستخرج مفهوم الجزء من مفهوم الكل. أو أن نستخرج فكرة الامتداد من فكرة الجسم. أما الثانية فهي أحكام تقوم على الصيغ: كل أ هي ب. أو كل الأجسام ثقيلة. حيث يتكون شكل المحمول والموضوع. وبالتالي تزداد معرفتنا فيها لأن محمولها يبين موضوعها.

فالتأليف الجديد هنا يكون بين محمول الثقل من ناحية. موضوع الجسم من ناحية أخرى. وإذن فان صدق أو كذب الأحكام إنما يتوقف على الإثات والتحقق. وكذب الأحكام يتوقف على ما فيها من تصنيف وتكوين. في حين الأحكام التركيبية هي تجريبية توسع معارفنا وتزيدها تأليفاً مسهباً وفق معلومات جديدة.

وحسب تصور كانت إن أحكام العلم لا يمكن لها أن تكون واقعية وضرورية إن لم تقم على أحكام تركيبية وأولوية في آن واحد. حيث تكون تأليفية ترفدنا بمعلومات جديدة عن الموضوع. رغم إن التجربة متغيرة ليست ثابتة.

والضرورات الأولية كلية ثابتة مما يؤدى إلى تناقضات في حالة إنكارها. وبالتالي فإن ضرورة الحكم العلمي لا يمكن أن تأخذ بتلك الاستفادة المطلوبة من التجربة. ويهدف كانت من هذا الموقف إلى إثبات إن أحكام العلوم الرياضية والطبيعية إنما هي أحكام تركيبية أولية لا غير.

ففي الحساب نجد إن الحكم في 7+5 = 12 فإن هذا ليس حكماً تحليلياً بل تركيبياً حيث يزيد محموله شيئاً جديداً على الموضوع. إذ أن فكرة العددين 5 و 7 لا يتضمنان فكرة العدد 12. والسبب فيما يراه كانت لأنه بمقدورنا أن نتصور أي من العددين كل على انفراد دونما أن نتتصور ذلك العدد الواحد الذي يجمعهما. وكذلك في الهندسة، فان الحكم على إن: الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين، هو حكم تركيبي يوجب علينا أن نتصور بأن المستقيم هو تصور كيفي وليس كمي، ذلك لأنه غير متضمناً في محمول المسافة القريبة.

ورغم إن هذه هي قضية تأليفية - تركيبية. إلا إنها أولية أيضاً. لأن العلاقة بين موضوعها ومحمولها هي علاقة ضرورية كلية، وبذلك لا يمكن إنكار صحتها إن لم نقع في تناقض. وهكذا يصل كانت إلى الإقرار بأنه لابد من التسليم بوجود أحكام تركيبية أولية بين النظري والعملي.

ويشير في كتابه السلم الدائم الطبعة الإنكليزية ص 61 بأن النظرية لا يمكن أن تكون متكاملة إلا إذا اكتملت بتجربة وخبرة إضافية .

هذا ويؤكد كانت في نظريته المعرفية على التفرقة بين عملية الإدراك الحسي. وبين عملية الفهم. إذ حسب تصوره بأن ملكة الحس التي تمدنا بالإدراكات الحسية فإن هذا يكون من اختصاصها عن الموضوعات المحسوسة فقط. بينما ملكة الفهم يكون اختصاصها بأن تجعل من تلك الموضوعات أن تصبح متعقلة، فضلاً عن كونها تُنشأ مفاهيم متولدة عنها.

وهذا التفكير أو الحكم الذي يصل إليه كانت فإنه أيضاً يذهب به إلى التفريق بين الحكم الإدراكي والحكم التجريبي. فالأول: إذا حكمنا على أن الصخرة تسخن إذا سطعت عليها أشعة الشمس. فأن ذلك تعبير عن علاقة ذاتية بحتة بين ظاهرتين تكونان متعاقبتين بشكل مألوف في شعورنا.

والحكم الثاني: إذا قلنا إن الشمس هي التي تسبب في حرارة الصخرة. فنحن هنا إنما نقدم حكماً تجريبياً يقوم على الربط الموضوعي بين مفهوم أشعة الشمس ومفهوم حرارة الصخرة. ورغم أن الحكم الأول ليس فيه من قيمة إلا في نطاق الحس الذاتي، فأن الحكم الثاني فيه قيمة موضوعية ضرورية تكون صادقة في كل شعور.

أما كيف تكون الأحكام التجريبية ضرورية من ناحية، وكلية من ناحية أخرى. فوفقاً لرأى كانت بأنه لا يمكننا أن نستخرج من المحسوس إلا المحسوس. وكذلك من الجزئي والعرضي. وبالتالي فإن المنطق العام يكون قاصراً عن إعطاء حكماً تجريبياً طالما كانت مهمته محصورة ضمن نطاق تحليل الواقع بغية استخراج المفاهيم أو التصورات المطلوبة منه، دونما أن يكون في مقدوره أن يستخلص من تلك المفاهيم أية معرفة موضوعية جديدة.

