ساطع الحصري
[ هذا الخطاب ، كنت كتبته عندما كنت في جنيف صيف سنة 1962 . غير اني لم ارسله اليه في حينه ، لكي لا يقع في ايدي رقابة الحكومة الانفصالية في دمشق ]
عزيزي الأستاذ صلاح البيطار،
بعد تحية العروبة، أقول:
في الأيام التالية لحدوث نكسة 28 أيلول الفجيعة، عندما وردت الأخبار التي تفيد بأنك اشتركت مع الساسة الذين اجتمعوا لتأييدها، لم أصدقها.
وأما عندما قرأت- بعد ذلك- البيان الذي صدر بتوقيع صلاح البيطار بمفرده، قلت : يظهر أن دوامة الأحداث أذهلته، ودوخت رأسه، فأفقدته البصيرة، فلا بد من أن يمضي بعض الوقت ليستيقظ من ذهوله، فيستطيع أن يرى الأمور على حقيقتها .
ولكن قبل بضعة أسابيع، عندما قرأت حديثك الذي نشره محمد باقر شري في جريدة الكفاح البيروتية، تحت عنوان صلاح البيطار يروي اسرار تجربته في عهد الوحدة علمت بأنك قد استيقظت من غفلتك الأولى، غير انك لم تهتد بعد إلى سواء السبيل .
وقد دونت ما عّن لي من ملاحظات إنتقادية على حديثك المذكور ووضعتها في الملف الذي أجمع فيه الملاحظات والتعليقات التي أكتبها من حين إلى حين، لأرجع اليها ، عند الحاجة.
غير اني عندما أطلعت- قبل بضعة أيام- على بيان القيادة القومية لحزب البعث العربي الإشتراكي المنشور في الجرائد البيروتية، علمت- بكل أسف- بأنك وزملاءك القادة قد انتهيتم إلى موقف جديد، أخف ما يجب أن يقال فيه ، هو: انه تنكر صريح للمبادىء الأساسية التي قام عليها ودعا إليها وكسب العطف والتأييد من أجلها حزب البعث العربي الإشتراكي منذ تأسيسه.
وبعد أن أطلت النظر في البيان المذكور، قلت في نفسي : لا يجوز أن أترك ملاحظاتي المتعلقة بهذه الأمور الخطيرة، بين أوراقي الخاصة، بل يجب علي أن أكتب أهم أقسامها إلى صلاح البيطار، لألفت أنظاره وأنظار زملائه إلى أخطار الموقف الذي انزلقوا إليه.
إني أكتب إليك الملاحظات الإنتقادية التالية، لهذا الغرض:
ملاحظات حول الحديث المنشور في جريدة الكفاح البيروتية
بتاريخ 24/ 5/ 1962
-1-
لقد جاء في حديثك المنشور في جريدة الكفاح، ما نصه بحروفه:
لم يكن الرئيس ليترك لنا معالجة أمور كنا نحن نعرفها ولنا خبرة بها، وعندما قامت ثورة 14 تموز، اقترحت على الرئيس- على اعتبار اننا نعرف طبيعة ما يجري في العراق- ان أذهب أنا شخصياً لدراسة الموقف، ولقد ظننت أن الرئيس وافق على ذلك. إلا أن ما حدث هو العكس تماماً، فبدلاً من أن أذهب أنا أرسل مكاني السراج. وبدلاً من أن تدرس الأمور بالخبرة الموضوعية درست بإسلوب آخر .
إني قرأت هذه الأسطر بإستغراب شديد : لو كان الرئيس قد أرسل بدلاً منك رجلا مصرياً، لكان بعض الوجه لما تزعمه من خطأ في تصرفه. ولكنه- كما تقول- السراج. والسراج سوري مثلك، ووطني مثلك. فلا أدري كيف سوّغت لنفسك أن تذكر هذا التصرف.
- بعد ما مضى عليه ما يقرب من أربع سنوات- في مقدمة الادلة على أخطاء الرئيس. أفلا يحق لي أن أجد في ذلك أثراً من آثار روح التحزب الذي يعمي الأ بصار؟
إن المعلومات التي كانت قد تجمعت لدي عن أحداث الوحدة- قبل الإنفصال وبعدها- دفعتني إلى الحكم على أن المشكلات والخلافات لم تكن- في حقيقة الأمر، ومن حيث الأساس- قائمة بين سوريا وبين مصر، بل إنما كانت قائمة- أكثر من ذلك- في سوريا نفسها، بين الجماعات السورية التي لم تنفك عن التنافس والتخاصم فيما بينها. فكان من الطبيعي أن تحتار مصر أمام هذه الأحوال وتصبح- في آخر الأمر- كبش الفداء بين هذه التيارات المتخاصمة.
