آخر الأخبار

كيف تم اعتقال حسني الزعيم ومحسن البرازي وإعدامهما

حول وقائع هذه الحادثة نثبت هنا بعض ما جاء في مذكرات الضابط فضل الله أبو منصور الذي داهم مقر حسني الزعيم في حي ابي رمانة ليلة 13-14-آب1949 فاستسلم الحرس بتواطؤ رئيسهم مع رجال الانقلاب.

يقول فضل الله ابو منصور في كتابه اعاصير دمشق:

مشيت الى باب القصر يرافقني ادهم شركسي والرقيب فايز عدوان، وقرعت الباب بقوة فلم أسمع جوابا وكررت القرع ثانية وثالثة والليل ساج والهدوء شامل والصمت تام، وواصلت قرع الباب بشدة، فاذا بالانوار الكهربائية تشع واذ بحسني الزعيم يطل من الشرفة صائحا:

- ما هذا؟.. ما هذا؟.. من هنا؟.. ماذا جرى؟

أجبته بلهجة الامر الصارم:

- استسلم حالا، فكل شيء قد انتهى، والا دمرت هذا القصر على رأسك.

فانتفض وتراجع مذعورا، فعاجلته بوابل من رصاص رشيشتين الا انه دخل القصر وتوارى فيه.. فأطلقت الرصاص على باب القصر حتى حطمته ودخلت واذا بحسني الزعيم ينزل من الدور الثاني وهو يرتدي بنطلونه فوق ثياب النوم وزوجته وراءه تصيح:

- حسني، حسني، الى أين يا حسني؟

وقبل ان يتمكن من الرد على زوجته دنوت منه واعتقلته، ثم صفعته فقال محتجا:

- لا تضربني يا رجل. هذا لا يجوز، احترم كرامتي العسكرية.

أجبته بصوت متهدج:

- أنا أول من يحترم الكرامة العسكرية، أما من كان مثلك فلا كرامة له، أما أقسمت للزعيم أنطون سعادة يمين الإخلاص وقدمت له مسدسك عربونا لتلك اليمين ثم خنته وأرسلته الى الموت؟

قال:

- والله يا بابا انا برىء... اتهموني بذلك ولكنني برىء.

فانتهرته قائلا:

- هيا بنا، اخرج، لا مجال لكثرة الكلام.

مشى حسني الى الخارج صاغرا وهو يحاول ان يكبت الخوف الذي أخذ يبدو بوضوح في قسمات وجهه وحركاته المرتبكة، وكنت في ثياب الميدان، وقد أرخيت لحيتي السوداء فلم يعرفني، وحسبني شركسيا، فأخذ يخاطبني باللغة التركية ولكنني أمرته بالتزام الصمت، ثم أدخلته الى المصفحة التي كانت تنتظر على الباب الخارجي وسرت به صوب المزة.

كان حسني في المصفحة ساهما تائه النظرات، كأنه لا يصدق ما يرى ويسمع... كأنه يحسب نفسه في منام مخيف... ثم تحرك وتفرس في وجهي فعرفني، وتظاهر بشيء من الارتياح ثم قال لي:

- يا فضل الله أنا بين يديك، معي ثمانون الف ليرة، خذ منها ستين الفا لك ووزع عشرين الفا على جنودك وأطلق سراحي، دعني أهرب الى خارج البلاد.

فسألته:

- من أين لك هذه الثروة؟ ألست أنت القائل انك دخلت الحكم فقيرا وستخرج منه فقيرا؟ كيف انقلب فقرك ثراء؟

فأخذ يتمتم:

- والله يا بابا انا بريء .. هذه مؤامرة علي دبرها الانكليز لتقويض استقلال البلاد... والله انا برىء، أنا أحبكم، أنا جندي مثلكم.

أجابه فايز عدوان:

- لو كنت تحبنا لما باشرت تسريحنا دون سبب ونحن في الجبهة نقاتل أعداء الوطن، أنت لا تخاف الله ولا تحب احدا.

قال:

- والله يا اخواني انا مظلوم، الذي سرحكم هو عبد الله عطفة رئيس الاركان العامة، أما أنا فقد أصدرت أمرا لتشغيلكم في خط التابلاين.