ولذا فإننا سوف نتعرض للخل فيما إذا اعتبرنا إن أي موضوع ما يكون علة أو جوهر. لأننا قد تجاوزنا حدود الفهم لذلك الموضوع. علاوة على أن أحكام العلة والجوهر هي ليست أكثر من تأليف أو تركيب يقوم به الذهن في عملية التفكير. بينما أية عملية منطقية أخرى لا تعدو عن كونها تحليل عقيم وحسب.

ومن هنا يصل كانت إلى فكرة الحدوس الحسية والخبرات والتجارب التي هي عمليات تأليفية وتركيبية تكون مترابطة ومنسكبة في موضوعات هذا العالم. ومع ذلك فعندما يتناول المادة والصورة فإنه يفرق أيضاً فيما بينهما. حيث أن مفاهيم الفكر- الصورة هي غير معطيات الإدراك الحسي- المادة.

فالمادة هي ما يقابل الإحساس في صميم الظاهرة، إنها موضوع الإدراك الحسي. أما الصورة فهي المبدأ الباطن في الذات العارفة. وعليه فإن التفرقة بين المادة والصورة في المعرفة إنما تعتمد أصلاً على التميز بين العناصر الحادثة أو العرضية المتغيرة في حدسنا الحسي.

والعناصر الضرورية الكلية الباطنة في صميم حاستنا. يقول كانت أن المادة والصورة هما معنيان عامان يشكلان الأساس لكل تصور . نقد العقل المجرد، ص 280 . وعليه إذا كانت الصورة تمثل أولياً باطنياً في الحس، فإن المادة تمثل وجوداً خارجياً في العالم الواقعي.

ورغم موضوعية الواقع الخارجي التي يسلم بها كانط، إلا أنه يعتبر الزمان والمكان من تأليف العقل، إذ ليس لهما من وجود ذاتي مستقل. بل هما صورتان أوليتان يركبهما الذهن من بين مختلف المعطيات الحسية التي ترد إليه من الخارج. فليس لهما جوهر أو عرض أو رابطة أو أي شيء آخر يجعلهما قائمان ذاتياً في الواقع الخارجي.

الوجود يرى كانط إن الشيء في ذاته ولا يمكن سبر غوره. فهناك وجود موضوعي واقعي بالخارج. وكذلك وجود ذهني عقلي بالداخل. وكما رأينا في نظرية المعرفة بأن العقل البشرى يستوجب مادة تقدمها إليه الإحساسات. ولذا فإن المعرفة الإنسانية تفترض وجود أشياء أخرى غير الموجودات المفكرة حيث تكون المصدر للإدراك الحسي والذي تستلزمه كل معرفة.

وعلى أساس هذا المبدأ ينص كانت على استحالة الانتقال من الشيء الظاهر إلى الشيء ذاته.

والسبب الذي يمنع حدوث هذا الانتقال حسب تصوره يكون في عجز قيام العلم الذي يكون موضوعه وجود من حيث هو موجود .

وكل الذي يمكن إنجازه هنا هو التميز بين هذين العالمين في سبيل حل التناقضات الموجودة فيما بينهما لا أكثر. ونتيجة لهذا الموقف الفكري يتناول كانت مُلكة جديدة أخرى يضيفها إلى مُلكتي الحدس والفهم، ألا وهى مُلكة المبادئ أو العقل. حيث أن هناك مُلكة العقل تسعى بواسطة الأفكار إلى تحقيق الوحدة المطلقة للتجربة. وبذا يتوجب علينا التمييز بين قوتي الفهم والعقل.

فالأولى تخص مُلكة القواعد. والثانية تخص مُلكة الأفكار. وإذا كان الفهم يحتاج إلى المعقولات بغية تحقيق وحدة التجربة، فأن العقل يحتاج إلى الأفكار بغية تحقيق وحدة المعقولات.

وهذه التفرقة يعتبرها كانت مهمة جداً. ذلك لأنها توضح لنا الفواصل بين نطاق المبادئ الخالصة للمقولات. وبالتالي نجد إن تصورات الذهن تكون قطعاً غير مساوية إلى تصورات العقل. وعليه لا يمكننا الانتقال من عالم الظواهر إلى عالم الأشياء في ذواتها. إن فكرة العالم عند كانت تكون في مجموع المطلق لشروط الظواهر أو العلة المطلقة بالنسبة إلى سائر العلل الطبيعية.