إن ما جاء في جريدة الكفاح- عن لسانك- في قضية العراق، أعطاني دليلاً جديداً على صدق حكمي في هذا المضمار.
ولاظهار الحقيقة في هذا الأمر- بوضوح أعظم- أرى أن أطلب إليك التأمل في السؤ ال التالي، والاجابة عليه، بكل صراحة:
لو كان الرئيس لبى طلبك وأرسلك بدلا من السراج وترك لك معالجة قضايا العراق بعد ثورة 14 تموز، كما كنت تريد.. لو فعل ذلك كله، هل تعتقد حقيقة، بأنك كنت تستطيع أن تؤثر في سير الأحداث هناك، بما لك من معرفة في طبيعة ما يجري في العراق حسب تعبيرك؟
هذا، ولكي لا أترك أمامك مجالاً للتردد كثيراً، أردف السؤال الآنف الذكر بالأسئلة التالية:
ألم يذهب إلى العراق، بعد ثورة 14 تموز، ميشال عفلق؟ أفلم يكن هوأحد أركان- ان لم أقل أهم أركان- ثالوث القيادة في حزب البعث العربي الاشتراكي؟ ثم : أو لم يكن في العراق- في ذلك التاريخ- فرع لحزب البعث، مع قيادته القطرية؟ أفلم يدخل الأمين العام للحزب المذكور، إلى الوزارة التي تألفت عقب الثورة؟ أفلم يأت الأمين العام المشار إليه- فضلا عن جماعات من وطنيي العراق- إلى دمشق وإلى القاهرة؟ وفي الاخير: أفما جاءت احداث العراق بعد الثورة، مفاجأة لجميع هؤلاء؟..
فلا أظنك تستطيع أن تدعي بأنك اعرف من جميع هؤلاء بطبيعة ما يجري في العراق، ولا سيما أعرف من زعماء حزب الاستقلال الذين ظلوا يعارضون ويصارعون العهد البائد هناك، منذ أكثر من ثلاثين عاماً . -2- في ردك على سؤال المحرر المتعلق بالديمقراطية، قد التزمت جانب الاعتدال، وقدرت مشاكل الديمقراطية، وأشرت إلى المحاذير التي تنجم عنها في بعض الظروف مثل ظروفنا الحالية، إذ قلت: إن الذين يدعون الديمقراطية، المطلقة، يريدون أن يؤكدوا بطريق غير مباشر، فشل الديمقراطية، وانها طريق خاطىء، وانها تؤدي إلى الهدم.
فى ظروفنا الحالية، يجب أن تتم ممارسة الديمقراطية بحكمة وتؤدة .
إني أوافق على رأيك هذا، من حيث الأساس.
هذا، وأرى أن ألفت أنظارك إلى الحقيقة المؤلمة التالية:
إن الذين يدعون إلى الديمقراطية المطلقة- خلافاً للرأي الذي بدأت به تصريحاتك في هذه القضية- والذين لا ينقطعون عن ترديد أنغام الديمقراطية جاعلينها محوراً أساسياً لدعاياتهم- بأحاديثهم وكتاباتهم- ليسوا قليلين ، حتى بين الأشخاص والكتاب المعروفين بانتسابهم إلى حزب البعث.
-3-
وقد قلت في ردودك عن أسئلة محمد باقر شري، حول جمال عبد الناصر: نحن لا نريد أن نضحي بالرئيس جمال عبد الناصر في سبيل الديمقراطية.. لا شك في أن وجود الرئيس هو ضرورة لتحقيق هذه الوحدة .
ولكن، أفلا تعرف أن زميلك ميشال عفلق كان يقول عكس ذلك في بيروت، وكان البغضاء ضد عبد الناصربقوله لا خير منه .
