لأقل إنه جيد ورائع ، شجاع وكريم ، ومناضل وعربي أصيل ووطني عريق ، وسياسي محنك ، وابن حلال ، وأمين ، ومؤتمن ، يا ما ويا ما سمع مثل هذا المديح ، ونحن شعب نحب المديح، لكن لماذا تخلى عنها دفعة واحدة ؟
]نعرف.. [ أنه كان من الشعب وإلى الشعب وصاحب نظريات هامة ! ويأكل من أكل الشعب ، ويمشي في شوارع دمشق على رجليه ، ويزور أحياءها الفقيرة ، كالمعذبين في الأرض، وفجأة طل علينا من قصر في باريس ، فما الذي جرى لهذا الأصيل ؟
هل ملَّ حياة الفقر ؟ هل احتاج المال ؟
أو ليكن السؤال بشكل آخر : هل حاسبه الشعب أو طالبه بالكلام ، أو طالبه بالدفاع عنه ؟
أو سؤال ثالث : هل ملَّ الحياة في الأحياء الشعبية وذهب ليخاطب الشعب من قصور باريس ؟
هل يجيب عبد الحليم خدام؟
هل..هل.. هل .. هل..؟؟
***
ظن أن ما يقوله لا يعرفه أحد ، نبشره ، بأن للشعب حاسة اسمها حاسة الشعب ، وكل لص سرق منه ليرة واحدة يتحسسها ، وما يحاك في السر ، أو يدبر ، الأسرار نفسها تنقل الأسرار للشعب ، وكل نكتة تقال أو إشاعة أو كتابة على الجدران ، أو عاطل عن العمل أو فقير أو طفل لم يذهب للمدرسة ، هي حاسة الشعب القوية التي تتسلل إلى القصور والخزائن السرية والأرقام المالية التي تهرب للبنوك في الخارج ، حاسة الشعب تتحسس المخبوء والمهرب والمغيب والظالم والمظلوم ... يا لها من حاسة .
***
خدام طاح أو طوحه بحفرة ، طلبوا منه أن يجرب مقابل لوثة ، فجرب وطاح ، وما وصلنا عبر وسائل الإعلام هو صوت لرجل أُطيح به ، وصدى رجل تاه ، يا له من تيه ! فيه فوائد وخسائر ، غنائم وفقد..
هو من القاع يصرخ ، يستنجد ويتأوه ، انكسر صوته ، انكسرت أمانته ، وسال الدم من ضميره ، تقيح لبه ، ومن طوحوه تركوه كالعادة - هم يتركون أزلامهم- والخيانة مرة واحدة لا مرات ، والسرقة هي المرة الأولى ، لا مرات تالية.
***
كنت أظن أن المسؤول الاشتراكي كما قرأت في كتب المدرسة ، يأكل مسبحة وفلافل ، ويسهر على جوع الشعب ، ولا ينام حتى يطمأن أن الرعية بخير ... ، ويقطف الزيتون كما كنت أقطفه ، ويفلح الأرض كما كنت أفلح ، ويزق على كتفه الماء بالجرة كما كنت أزق ، واكتشفت أنني أخدع نفسي عندما زرت دمشق لأول مرة في حياتي عام 1981م ، ومرَّ موكب لعبد الحليم خدام من أمامي في شارع المزة ، انبهرت و خفق قلبي ، وقال أخي : إنه لص .
فطلبت منه أن يسكت خشية الـ ..
***
ظن أنه مهما فعل عظيم و ابن كار وشيخ الساسة ، ظن أن له أتباعا ومريدين ، وصاحب نفوذ وجوقة تمجده سرا وعلانية ، وفجأة قرر أن يتحقق من ظنونه ، فخرج إلى الشارع ، خلع بنطاله وبال ، لم يتكلموا ، وتفرجوا ، لكنهم سخروا منه جميعا خوفا من ضرره وكتموا سخريتهم ، وفي مرة تالية ، بال أمام ،و(......) ، فلم يتكلم أحد وفي مرة ثالثة ، استعمل علانية مخارجه كلها ، فصرخ طفل وقال : عيب ، عيب .. ، فقتله بأعصاب باردة .
وعندما أراد أن يفعل الشيء ذاته وهو خارج السلطة ، قالوا بصوت عالٍ :
- إنه مجنون .
***
الحقد سمة يتسم بها الأفراد ، وليست سمة اجتماعية، وإن أظهر خدام أعلى درجات الحقد ، ضد مجتمعه ، فلن يبادله هذا المجتمع الحقد بحقد ، لكنه سيلتف حول بعضه البعض ويتكاتف ويتعاون في مواجهة أخطار حقد الآخرين عليه ، وهو ليس فقط قادر على ذلك، بل أقدر على مواجهة الكون بأٍسره إذا استعداه .