ولذلك يشير إلى إن الإنسان هو واحد من مظاهر العالم المحسوس. وبالتالي هو علة واحدة من علل الطبيعة التي تكون وفقاً إلى القوانين التجريبية . المصدر السابق ص 472. أما فكرة الكون فحسب رأى كانت إن الكون هو الوحدة المطلقة في بلوغ سلسلة الظواهر لا أكثر.

ويتناول مقولات: الكم والكيف والإضافة والجهة، كأداة يوضح فيها تحديد شكل أو قائمة الأفكار الكونية. ويؤكد على أن العقل في اعتماده على الأفكار في الفهم، فإنه لا يصوغ تصوراته هكذا من تلقاء نفسه، بل يستند إلى الأفكار التي تبدو كأنها هي المقولات نفسها مطلقة من حدود التجربة.

والدافع الذي يجعل العقل أن يخترع قائمة الأفكار الكونية، لأنه يريد إنهاء التسلسل اللانهائي بين الظواهر. إن الكون وحدة كاملة في فكرة عامة فقط، وليس كما للوحدة في الحواس . ولذلك ليس بمقدورنا أن نستنتج من كميته كمية ارتجاعية ونحدد الواحد منها بواسطة الأخرى حسبما يقول كانت. بل يتوجب علينا أن نخترع أولاً معنىً عاماً لكمية العالم بواسطة كمية الارتجاعية التجريبية.

وبما إن الوجود ليس مُعطى كلياً بواسطة أية حدس، لذا فإن كميته لا يمكن أن تعطى قبل الارتجاعية.

الماوراء

ينص كانت على إن موضوعات أو قضايا خلق العالم والنفس والله والملكوت العلوي وكل ما يتعلق بالماورائيات، إنما هي تصدر من تكوينات الفكر البشرى لا غير. كما وإن العقل عاجز عن إثبات أو إقامة البرهنة عليها لكونها تخرج عن نطاق الظواهر.

وبما أن طبيعة العقل فيه نزعة ماورائية ميتافيزيقا ، وإن الطبيعة نفسها هي التي غرست فيه هذا النوع من النزوع، لذا فإن هذا الأمر له دوره في الحياة الإنسانية حيث يهدف إلى تجاوز حدود التجربة ليطلق العنان إلى امتداد الفكر في الماوراء.

في كتابه نقد لأي مستقبل ميتافيزيقي الطبعة الإنكليزية ص 18 وما بعدها، يتساءل كانت قائلاً: إن الماورائيات التي تحتفظ بمكانها في العلم، هل هي حقيقة في الوجود؟ هل يمكننا أن نقول: هذه هي الماورائيات أدرسها وستقنعك بعدم إلغاء حقائقها؟ ... وكم هو العلم ممكناً؟ وكم بمقدور العقل أن يحقق؟ ... إن معرفة الكائن الأعلى الله ومستقبل الوجود، هي مستخرجة من مبادئ العقل الخالص .

ويهدف كانت من هذا الموقف لكي يبين بأن الماوراء زيف لا حقيقة له. بل إن تفكيرنا الماورائي هو الذي يصور لنا الممكن بأنه شيئاً حقيقياً. ومن هنا فإن مضمون الفكرة الموجودة لدينا عن الله بأنه كائن واحد، سواء تصورنا الله موجوداً أو غير موجود. فإن فكرة الله كونه موجوداً ليست أهم شأناً من فكرة الله كونه غير موجود. إذ أن التجربة هي وحدها التي تحكم على ما هو واقعي أو ممكن. وبذا فإن تصورنا عن الموجود الكامل لا يكفى وحده للحكم بوجود مثل هذا الموجود طالما أن التجربة التي تقوم على الحدس أو الظاهر المحسوس لا يقع هذا الموضوع ضمن نطاقها.

وهكذا يؤكد كانت على التفرقة بين منزلة الفكر الذي ينزع إلى الماوراء نظرياً، وبين منزلة الوجود المحدد واقعياً. أما مسألة الانتقال من الواقع التجريبي إلى علة أولى ماورائية. فإن كانت يعتبرها قضية غير مشروعة. ذلك لأن مبدأ العلية أو السببية توجب أن يكون لكل ظاهرة سبباً، لا أن تكون كل الأسباب في سبب واحد. غير إن المبدأ النظري للعقل يتجاوز العالم الحسي ليصل إلى المسبب الأول لكي ينهى سلسلة العلل والمعلولات. ولذلك فنحن دائماً نشعر بالحاجة إلى البحث عن موجود أول هو الكائن الضروري الذي يوجد بذاته وعلة ماهيته. ولكن كانت ينبه من خطورة فكرة الضرورة اللامشروطة لأنها الشفير الذي يتهاوى بها العقل.

