تحدثنا في المقالة الاولى عن الدولة و المواطن و ذكرت فيها ان الازمة بين الدولة الحالية في سوريا ( ان صح تسميتها بالدولة ) لا تعبر عن تطلعات المواطن الحالي و ان المواطن السوري لا يشعر بانه جزء من هذه الدولة .
و من ثم تطرقت في المقالة الثانية الى العلاقة بين الاحزاب و المواطن و ذكرت فيها ان احزابنا الحالية لا تعبر ايضا عن تطلعات الوطن في استقلال بلاده و حريته و بان تلك الاحزاب تطرق ابواب الغرب و الشرق قبل ابواب دمشق . و تفرعنا في مقالة الى الاحزاب العقائدية و التي كانت تشكل رافدا اساسيا لرموز الفكر في سورية ...و تحدثنا عن ضياعها..
و اليوم و بعد الدولة و الاحزاب و علاقتهما بالمواطن لا بد ان نذكر الحلقة الاصعب و الاهم و هي العلاقة بين الوطن و المواطن و كيف نبلور مفهوم الوطن و الانتماء الوطني و التعصب الوطني و الذي على اساسه نبني و جهات النظر المختلفة و المتعارضة و التي تصب في خانه واحدة .
- يتمحور الفكر الوطني عامة حول قطبي الانتماء و الهوية حيث الانتماء هو تجانس و الهوية اختلاف و بما ان التنطيم الجغرافي السياسي في العالم ينهض على وحدة اساسية و هي الدولة و الوطن فان الفرد او المواطن في الوقت الراهن يتحتم ان يجد نفسه كائنا منتميا في وضعه الاجتماعي الطبيعي الى الوطن و هنا المشكلة الاولى و الاساسية في بلادنا !! فهذا المقياس بعيد كل البعد و للاسف عن واقع المواطن السوري و الذي شتته الانتماءات الطائفية و الاثنية و العشائرية و المذهبية و ابعدته عن حس الانتماء الحقيقي للوطن سوريا .
إن فكرة الوطن ليست فكرة توصيفية لشيء قائم، بل هي حقيقة قائمة كان قيامها عبر مرحلة زمنية حملت في طياتها تألقات التفاعل الاجتماعي و بطولات ابناء المجتمع الواحد في الحرية و الاستقلال،
وهذا التحديد هو مادي و روحي، يتجاوز العلاقات والقواعد الدموية والعرقية والطوطمية، ليؤسس لعلاقة اجتماعية انسانية واحدة نكون فيها امام قطعة واحدة متجانسة هي الوطن بكل ما تحمله من مزايا التنوع المتجانس و بتلك العلاقة و على قاعدة وحدة الحياة تسقط كل العنصريات والتناحرات الدينية والإعتبارات الأخرى ليصبح الناس متشاركين منتمين لوحدة نموذجية تنقل البشرية من عصر إلى عصر. فيكون الانتماء هو للوطن المحدد و المعرف و الذي وهبنا الحقوق و ألزمنا بالواجبات و بذلك تتحول الحياة في بلادنا باتجاه واحد هو العمل للرقي بالوطن ضمن حدوده مستمدين رقي حياتنا من اصالتنا و حضارتنا الممتدة و المتنوعة. كيف لا؟! و نحن في حضرة تفاعل حقيقية بين ميديا و اشور و تدمر و فينيق..
وبذلك تكون الغاية في اي عمل نهضوي هو المجتمع ، وطالما أن المجتمع بتمامه يشكل الوطن كاملا بحدوده، فإن احياء فكرة الانتماء الوطني تكون قائمة على وحدة الحياة في هذا الوطن والعمل لخيرها وتطورها هو سيكون اتوماتيكيا عمل لخير المجتمع الإنساني..
نعم ففي وحدة المجتمع الحقيقة نصل الى خدمة البشرية و التي هي من حيث الاساس مجتمعات انسانية حضارية تسعى ايضا لخير بلادها و خير العالم..أما ان نبقى نرفع الشعارات و نرسخ لمستقبل العيش الطائفي و الاثني فان الانسانية سترفضنا حتما وذلك لتميز مجتمعنا بتخلفه و انغلاقه و رجعيته.
اعود و اقول ان الوطن هو مجتمع واحد و هذا التوصيف يجب ان يكون فعلا و قولا و انتماء و شعورا لدى شعبنا. فلا يمكن ان يستقيم او يتطور مجتمع واحد في وجود تناحرات وإضطهادات طائفية ومذهبية أو عرقية، أو في وجود عدم مساواة أو ظلم إقتصادي إجتماعي. و الاستقامة تكون في النظام الجديد. النظام الذي يحدد حياتنا المدنية.النظام الذي يلغي جميع الحواجز بين ابناء الشعب بكافة اشكاله و اثنياته.
إن مبدأ المجتمع واحد الحقيقي قانونيا و اجتماعيا يعطي الإطمئنان لكل التنوعات الموجودة في هذه البلاد، ويجعل الناس متآلفين متحابين في إطار وحدة الحياة.
وعند تحقيق و ترسيخ مفهوم الوطن الواحد على أساس المساواة في المواطنية فإن الأكراد والأشوريين و العرب وسائر التنوعات ستجد الإطمئنان في سوريا ، إذ أنه لا تعارض بين أن يكون المواطن سورياً من أصل كردي أو شركسي أو أشوري أو عربي .فهذه سوريا كانت و ما زالت و ستكون القاعدة الصاهرة لجميع تنوعات المجتمع عبر مؤسسات مدنية وطنية واحدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى المجتمع الواحد و في مقدمتها الدولة المدنية الواحدة الممثلة لكل شرائح المجتمع على اساس الحقوق الفردية للمواطن السوري و ليس حقوق العشائر و الاثنيات و الطوائف في الوطن السوري.لذلك فان اساس العمل هو التركيز على الحقوق الفردية في اطار وحدة المجتمع و بذلك نكون قد خطونا الخطوة الاولى في اتجاه بناء دولة المؤسسات المدنية و ركلنا دولة مؤسسات الطوائف و الاثنيات. فلا يمكن ان نحقق تطور الوطن و استقلاله و حيويته على أساس الفرض الثقافي أو العنصري، بل تزداد المشاكل تفاقماً يسهل معها إختراق المجتمع والتقاطع مع حالات التشرذم والفساد..و لنا في المشهد العراقي و اللبناني و دارفور اكبر مثال و تجربة.
اما العروبة و العالم العربي و الامة العربية و ما الى ذلك من شعارات كانت مجهضة وقاتلة لتطور مجتمعها اكثر مما هي مجدية و السبب يعود الى خطأ الافكار و ليس الاشخاص( و طبعا هذا رأيي الخاص) فان انتماءنا للعروبة هو انتماء الوطن بمعنى التحالف و ليس انتماء افراد ضمن الوطن فلسنا منتمين إلى العروبة كأعراق أو عناصر، بل كوطن على قاعدة مصالح هذا الوطن و هذه المصالح تصب في مصلحة الوطن اولا و اخيرا و لاننا نحمل في تاريخنا اعظم ما انتج للبشرية فانه من المسلم به ان مصالحنا تقوم على اساس الاحترام و الاخلاق حتما،فالأنتماء العربي ليس إنتماء إلى تميم أو تغلب أو بكر، لأن في بلادنا سوريين يسكنون في البيت المجاور لبيتي ربما ينتمون إلى أشور أو آرام أو كردستان، ولا نستطيع إقناعهم بالإنتماء إلى قبائل أخرى.