عند هذا الحد أمرت حسني بالصمت وحظرت عليه مخاطبة الجنود، فساد على المصفحة صمت ثقيل، اذ لزم حسني الصمت، وقد بدا على ملامحه الرعب الشديد، فكان ينظر الى مسدسي المصوب الى رأسه، والى رشيشات الجنود المحيطة به فتلمع عيناه ذعرا.

سارت المصفحة على طريق المزة الى حيث كان الحناوي وأركانه ينتظرون خارج المدينة حتى تأتيهم الأخبار عن نتيجة مغامرتي. ولما وصلت الى مفرق كيوان وجهت رسولا ينقل خبر اعتقال حسني الزعيم الى الحناوي ويسأله: ماذا تريدون ان أعمل بالأسير؟ .

ما كاد الرسول ينطلق على دراجته النارية حتى تكلم حسني وسألني:

- من هو قائد الانقلاب؟.. أيكون أنور بنود؟

أجبته بالنفي ولم أذكر اسم أحد، فاستطرد قائلا:

- اذن فهو الزعيم سامي الحناوي؟

فنهرته قائلا:

- هذا لا يعنيك الان ولا يهمك، ستعرف ما يجب أن تعرفه بعد قليل.

ولما تأخرت الدراجة رأيت أن طول الانتظار على مفرق كيوان لا يوافق، فامرت آمر المصفحة فايز عدوان من الكفر بمواصلة السير على طريق المزة القنيطرة. ولما ابتعدت عن المدينة، انحرفت عن الطريق وأقمت انتظر.

كنت أظن ان الجميع زحفوا معي الى دمشق، ولكنني علمت فيما بعد انهم تريثوا حتى يروا نتيجة قيامي بمهمتي، ولما وصلت الى مفرق كيوان من القصر الجمهوري بتلك السرعة، ظن كثيرون اني فشلت ولذت بالفرار، فكادوا يفرون هم ايضا.. ثم عاد الرسول بعد نصف ساعة ليقول لي: القيادة تطلب اليك ان تبقى هنا حتى يأتيك منها اشعار بما ينبغي أن تعمل، وكانت الساعة قد بلغت الثانية والنصف بعد منتصف الليل، وأقمت انتظر في المصفحة دون أن احول نظري عن حسني الزعيم حتى الساعة الثالثة والدقيقة 45 .

كان الزعيم يلبس بنطلونه العسكري المختص برتبة مشير وقميصا تحتانيا من القطن، مما يدل على أنه هب من فراشه مذعورا ولبس بنطلونه بسرعة دون أن يجد متسعا من الوقت ليلبس شيئا آخر، لذلك أحس بالبرد وخاطبني قائلا:

- يا فضل الله اعطني معطفك، بردان.

فخلعت معطفي وأعطيته اياه فارتداه شاكرا، ثم طلب سيكارة، فأشعلت واحدة من النوع المختص بالجيش وقدمتها له فأخذ يدخنها ساهما وقد بدا عليه شيئا من الارتياح لأنني اعطيته كل ما طلب، وخيل إليه ان هذه المسايرة تدعو الى التفاؤل. فحاول من جديد أن يخاطب جنود المصفحة ولكنني أمرته بالصمت فقال:

- الى أين تريدون أن تأخذوني؟

قلت:

- إلى مكان يليق بك، فلا تخف.

قال:

دعوني أنزل قليلا من المصفحة .. أريد ان أقضي حاجة.

قلت:

- اقض حاجتك هنا في المصفحة ولا حرج عليك.

فأطاع دون أن يفوه بكلمة.

وآنذاك وصل الرئيس عصام مريود، والملازم أول حسن حكيم، والملازم عبد الغني دهمان، في مصفحة، تتبعهم سيارة كبيرة ملأى بالحنود، ومعهم معتقل آخر هو رئيس الوزراء محسن البرازي، ومعه ابنه... بقي الابن في المصفحة على الطريق وجاءني الجنود بمحسن جريا على الاقدام، فاذا هو في ثياب النوم يرتعد خوفا ويردد بصوت مرتجف:

- ارحموني .. ليس لي أية علاقة بما جرى.. ارحموني.. ارحموا اطفالي دخيلكم.

وتكلم الرئيس عصام مريود فقال لي:

- حكمت القيادة على حسني الزعيم ومحسن البرازي بالاعدام. ويجب ان يتم التنفيذ فورا.. هذا هو قرار المجلس الحربي.