إذ ليس بمقدورنا أن نزيل من أذهاننا دوامة الفكر الذي ينتابنا إذا ما تصورنا إن الموجود الضروري الله الذي نحسبه من أعظم الموجودات الممكنة يتحدث إلى نفسه قائلاً: أنا موجود منذ الأزل وإلى الأبد، ولا يوجد شيء خارج عنى إلا بخالص إرادتي. ولكن من أين أنا وجدت نفسي؟ وهنا يكمن العجز التام للعقل البشرى عن الإحاطة والإجابة بهذه القضية وفقاً إلى البرهان المطلوب والواجب لها.

ومع ذلك فإن كانت لا يرفض أو يدحض الماورائيات التي يراها قضية مشروعة، ولكن من مبدأ نظري لا علاقة لها بالتجربة. صحيح أن الرياضيات هي علم نظري أيضاَ يتصل بالتجربة، إلا أن مفاهيمها تنطبق على الحدس، بينما العقل في بحثه بالماورائيات فإنه يكون مًرشداً لنفسه بنفسه.

وعليه فإن العلم الماورائي له خصوصيته المستقلة عن بقية العلوم الأخرى.حيث يرتكز على دراسة مبادئ العقل وبيان طرق استعماله وفقاً لما تحددها له تلك المبادئ. بيد إن مشكلة الماوراء حسب رأى كانت بأنها تنشأ في العقل عندما يقيم علاقة بين الظواهر التي يعرفها من ناحية. وبين الشرط الأسمى الذي يجهله من ناحية أخرى.

كما وإن هذا الترابط بين ما هو معلوم وآخر مجهول، فإنه يحفزنا لتحديد الصلة لدينا فيما بينهما.

هذا ويرى كانت بأن النقد يُعتبر المقدمة الضرورية من أجل قيام علمية الماوراء والتي تجعل العقل يحرز التقدم ويحقق حاجاته منها. ولذلك فهو ينتقد منهج التماثل في البحوث الماورائية، لأنه لا يؤدى إلى قيمة مطلقة أو برهان موضوعي.

رهان الأخلاق

يؤمن كانت بأن الأخلاق هي التعبير عما يجب أن يكون، وإن قوانينها مفروضة على العقل فرضاً، كونها نظاماً مطلقاً لا محيص للإرادة منه.

وبما أن هذا النظام الأخلاقي غالباً ما يكون على الضد تماماً مما تتطلبه منا دوافعنا الحسَية. لذا فإنه يمكننا أن نستنتج ضرورة أننا نمتلك الحرية وأن عقلنا بمقدوره أن يصل إلى تحديد بعض الموضوعات والقضايا الماورائية.

فالأخلاق إذن هي التي تكشف لنا عن الموجود الأسمى الله القادر على تحقيق الكمال الذي يتطلبه منا القانون الأخلاقي. وكذلك تكشف لنا الأخلاق بأن خلود النفس شرط ضروري في تحقيق الغايات الأخلاقية للإنسان. وهكذا.

ولكن لا تحسبن كانت يقف عند هذا الحد من الأخلاق. بل إنه يرى إذا كان العلم اليقيني القائم على ما تحققه التجربة، فإنه لا يصل إلى الموضوعات العالية التي تقع وراء نطاق التجربة. لذا فإنه يقتصر على الظواهر المحسوسة فقط.

وإذا كان قانون الأخلاق في الإيمان أو الاعتقاد يوصلنا إلى ذلك المتعالي المطلق، فإن الإيمان الخلقي ليس فيه أية قيمة موضوعية قط. لأنه قد نؤمن بالله من مبدأ أخلاقي ولكن ليس باستطاعتنا القول بأن الله موجود.

وفى مؤلفاته المترجمة للإنكليزية: قاعدة لميتافزيقيا الأخلاق و محاضرات في علم الأخلاق وكذلك الفلسفة الخلقية يؤكد كانت بأن علم الأخلاق لا يؤسس الأخلاقية الموجود، وإنما يكون لاحقاً لها باعتبارها واقعة عملية سابقة عليه. ولذا فإن العقل العملي هو الذي يبين لنا بوضوح جلي ضرورة التسليم بمصادرات الأخلاق والتي هي من مسلمات العقل العملي أيضاً.

وبذلك فإن اليقين الأخلاقي هو الذي يوصلنا إلى التسليم بالموجود الأسمى الله رغم إن هذا اليقين في الأيمان الخلقي خالي من كل قيمة موضوعية.

أما الكلام عن مبادئ الأخلاق، فإن كانت يعتبر الإرادة الخيرة هي الوحيدة التي يمكن أن تكون خيراً بذاتها من دون سائر الأشياء التي نظن إنها خيرات في ذاتها. فالذكاء والمال والشجاعة والسلطة والشرف وغيرها من مواهب الطبيعة فهي تكون عرضة للاستخدام في عمل الشر تماماً مثلما تكون في عمل الخير، وذلك بحسب السيطرة على النفس.

