ماذا فوّتنا من الفرص في هذا الربع قرن ..ألم يكن من الممكن البدء فعلا بالبناء بعد انتهاء حرب الإخوان العبثية الحمقاء ؟
فخلال هذة المدة الطويلة لم يكن أحد مستعد للمناقشة ..لا السلطة أرادت ذلك ,ولا الإخوان بكل تفرعاتهم اتعظوا ,وأبدوا الرغبة في مراجعة ماضيهم وتقديم الاعتذار للشعب السوري,تمهيدا للإنخراط مجددا في الحياة السورية على أسس وطنية جامعة لا طائفية مقسّمة.
ولا أجهزة الأمن التي قويت وتعددت أثناء حملة مطاردتهم رغبت بالتنازل عن قوتها ومكاسبها .
ولا التجار وأصحاب الدكاكين وأصحاب العمامات الذين ناصروا السلطة أثناء تلك الأحداث أبدوا الرغبة في التنازل عن أرباحهم الهائلة وامتيازاتهم الخاصة .
والذي دفع الثمن ..القوى الفاعلة المنتجة والفئات المبدعة في كل المجالات ,وقود البناء والتقدم .
لم تتح الفرصة لهذة القوى في ظل اشتداد بأس تلك القوى الظافرة ,للتعبير عن نفسها وأخذ دورها في البناء .
إن ما نعانيه اليوم من اشتداد الفساد والتهرب الضريبي وغياب القانون وتضاؤل الانتاج وانعدام المواهب وهجرة الكفاءات يعود بجذوره إلى تلك المرحلة السوداء.
فالمنتصر اعتير أن تصرفه بالغنائم والتمتع بقطف ثمار المعركة المؤلمة ,شيئا عاديا ,والمهزوم حمل جرحه وحقده ورحل بانتظار فرصة أخرى.
وومضت بارقة أمل في إمكانية البدء بالنهوض في مطلع هذا القرن , وارتعش الجسد السوري المنهك والمغيب والمقدود على قياس تلك القوى المتنفذة,بنبضات خافته.
لقد أعطى خطاب وتوجه الرئيس, الأمل أخيرا بإمكانية البدء بعملية البناء بعد تأخر طويل.
تجلت هذة النبضات ببيان المائة ثم بيان الألف ,والمناقشات الطويلة في المنتديات وما تلا ذلك من تغير في بعض جوانب الخطاب ..ما عرف بربيع دمشق.
ولكن مالذي جرى ,
ولماذا لم تستمر وتقوى تلك الإندفاعات ؟
يمكن القول ان هذا الحراك تم في مجموعة من النخب الثقافية المختلفة الاتجاهات أصلا ,وهذة النخب معزولة عن واقعها بحكم ثقافتها وعملها ..وليس لها امتدادات شعبية أو تنظيمية.
واقتصر حراكها على التقاط الخيط الممدود ومحاولة مدّة أكثر ,وذلك بالخطابات والمحاضرات والبيانات ليس إلا. لم يكن الشارع السوري في صورة ما يجري حقا ,ولم يكترث الناس العاديون بهذا الحراك ..فحكم علية أن يظل بذات الدائرة المغلقة .
وأخذت الحماسة ببعض تلك النخب إلى تجاهل الواقع الإقتصادي والإجتماعي , وإهمال دراسته والاكتفاء بطرح المطالب والجرأة في النقد,وتم طرح مطالب وتعابير على عجل مثل تحقيق المجتمع المدني والديموقراطية و حرية الصحافة وحرية الكلام,وكأن هذة الأمور يتم القفز إليها قفزا ,و من على صهوات المنابر...
متجاهلين أن الديموقراطية والعدالة والحريةلا يمكن تحقيقها بأمر إداري يصدر من أحد ,بل هما نتاج لنضال مرير ,ومحصلة لمجموعة كبيرة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية وسيادة الوعي والعقل .
لقد كان مصير هذة النخب(وحالهم هذة ) مرتبط بالفسحة التي وفرتها لهم السلطة, وعندما أخذتهم الحماسة وتجاوزوا تلك الفسحة ,تمت معاقبتهم.
لقد اندفعوا لأبعد مما أريد لهم,خاصة بعد ورود معلومات عن تدخل للسفارات الأجنبية في رعايةبعض النشاطات. ففي أكثر من مناسبة كان بعض السفراء والقناصل يتواجدون في المنتديات وفي حركات الإحتجاج والإعتصام . إن الجهل أو تجاهل موضوع الخارج ,كان له أيضا دورا بارزا في ركون هذة التحركات.