فأمسكت حسني الزعيم بيدي اليسرى، ومحسن البرازي بيدي اليمنى، وسرت بهما الى المكان الذي تقرر ان يلاقيا فيه حتفهما وهو يقع على مقربة من مقبرة كانت للفرنسيين في مكان منخفض، وقد أدرت وجهيهما صوب الشرق، صوب دمشق. وكان الجنود في موقف التأهب لاطلاق النار.

أوقفتهما جنبا الى جنب، وتراجعت مفسحا للجنود مجال التنفيذ، فاذا بمحسن البرازي يصيح:

- دخيلكم .. ارحموني .. أطفالي.. أنا بريء.

واذا بحسني الزعيم يشجعه باللغة الفرنسية قائلا:

n, ayez pas peur, ils ne nous tuerons pas c,est imoissible

أي لا تخف لن يقتلونا، هذا مستحيل.

وما كاد حسني يصل إلى هذا الحد من كلامه حتى انطلق الرصاص يمزق الرجلين ويمزق أزيزه سكون الليل ولم يكن الفجر قد بزغ بعد (1)

يبدو ان رواية فضل الله ابو منصور صحيحة بناء على حادثتين جرتا معي:

الحادثة الأولى: قبل انقلاب الحناوي بثلاثة أسابيع، كنت أسهر في النادي العائلي بالقصاع مع الاستاذ نخلة كلاس ورفاق آخرين عندما أقبل علينا عصام مريود ثملا وقد أخذ منه السكر مأخذه، فراح يشتم حسني الزعيم ويتوعد بالقضاء عليه، فنصحته بأن لا يكرر هذا الحديث مرة أخرى في مكان عام لأن عيون ابراهيم الحسيني بالمرصاد.

الحادثة الثانية: في ليلة الانقلاب وأنا نائم في بيتي دار اليقظة في زقاق صخر استيقظت على طرق شديد فأطللت من النافذة فاذا بالضابط عصام مريود ومصفحة واقفة عند رأس الشارع.

نزلت وفتحت له الباب فقال:

- ان شئت جلبت لك الان محسن البرازي ليقبل حذاءك.

كنت لا أزال بين النوم واليقظة في تلك الساعة المتأخرة من الليل. وكان عصام مخمورا وقد زاده السكر هياجا، فقلت له:

- ما هذا الكلام يا عصام؟ .. من قال لك انني أرضى بذلك؟ .. ان محسن البرازي أستاذي في الحقوق ولن أرضى ان أراه بمثل هذا الموقف، ثم أغلقت الباب بعصبية.

وقد روى خالد بن محسن البرازي لأحد أصدقائه ما يلي:

دخل الجند منزلنا في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، وأطلقوا الرصاص ارهابا، فأطل ابي يستطلع الخبر. واذ بهم يقبضون عليه ويضربونه ويضعونه في سيارة جيب. ووضعوني انا في السيارة المصفحة، وساروا بنا الى مركز اركان حرب الجيش، فاخذوا والدي وصعدوا به الى مركز القيادة بينما ظللت انا في المصفحة، وبعد وقت قصير عادوا به وانطلقت السيارات باتجاه قلعة المزة، وعلى بعد مائتي متر تقريبا من قرية المزة رأيت حسني الزعيم واقفا وحوله الجند على بضعة أمتار من الطريق العام. فأنزل الجند والدي من السيارة وقادوه الى قرب الزعيم وأطلقوا عليه الرصاص، فسقطا مضرجين بدمائهما (صحيفة النهار اللبنانية 18/8/1949).

لقد تكتم ضابط الحناوي عن تفاصيل مصرع حسني الزعيم ومحسن البرازي خشية من ثأر آل البرازي. وكان عصام مريود يدعي أنه سلمهما أحياء الى ضباط آخرين، وبعد اغتيال سامي الحناوي على يد حرشو البرازي ثأرا لابن عمه محسن البرازي كشف فضل ابو منصور عن تفاصيل مصرعهما.

________________________________________

(1) المقدم في الجيش السوري فضل الله أبو منصور: أعاصير دمشق - طبعة لم يذكر مكان ولا تاريخ صدورها - ص68-77.

المصدر:مذكرات أكرم الحوراني