باستثناء الإرادة الخيرة لأنها تستمد خيريتها من نفسها كونها الشرط الضروري الكافي لكل أخلاق. وحتى في حالة عدم نجاحها في تحقيق الغاية التي تبتغيها، فإنها تبقى جوهراً ساطعاً بذاتها لأن النية مركزها الصميمي دونما أن تستمد مما تحققه من مقاصد أو غايات مادية. فهي إذن وبكل وضوح خيرَة بذاتها لا بعواقبها.

ومثلما يفرق كانت بين مفهوم الواجب الذي هو قانون الإرادة الخيرة وبين العفوية المباشرة التي تصدر من الفرد. فإنه يفرق أيضاً بين الأخلاقية والقانونية.

فالأولى تعنى أن يتصرف الفرد بحسب ما تنص عليه لوائح القانون أو الشرع. والثانية تكون وفقاً لما يتصرف به الفرد والتي تأتى مطابقة للقانون دونما أن يكون لهذا الفاعل أي ميزة خلقية في ذلك. فالقانون يأمر بعدم الاعتداء على الآخرين.

وطالما كان الفرد ملتزماً بذلك فهو هنا يعمل وفقاَ للقانون. بيد إن الذي يمتنع عن تلك الأعمال المؤذية قد يكون بسبب احترامه للقانون أو خوفه من العقاب أو مخافة الله أو تأنيب الضمير الخ.

وبالتالي لا يعد هذا الامتناع فعلاً أخلاقياً. بينما الذي يمتنع نتيجة إلى وعيه للواجب الذي يحتم عليه أن لا يعتدي على الآخرين، فهذا هو الفعل الأخلاقي تماماً.

إن القيمة الأخلاقية حسب تصور كانت إنما تكون كامنة في مبدأ الإرادة ومهما كان نوع الفعل الصادر من الفاعل الأخلاقي. فالتعاطف الشعوري والمشاركة الوجدانية وغيرها لا تجعل لها أدنى قيمة أخلاقية إلا إذا كان الفاعل على وعى تام بمبدأ الإرادة الذي يتوجب عليه بما يصدر عنه لأي فعل من الأفعال.

وبجانب بمبدأ الإرادة هناك مبادئ الواجب و الأوامر . الأول هو ضرورة فعل الاحترام للقانون وله ثلاث سمات:

أ- إن الواجب هو صوري يكون هو والعقل الخالص شيئاً واحداً.

ب- يهدف الواجب إلى تحقيق السعادة واكتمال بلوغها.

ج- إن الواجب قاعدة لا مشروطة للفعل.

أما الثانية ففيها نوعين من الأوامر: الشرطية والمطلقة. الأولى مقيدة تجبرنا بالخضوع إلى الوسائل اللازمة من أجل بلوغ الغاية المعينة. مثلاً: عليك أن تكون صادقاً دائماً لتكسب ثقة الناس. فهي هنا ليست خيراً إلا بالوسيلة أو الواسطة بالحصول على شيء ما.

والأخرى: قطعية ليست مقيدة بأي شرط كان. وكل الذي يلزمنا فيها هو الأمر الضروري في حد ذاته، دون التوقف على النتيجة أو الغاية المعينة. مثلاً: قل الحق دائماً أو عليك بالخير. فهي هنا تعتبر خيراً في ذاتها.

ويضع كانت ثلاثة قواعد أساسية تخص الأوامر المطلقة هي:

القاعدة الأولى: أعمل دائماً حتى يكون بمقدورك أن تجعل من قاعدة فعلك قانوناً كلياً للطبيعة.

القاعدة الثانية: أعمل دائماً حتى تعامل الأشخاص الآخرين في شخصك كغاية وليس وسيلة. فالإنسان هو الموضوع الوحيد للواجب.

القاعدة الثالثة: أعمل حتى تكون إرادتك هي الإرادة للتشريع الكلي. فمن الضروري أن يخضع الإنسان إلى القانون، لأنه هو الذي قد شرعه.

أما موقف كانت تجاه الحرية الأخلاقية، فإنه يشخص هذه المسألة من خلال منظوره في مبدأ الواجب. فالشيء اليقيني الوحيد بشكل مباشر ومطلق إنما هو الواجب أو القانون الأخلاقي.

وبالتالي فإن هذا الواجب لابد وأن يرتبط ب القدرة مما يجعلنا أن نتصور امتلاكنا للحرية التي تعلو على محيط الظواهر. وإلا فإن الأوامر المطلقة وقانون الأخلاق لم يعد لهما ذلك المعنى الحقيقي.

فالحرية الأخلاقية هي عقل الإنسان نفسه كونه عالياً على عالم المحسوسات.