وقد ظهر إلى العيان، أن الركن الاخر من ثالوث القيادة في حزب البعث، أكرم الحوراني، يحمل حقداً دفيناً على الرئيس عبد الناصر . وقد نشرت جريدة النهار حديثاً له ، جاء فيه بصيغة التأكيد بأن جمال عبد الناصر ليس إشتراكياً ولا وحدوياً . وقد قرأت في بعض الجرائد، بأنه ذهب في هذا المضمار إلى أبعد من ذلك أيضاً ، وصار يتهمه بالخيانة للوطن والتآمر مع الأجانب.. أيضاً .
إن هذه الاختلافات الأساسية التي ظهرت بين أقوال ثالوث القيادة في حزب البعث العربي ، تستوجب التسجيل والتأمل.
انها تدل على أرتجال الآراء، دون درس وتبصر، وتفسر- في الوقت نفسه- أسباب البلبلة التي صارت تسود محافل البعثيين .
ومما يجدر الاشارة إليه في هذا الصدد: ان بيان القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي - الذي سأنتقل إلى بحثه فيما يلي- وصف الاعتماد على جمال عبد الناصربـ تقديس الفرد .
ولا شك في انك قد علمت بأن أحد المتحدثين في إذاعة دمشق، أراد أن يجعل هذه القضية موضوع مزايدة وقال : تأليه الفرد .
ملاحظات حول البيان الصادر باسم القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي والمنشور في الجرائد البيروتية في 4/6/1962
إن البيان الذي صدر أخيراً باسم القيادة القومية لا يحمل توقيع أحد. غير اني أعرف بأنك من مؤسسي الحزب وزعمائه الأصليين، فلا أشك في انك قد اشتركت في تقرير البيان المذكور وصياغته، ولذلك رأيت أن أكتب إليك ملاحظاتي عليه مخاطباً هيئة القيادة، وأرسلها إليك لتطلع أعضاءها عليها:
- 1-
إنكم تنتقدون أعمال وخطط دعاة الانفصال، وأنا أضم صوتي إلى أصواتكم في هذا المضمار.
وتقولون عن طوائف الانفصاليين أنها تعمل ليل نهار على التركيز على أخطاء الوحدة وتجسيمها .. .
كما تقولون: انها لا ترى في صورة الوحدة إلا أخطاءها، فتردد ذكرها وتجترها ليلاً و نهاراً .
إني أستهجن معكم هذه الخطط والأعمال، كل الاستهجان.
غير أني أقول- في الوقت نفسه- انكم- قادة حزب البعث- تتحملون قسطاً كبيراً من مسؤولية هذه الأحوال:
لأنك سرتم، مدة غير قصيرة، سيرة هؤلاء في هذا المضمار: استرسلتم في ترديد كلمات الاخطاء والانحرافات، والتسلط الفردي والتسلط الاقليمي.. . وفعلتم ذلك بتعبيرات عامة مطاطة، تتسع لكل شيء، وتفسح مجالاً لكل تأويل ، وقطعتم في هذا الطريق شوطاً كبيراً ، حتى أن أعداء الوحدة لم يحتاجوا إلا إلى خطوة واحدة ، ليقولوا بوجوب تكريس الانفصال.
ان البيانات العديدة الصادرة باسم حزب البعث- فضلاً عن التصريحات المنشورة عن لسان أحد أركان ثالوث القيادة في الحزب- تشهد على صحة ما أقول شهادة صارخة.
ولا بد لي من الاشارة إلى انه حتى بيانكم الأخير الذي أصدرتموه باسم القيادة القومية للحزب بغية الدعوة إلى إعادة الوحدة على أسس جديدة- حتى ذلك البيان لم يشذ عن سابقاته في هذا المضمار.
-2-
لقد قلتم في البيان الأخير:
إن منطق الوحدة يفرض علينا أن نتعمق في دراسة تجربة الوحدة التي انتكست وأن نقسو بالنقد على الاخطاء والانحرافات ومسببيها، لنستخرج منها نظرية جديدة ونهجاً جديداً في النضال من أجل تجديد الوحدة على أسس موضوعية .
وأنا أيضاً أقول بوجوب التعمق في دراسة تجربة الوحدة، والتوسع في استقصاء عوامل انفصالها. ولكني أقول- في الوقت نفسه- ان هذه الدراسة يجب أن تجري بنظرات علمية حقيقية، متجردة عن نوازع الحقد والحزبية ويجب أن تشمل- مثلاً- تصرفات ساسة سوريا وموظفيها وأطماع تجارها ورأسمالييها ..