***
قصير ، لا تشبه عيناه إلا عينيه ، مثالي وهو خلف الزجاج الأسود لعربة فاخرة من موديل عامها ، أكفه تلوح بامتياز لجهة أخرى ، ولجهة أخرى رتب أمورا كانت مقدمة لمفاجأة غير سارة لأولئك الذين لوح لهم بأكف فارغة ، ولم يكن للجرح بلسما كما توقع أحد الرعاع وقال فالج لا تعالج ، وقع الله لا يقيمه .. ، وأنا كاتب هذا المقال - ذكرته بسوء في أحد أعمالي الأدبية التي نشرت قبل عام 1998 وتوقعت أن تسوقني أجهزة الاستخبارات للتحقيق بشأن ما كتبت ، وانتظرت فترة، ولم يأت أحد لأكون بطلا قوميا كما همس لي أحد الزملاء ، وهمست لأديب آخر لقد تطورنا ، ويوجد هامش من النقد والحرية ، ولم يتدخل أحد فيما كتبت ... قال ساخرا : يا عزيزي ، المخابرات مشغولة في قضايا خارقة وأصبحت أكثر خبرة وحداثة في عملها، ولا تقرأ مقالاتك أو مقالات غيرك ، ومصالحها تطابقت مع مصالح اللصوص ، وقال أشياء لو تمكن من قولها في العلن آنذاك لكنا بألف خير أو على الأقل لما صدمنا خدام مثل هذه الصدمة ..) تظاهرت أنني لم أفهمه ، وذكرت مسؤولا آخر بالاسم في مقال ، ولم يسألني أحد ، فاستغربت وحسبت أن الإصلاح على الباب بالفعل ، فتشجعت وأعددت مع زميلة صحفية ملفا كاملا كلفنا جهودا استمرت أشهر ، وهو ملف في غاية الأهمية وقتها، لكن رئيس التحرير رفضه ، وقال بالحرف الواحد يزعلوا منا.. وقالت الزميلة: يخاف على كرسيه لكن السيد رئيس التحرير طارت منه الكرسي وطار المقال وطارت جهودنا وحماسنا ، وأشياء أخرى لو عُمِل بها في حينها ، لكنا..!!!
قلنا وقلنا وتحاورنا في ظرف كان الحوار والحماس والجدية والرغبة والطموح عناوين ليومياتنا .. لكن..
وتبين لي لاحقا ، ليس بالضرورة أن تقرأ المخابرات مقالك ، بل أن تهمل أفكارك هو أشد من العقاب ، هو قتلها ، وقتل الأفكار أخطر بكثير من قتل الأجساد ، أحسسنا بفراغ ، وعناوين دون سطور ، وتفرقنا في أنحاء العالم بدءا بسدني وانتهاء بشيكاغوا ، وضع زميلي والموجود حاليا في كندا ، عنوانا عريضا لما يجري ، وأسماها مرحلة الفوضى أو اللايقين ودافعت عن الفوضى الذي وضع قانونها هزنبرغ عام 1927 ، وقلت له الفوضى هي الحقيقة الوحيدة، وكتبت كتابا بعنوان ميكانيكا المعرفة حول تحولات السلطة والمجتمع والمعرفة ، ومستقبلنا في الفضاء الكوني ، ومن وحي الأزمة كتبت كتابا آخر بعنوان أمريكا الحب ، النار عام 1999 ، وقلت فيه بأن الاستثمار في الحب أرخص وأكثر مردودا من الحرب وقدمت منه نسخة للسفير الأمريكي في دمشق ، وأعود وأكرر لكل العاملين في الشأنين الاجتماعي والسياسي في بلدنا الحبيب وخارجه بأن الاستثمار في الحب أرخص وأكثر جدوى ، وهذا ما لم يتعلمه خدام خلال عمله الطويل ، ولم يختم في داخله الوطن حبا ، وأتمنى أن نتعلم في حاضرنا مما لم يتعلمه خدام ، وبمحبة أقول: من لم نسلم منه الآن ، فلن نسلم منه في المستقبل، ومن هو سيء أحيانا فهو سيء دائما ، ومن يسرق مال الوطن على الشعب أن يحاكمه ولا ينتظر ، فكل يوم يمر ولا نحل مشاكلنا سيكلفنا عقودا من التعب والجهد المضني حتى نتمكن من حلها - حينها لن ينفع الندم - ولدينا كافة الإمكانات وشروطها الذاتية والموضوعية للتقدم
قالوا جبناء ، لا نتكلم ، وقلت : لسنا جبناء ، وتكلمنا ، ووضعنا برامج وخططا للمستقبل ، وبشجاعة ذكرت أسماء أخرى لا يزالون يسرقون حتى هذه اللحظة منهم مدير الشركة الخماسية الذي كتبت عنه عملا مسرحيا كبيرا ، بعنوان الشركة رقم -5- عام 1999، وهو لا يزال على رأس هرم من اللصوص ، وقتها اشترى كل النسخ وحرقها، نحن نتكلم ولا نخاف حتى في أشد الظروف قسوة وخوفا ، قلنا ونقول ، وحاسة الشعب تسجل ولا تنسى ، ومهما حاولت قوى تعطيلها فلن تفلح .
***
قالت جدتي ساخرة : لاك.. لاك.. مين عم يحكي .
وقال بائع خضار : لو أعرف أن خدام يأكل من هذا البقدونس لأطعمته لحماري .
وقال تاجر : خدام بورصة خاسرة.
وقال كاتب : هو بطل لقصة قتل نفسه .
وقال ممثل : أراد أن يُبكي الناس ، فضحكوا عليه .
وقال ساخر: هه، تشبهه بالحمار ، ظلمت الحمار!
***
كاتب سوري
assadm20005@gawab.com