فالعقل هو الذي يخاطب الإنسان باسم القانون الأخلاقي كون هذا الشيء خير وذاك شر.

والإنسان قد يفهم طبيعة هذه الحرية المطلقة بحسب قدرته الموجودة لديه في توجيه ذاته نحو استقلال كلى عن أي معطى تجريبي.

أما قوله عن الأخلاق والدين، فإن كانت لا يقر بأن الأولى تحتاج الثانية. بل العكس هو الصحيح حسب تصوره. فالأخلاق هي مكتفية بنفسها وفقاً لطبيعة العقل العملي. وبذا فهي ليست بحاجة إلى فكرة الكائن الله الذي يعلو على الإنسان. كما وأنها ليست بحاجة على افتراض وجود باعث يخرج عن حدود القانون الأخلاقي.

وعليه فإن الأخلاق لا تحتاج إلى الدين في أية قضية كانت. بيد أن فهمنا لقانون الأخلاق قد يوجب علينا من مبدأ اضطراري أن نفترض الكائن الأسمى الذي هو وحده يضمن لنا قيام علاقة متكافئة بين الفضيلة والسعادة لا أكثر.

نظرية الجمال

ينص كانت على أن الذوق ليس حكماً وجدانياً فقط. بل إنه مبدأ يتصف بالكلية والضرورة معاً. وعليه فإن الحكم هنا يكون ضمن عملية نتجه بها من الجزء المعلوم إلى الكل العام الذي نبحث عنه. كما في حالة الحكم الغائي تماماً.

وهكذا يعتبر كانت أن الجمال والغائية وما يتوقف عليهما من أحكام وجدانية إن هي إلا أنواع أخرى من المبادئ الأولية في العقل البشري. فالنفس عموماً تمتلك ثلاثة قوى أو ملكات هي: الإدراك والشعور والنزوع. كل منها لها دورها وأهميتها في نطاق الأحكام.

وبما إن كانت قد فرق بين الطبيعة والحرية، لذا عمد هنا إلى وضع الحكم الجمالي والغائي كقوة ثالثة تتوسط فيما بينهما. أو بمعنى أدق قد جعل هذه القوة الثالثة أن تعمل على تحقيق صلة الترابط بين العقل والإرادة.

ولقد ركز كانت على تبيان القوة الوجدانية كونها ملكة الشعور باللذة والألم. ولذلك فإن الحجم الوجداني يبدأ بالذوق أو الحكم الذوقي الذي يبين لنا من جانب الكيف إنه ليس حكماً منطقياً عماده المعرفة. بل حكماً جمالياً عماده الوجدان، في الارتياح أو الشعور بالرضا تجاه الشيء الجميل.

وهذا طبعاً غير الارتياح تجاه الشيء الملائم أو الحسن أو النافع. فالأول ذاتي بحت لأنه يحقق لنا لذة نستشعرها عبر حواسنا وحسب. والثاني نقدر ما فيه من قيمة موضوعية معينة. أما الثالث فإن قيمته تتوقف على الغاية التي يساعد على تحقيقها ليس إلا.

إن الجميل هو ما يروق لنا دونما أن تكون هناك من مصلحة خاصة تتصل بغاية ما في طبيعة الإنسان. فالإشباع أو الارتياح الذي يحققه لنا الجمال هو بمثابة شعور خالص بالرضا. إنه الوجدان الحر الذي يكون منزهاً عن كل غرض حسي أو مصلحي. ولها فإن الحكم الذوقي هو تأملي صرف يهدف إلى ربط الجمال بالشعور بغض النظر عن الموضوع. إذ أن مشاهدة قصراً جميلاً مثلاً تبث فينا شعوراً بالارتياح دونما أن تكون لنا فيه أية مصلحة قط.

ليس هذا فحسب، بل أن الحكم على الجميل يبين لنا أيضاً من جانب الكم بأنه لا بتعين مفاهيم العقل ولا يحتاج إلى أي تصور عقلي، فهو موضوعاً لرضا العقل. فالشيء الجميل يكون بالنسبة إلى الجميع ككل.

وهذا ما يجعل الكلية التي يتصف بها الحكم الجمالي تكون على اختلاف جذري عن الكلية التي يتصف بها الحكم المنطقي. فالأخير لا نعرف الكلى منه إلا بواسطة مفهوم أو تصور عقلي. بينما الأول يكون الموضوع فيه محسوساً من جهة. وعاماً بين الناس أجمعين من جهة أخرى.أما كيف يكون هذا الحكم الجمالي الصادر من شخص ما يكون فردياً وكلياً أيضاً.