أقول ذلك ، لأني لاحظت- مع الأسف الشديد- إن البيان يحصر الأخطاء والانحرافات في جهة واحدة ويعزوها إلى ما يسميه الحكم الفردي والتسلط الاقليمي ، دون أن يشير، ولو إشارة عابرة، إلى أخطاء وانحرافات رجال السياسة، في سوريا، بما فيهم قادة حزب البعث.
إنكم فرضتم على أنفسكم التكلم عن أخطاء حكام القاهرة، بقسوة، ولكنكم لم تبيحوا لها البحث في أخطاء قياداتكم، ولو بدون قسوة.
-3-
لقد قلتم في البيان : ان الاستعمار وأعوانه كانوا صمموا منذ اليوم الأول لقيام الوحدة على ضرب تلك الوحدة، سواء أداخلتها الاخطاء والانحرافات، أم لم تداخلها .
إن قولكم هذا صائب تماماً ، وهو يعبر عن حقيقة هامة، وأنا أؤيده كل التأييد .
ولكني أقول- في الوقت نفسه- ان هذه الحقيقة كان يجب أن لا تخلو من التأثيرعلى أعمالكم .
فإن الاعتراف بهذه الحقيقة يستلزم التعمق والتوسع فيها، بالتأمل في هذا السؤال: ماهي الوسائل التي توسل بها- وكان من الطبيعي ومن المتوقع أن يتوسل بها - الاستعمار وأعوانه في هذا المضمار؟
طبعاً ، أن هؤلاء لم يهملوا استعمال سلاح المال لشراء الذمم واصطناع الأعوان والعملاء في هذا المضمار.
ولكنهم اعتمدوا- وكان من الطبيعي أن يعتمدوا- أكثر من ذلك بكثير على الأسلحة النفسية لإثارة النعرات الاقليمية، وتحريك أعصاب النفعية، واستغلال الأطماع الشخصية، وإثارة الشكوك والمخاوف في النفوس.
وكان من أهم وأخطر وأفعل الوسائل التي توسلوا بها لتحقيق أغراضهم هذه هي : إشاعة الأكاذيب والمفتريات، عملا بالقول المشهور، افتروا افتروا على الدوام . لا بد أن يبقى أثر من ذلك في النفوس .
ومن المعلوم أن أجهزة الدعاية المعادية للعروبة نشطت إلى العمل في هذا السبيل، منذ الأيام الأولى للوحدة، ولم تنقطع عن العمل في هذا المضمار- ليلاً ونهاراً- بنشر سلسلة من الأخبار الكاذبة بمهارة فائقة، وأساليب خداعة،.. حتى صارت تسيطر على أذهان الكثيرين.
كان يترتب على جميع القوميين المؤمنين بوحدة الأمة العربية، أن يحاربوا هذه الاذاعات والاشاعات الكاذبة، ويحولوا دون انخداع الناس بها.
ولكن، مع الأسف الشديد، ان محافل حزب البعث لم تلتفت إلى هذا الواجب. وفضلا عن ذلك، صارت تسترسل في انتقاد الاوضاع بتعبيرات مطاطة، وتردد نقرات ضرورة الحزبية والديمقراطية بدون انقطاع.
ولهذا السبب، صار يختلط في اذهان الكثيرين من المواطنين، إشاعات عملاء الاستعمار، مع تقولات قادة حزب البعث. وذلك سهل- إلى حد كبير- انخداع الناس بها، دون ان ينتبهوا إلى مصادرها الأصلية وأغراضها الحقيقية.
إني شاهدت هذه الأحوال، مرات عديدة، بنفسي.
وقد حدث غير مرة، عندما حاولت تكذيب بعض الشائعات التي كنت متأكداً من عدم صحتها، وسعيت لاظهار أغراض المستعمرين وأعوانهم من اختلاقها...، أن جوبهت بهذا الجواب:
- ولكن البعثيين أنفسهم يقولون..
إن من لم ينتبه إلى هذه الأفاعيل النفسية، يبقى بعيداً عن فهم أهم العوامل التي سهلت على الانفصاليين أن يضربوا ضربتهم المعلومة.
ولا شك في انكم اطلعتم على سيل الاكاذيب والمفتريات الفظيعة التي صارت تتدفق من ألسنة هؤلاء وأقلامهم، وصارت تنتشر على كل الجهات بواسطة إذاعات دمشق، وسائر الاذاعات التي هرولت إلى النقل عنها.