خاصة أن هذا الخارج ليس بريئا,وأبناء هذة المنطقة يرون أفعاله التي لا تبشر بخير أبدا ,بدءا باحتلال العراق وتدمير ثروته البشرية والمادية ,ووصولا إلى مذهبة الصراع ,و فدرلة الأوطان,إن لم نقل تقسيمها وإعادة رسم الخرائط من جديد,ودعم حكومات وممالك ليس بها أبسط حقوق للإنسان ,صولا لدعم اسرائيل بكل الوسائل.
لا يمكن أن نصدق(ولا نريدهم أن يصدقوا) أن بيان من ألف مثقف ,أو مهرجانات شعبية ومسيرات كما حدث في لبنان .أو شالات برتقالية أوكرانيةتصنع ثورة وتغييرا .لولا ارتباط ذلك بموضوع الخارج وإرادته.
لقد طافت المظاهرات الرافضة للحرب على العراق العالم ,وخرج الملايين من البشر في إجماع شبه تام رافضين ,منددين, ماذا كانت النتيجة؟ هل أخّرت قذيفة أو منعت طائرة أو حمت طفلا.
إن حركة واحدة من تجار دمشق مثلا ,تعني وتهم الحكومة أكثر بكثير من هذة البيانات ,وإن قائدا عسكريا يأمر فيطاع يمثل تهديدا جديا أكثر من مئات البيارق واليافطات.
وسرت تعابير اقتنع الناس بها لسهولة تصورها , بأن شطف الدرج يتم من الأعلى للأسفل ,لكن لم يفكر أحد في هذة العجلة والاستسهال ,بأن وسخ الدرج سيتراكم في الأسفل ,فنحن لا نتكلم هنا عن بنية مفتوحة ,يتم إلقاء هذا الوسخ في البحر بنهاية المطاف.فكل مرحلة تنتج مستوى آخر يعود للتأثير عليها والتفاعل معها ومن خلال هذا التفاعل يتم انتاج مرحلة انتقالية لها هويتها وخصوصيتها تنتج مستوى أعلى ..وهكذا.
كان يجب عكس الصورة ..أي يجب البناء من الأساس وصولا إلى الطابق الأخير التعبير الأرقى عن البناء ,وصولاللديموقراطية (إذا سلمّنا بأنها واحدة وأنها نظام الحكم الأمثل) والحرية .
الأساس أي من المدرسة بإقامة نظام تعليمي صارم وعلمي يبتعد بالعقول عن تلك الغيبيات والخرافات التي تعلم الآن,وإعادة الإعتبار للمؤسسات التعليمية بكل مراحلها وصولا إلى تقديس العلم وتشجيع العقل والبحث والإبداع, ومن ثم تشجيع ورعاية القوى المنتجة وتسويق إنتاجها ,وإفساح المجال للطاقات المبدعة الفكرية والعملية وحمايتها,وتهيئة الأرضية اللازمة لذلك بإصدار تشريع قانوني واقتصادي عصري وعادل والحرص على تنفيذة.
إن هكذا بنية تهيء الأرضية وتوفر أسباب الصمود وإمكانية الدفاع بنجاح أمام الخارج.
لقد جرّب الشرق كل أنواع الثورات ..وتبين في النهاية أن هذة الثورات ,هي في المحصلة رحيل طبقة سياسية تمثل مصالح لمجموعة من الفئات النافذة انتهى زمنها ,ومجيء طبقة أخرى تمثل مصالح متنامية ..لفئات مختلفة.
لتظل الممارسات كما هي لكن بأدوات مختلفة.
لابد من قطع المراحل خطوة خطوة ,مهما كانت شاقة وطويلة تلك المسيرة .
* * *
هل فاتت الفرصة ؟
يخشى الكثيرون من أن التداعيات الدولية والاقليمية في السنوات الأخيرة وانعكاساتها السلبية, سترجىء المحاولات للقيام بالنهضة وتتركها لزمان آخر .
لكن يبدو أيضا أن هذة التداعيات نفسها, هي التي ستعجل بدفع هذة العجلة وتسريعها .
إن الأمور إذا تركت لشأنها تسير بقوة الثقالة سائرة إلى الحضيض والخراب .
نلحظ هجرة الكفاءات والعقول,ونلحظ ارتداد الناس نحو الغيبيات والخرافات,ونلحظ ظلم المنتجين المتزايد ,ونلحظ تخبط الحكومات وفسادها وغياب أية خطط وبرامج اقتصادية ( نشرت احدى الصحف المحلية احصاءا يبين جهل غالبية المدراء بموضوع المعلوماتية والتخطيط وكذلك عدم اتقانهم لأية لغة أجنبية) .
لا بد من استنهاض وإحياء القوى الرافعة الحية صاحبة المصلحة الحقيقية في النهوض والبناء من جديد,وذلك على أسس وطنية.
وذلك لكي يتاح فرصة لهذا البلد كي ينجومما يرسم له في الخارج ,ودرءا لرياح سوداء باتت مستعدة للهبوب من خلال شروخ الوطن المتزايدة.