فإن كانت يرى أن تفهم الكلية على إنها معنى ذاتي بحت. فعندما أقول: أن الوردةَ جميلةٌ فإنني أكون هنا على قناعة تامة في نفسي بأن شعوري الخالص سوف يلقى التأييد الكلى من الآخرين. كما وإن الحكم الذوقي يجب أن لا نفهمه وفق الجانب المنطقي. فإن ذلك سوف يكون جزئياً فقط. وبالتالي لا يتصل بالعام الشامل. وإذن يجب أن نفهم الأحكام الذوقية من مبدأ التفهم بالمعنى الذاتي الصرف.

وهكذا فالمتعة الجمالية وما نصدره من أحكام ذوقية هي في حد ذاتها نتاج التوافق أو الانسجام لقول المعرفة في الذات المدركة. كما وأن الإحساس له مركزه المميز والمهم في تحقيق عملية التوافق هذه. ولذلك يجعل كانت من الإحساس بأنه القدرة الكلية على التواصل. حيث أن الحكم الجمالي يكون ذاتي الطبع؛ إلا أنه قابل للتوصيل، وذلك بحكم الشروط الذاتية الشمولية التي يستند عليها الحكم الجمالي.

هذا ويرى كانت إن صلة الجمال بالأخلاق إنما تتوقف على الفرد من حيث تصرفه السلوكي.

فالاهتمام بالموضوعات الجمالية لا تعنى بالمرة إنها شهادة إثبات لصاحبه بأنه أخلاقي وله ميول حقيقية نحو الخير. إذ كل ما في الأمر إن هذا الاهتمام مجرد أحد سمات الروح الطيبة لا أكثر. فالتأمل بالجمال الطبيعي لابد أن يرتبط بإدراكنا للطبيعة نفسها كونها صانعة ذلك الجمال. وعبر ذلك يكون شعورنا وإحساسنا ذو رقة مرهفة مما ينمى فينا الشعور الأخلاقي.

وهكذا فالجمال مثال الأخلاق طالما الغاية المنشودة تبغي الحكم الذوقي الذي هو كالعقل الأخلاقي. إذ كلاهما يرنو إلى السمو على اللذة الحسية والمصلحة المادية.

أما الجدل والتناقض الذي يدور حول الحكم الجمالي. فيراه كانت بسبب الذوق الخاص لكل فرد. وبالتالي لا يمكن إسناده إلى مفاهيم محدودة، حتى وإن كان حكمه قائماً على أُسس موضوعية. فالأحكام الذوقية لا تقوم على المفاهيم البحتة. وإلا لكانت المناقشة فيها ممكنة. والتناقض يظهر عندما نقرر أن حكم الذوق يستند إلى مفاهيم، بدليل الجدل النقاشي الدائر حوله.

بينما هناك تناقض حقيقي في الحكم الجمالي، بل ظاهري يمكن حله وذلك بالنظر إلى الماوراء بالبحث في مبدأ التعالي عن الحواس، في مركز الالتقاء لكل ملكاتنا الأولية، وبهذا المسلك نكون قد أنجزنا تحقيق توافق العقل ذاتياً.

تقييم عام

لقد عرضنا بالسرد الموجز لمجمل نظريات كانت الرئيسة. فهو صاحب فكر فلسفي يمتاز بالنقد التفصيلي لمختلف القضايا والمسائل النظرية والعملية التي لا تزال أثرها في المدنية الغربية. وما العودة إليه في المدرسة الكانتية الحديثة مابين 1870-1920 إلا دليل على مدى أهمية منهجه النقدي. ولكن مهما كان النظام الفلسفي الذي وضعه كانت متماسكاً فإنه لا يخلو من المآخذ وهذه هي طبيعة الفكر الإنساني في كل زمان ومكان.

في نظرية المعرف رفض كانت فكرة ديكارت القائلة أن المعارف الأولية مغروسة بالعقل البشرى بشكل فطري. إذ جعلها كانت تكون شرطاً أولية ضرورية. فالعقل هو الذي يؤلفها ويركبها أولاً وآخراً. أي إن كانت هنا قد تجاوز شكية ديكارت جملة وتفصيلا. وبالتالي ساعد هذا المبدأ الواضح على تخطى مسألة الابتداء من الشك المطلق بغية الوصول إلى اليقين المطلق. فالعلوم الرياضية والطبيعية لا تحتاج لمثل هذا الابتداء قط. وإذا أصاب كانت هنا فإن الفضل يعود إلى تقدم العلم الطبيعي على يد غاليو غاليلي وأسحق نيوتن وغيرهما.