أفلا يحق لي أن استغرب، عدم عثوري على عبارة واحدة، أو إشارة واحدة ، إلى هذه المفتريات بين أسطر بيانات الحزب الطويلة؟
-4-
واما المشروع الذي اختتمتم به بيان القيادة القومية لأجل إعادة الوحدة ا وتجديدها... فاني قرأته بحيرة عميقة. لاني وجدته مشوباً بـ نعرة إقليمية ..؟ تنافي المبادىء الأساسية التي قام عليها ودعا إليها حزب البعث العربي الاشتراكي .
فإنكم في المادة الأولى منه تشترطون أن لا يكون الرئيس ونائب الرئيس من إقليم واحد وتتكلمون عن الاقليم الكبير والاقليم الصغير وتطلبون (تكافؤ الإقليمين) فتتبنون بذلك فكرة الإقليمية .
واما في المادة الثالثة من المشروع، فتغوصون في بحر الاقليمية حتى اذقانكم، سب التعبير المشهور. إذ تتكلمون فيها عن واقع الفوارق الاقليمية وتطلبون ان يترك لكل إقليم من الاقليمين حرية التشريع في ضوء أحوال الاقليم الواقعية .
إني لست من أنصار المركزية، بل بعكس ذلك أدعو إلى اللامركزية، بكل معنى الكلمة، وقد انتقدت المركزية المألوفة عند الدول العربية القائمة في الحالة الحاضرة بمناسبات عديدة، وصرحت بعدم جواز التزام المركزية في الدولة العربية الموحدة القادمة. ولكني أعتقد أن مراعاة الأحوال والحاجات المحلية ، وتكوين إدارات ومجالس محلية، مع تزويدها بالسلطات اللازمة لمعالجة تلك الحاجات، شيء، والدعوة إلى التمسك بأحوال الاقليم الواقعية شيء آخر.
كنت أظن انكم- وحزبكم- ممن يعتقدون- معي- أن الفوارق الإقليمية الموجودة الآن، لهي من آثار ومخلفات الاستعمار، فيجب السعي سعياً حثيثاً وراء تخفيفها وإزالتها بصورة تدريجية.
ولهذا السبب، استغربت كل الاستغراب، كيف انكم تريدون الآن أن تتمسكوا بتلك الفوارق، حتى انكم تفسحون المجال إلى تزييدها وتقويتها، بمنح كل إقليم حرية التشريع على ضوء أحوال الاقليم الواقعية .
في الواقع انكم تقيدون هذه الحرية بعض التقييد بقولكم دون تجاهل ضرورة التنسيق والتوحيد وفق الأهداف القومية والاجتماعية والاقتصادية للدولة كلها .
ولكن أفليس من بديهيات الأمور أن الأهداف القومية والاجتماعية والاقتصادية للدولة كلها تتطلب السير نحو إزالة الفوارق الاقليمية لا تقويتها - وفق مشروعكم- بتخويل كل إقليم حق وضع تشريعات جديدة، تزيد ما بين الاقاليم من فوارق، حتى في الحريات العامة، والأوضاع الاقتصادية.
نعم، انكم تودون أن تعطى لكل إقليم حرية التشريع ، حتى فيما يتعلق بالحريات العامة والاوضاع الاقتصادية .
وهل فكرتم في النتائج التي لا بد أن تنجم عن مثل هذه الحرية؟
حسب نصوص هذا المشروع، يسوغ- مثلاً- أن يسمح أحد الاقليمين بتكوين الاحزاب بكل حرية، وفي الوقت نفسه، يمنع الاقليم الآخر العمل الحزبي منعاً باتاً. وكذلك، يسوغ، أن يلتزم أحد الاقليمين مبدأ الحرية في التجارة والاقتصاد، في الوقت الذي يعمل الاقليم الآخر بسياسة الاقتصاد الموجه والتجارة المقيدة.
ولا أدري كيف تستطيعون ان تزعموا- والحالة هذه- بإمكان تكوين دولة قابلة الحياة تحت هذه الشروط؟
انكم تسمون هذه الدولة باسم دولة الوحدة الاتحادية ولكني أعتقد انها أحرى باسم دولة الوحدة الاسمية .