أما في مسالة كيف تكون الأحكام التجريبية ضرورية وكلية في نفس الوقت. فإن جواب كانت جاء ضد الفلاسفة التجريبيين وخصوصاً جون لوك وديفيد هيوم. حيث أثرت عليه نزعته النقدية في ضبط الحقيقة. إذ جعل المفاهيم تكون أولية سابقة بشكل مطلق على التجربة وليست مشتقة منها. وهذه الحدة في الموقف قد اضطرته إلى التنكر لأي حدس عقلي يمكن أن يكون. على أساس إن التجريد الذي نحققه في نطاق المحسوسات لا يعطينا إلا ذاك المحسوس فقط، وفقاً لعملية خلق صورية من التجربة لا أكثر. ومع ذلك فإن الفارق بين كانت وهيوم هنا، فإن الأخير أرجع المفاهيم إلى التجربة لأن بداية موقفه تتفق مع كانت. أو بمعنى أدق إن الأول اتفق معه في بداية الشطر ثم عارضه في آخره.

وعن إقرار كانت بأن الشيء في ذاته. فإنه قد قسم الوجود إلى جانبين متقابلين: الأول عقلي داخلي، والثاني موضوعي خارجي. وبما إنه يرى استحالة كشف ذوات الأشياء، لذا فقد خلق ثنائية أبدية لا العلم ولا التقدم يمكن للإنسان من خلاله أن يحقق شيئاً ما تجاهها. وهذا إجحاف بحق العقل الذي قدسه كانت. ولذلك نجد مواطنه جون فخته أول من سارع إلى إصلاح الخلل الكانتي. فالحقيقة واحدة لا يمكن شطرها وهى إن الإنسان والطبيعة وجهان لعملة واحدة.

إن توكيد كانت على أن العقل هو الذي يؤلف الماورائيات حيث لا وجود حقيقي لها بالخارج. فهنا يحق لنا أن نطرح بعض الأسئلة: لماذا العقل يخلق فكرة الله لا العكس؟ ولماذا الطبيعة تغرس في العقل هذا النزوع الماورائي لا الله؟ ومثلما نجعل الواقع العياني المحسوس قائماً بذاته ولا سبيل لسبر غوره. فلماذا لا نجعل نفس الأمر تجاه الله كونه قائماً بذاته ولا سبيل لكشف ذاته بل ندركه إدراكاً؟ ولماذا بسلم بالوهم العقلي في الماوراء ونحجب عنه صدق قدرته الذهنية في ذلك؟

ثم ما المانع من أن يكون الكائن الضروري أو الموجود الأسمى حقيقة يدركها العقل كوجود ما ورائي بدلاً من أن يؤلفه ذهنياً! أن موقف كانت هنا كالذي ينظر في المرآة فيرى ذراعه اليمنى تقابل ذراعه اليسرى من صورته المعكوسة، فيحسب هذا التصور الواقعي زيفاً. لأن أصل صورته الحقيقة ليست بالمرآة، بل بشخصه كونه الرآئي. إن كانت يؤمن بوجود الله ولكن من مبدأ أخلاقي لا حقيقة ما ورائية. وشتان بين الإيمان بوجود الله الخالق وبين جعله كائن ضروري المنشأ من تأليفات العقل البشري.

أن الله والملائكة وكل ما يقع في الماورائيات هي حقائق موجودة وليست أفكار ذهنية أو صوراً عقلية خالصة. ويمكننا البرهنة على ذلك بأن نعكس التصور الكانتي نفسه. فبدلاً من أن نقول إن العقل يؤلف الأشياء، نقول إن الله يخلق الأشياء. بلا ريب إن نزعة كانت النقدية مشحونة برؤية صورية حادة. إذ حتى في نظامه الأخلاقي وتركيزه على القانون الأخلاقي فإنه قد أهمل قيمة التجربة. حيث جعل الأخلاق جملة وتفصيلاً تقوم على الإيمان أو الاعتقاد فقط. رغم إن هذا الإيمان الأخلاقي ليست فيه أية قيمة موضوعية البتة. وقوله عن الدين والأخلاق، فيكفى أن بورد قول مواطنه أرثر شوبنهور : إن الأخلاق الكانتية هي نفسها أخلاق الدين المسيحي ولكن في صيغة مستترة.

عموماً فإن نظرية الجمال عند كانت، فإن كل مطلع عليها سوف ينجذب لسبك محتواه فكراً وموضوعاً. ولا عجب أن يذهب البعض إلى القول بأن كانت رائد الفلسفة الجمالية. ولعل من أبرع ما أقدم عليه كانت هو في الحكم الجمالي الذي يعزوه إلى الشعور الوجداني لا إلى الإدراك المعرفي. أي إن نطاق الجمال منفصل عن نطاق العقل. بيد أن كانت رويداً رويدا يعود ليجعل الحمال مركزياً يتصل بالأخلاق. ومن ثم يسحبه للمنطق ليستقره بالعقل في نهاية المطاف. ولا غرابة في ذلك فهو رائد العقلانية أيضاً.

* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في لندن