آخر الأخبار

يسعد صباحك... من ترانيم الذاكرة (1)

تساؤلات

، طرحتها على نفسي بعد رسالة من أحلام...

( لا تصدق أن الأشياء مضرة بالصحة. وحدهم الأشخاص مضرون. وقد يلحقون بك من الأذى أكثر مما تلحق بك الأشياء، التي تصر وزارة الصحة على تحذيرك من تعاطيها. ولذا كلما تقدم بي العمر، تعلمت أن أستعيض عن الناس بالأشياء، أن أحيط نفسي بالموسيقى والكتب واللوحات والنبيذ الجيد، فهي على الأقل لا تكيد لك، ولا تغدر بك. إنها واضحة في تعاملها معك. والأهم من هذا أنها لا تنافقك ولا تهينك ولا يعنيها أن تكون زبالاً أو جنرالاً.

توقفت لأن هذه الفقرة تشبهني من حيث الاستعاضة عن الناس بالأشياء، باستثناء القطط لأني لا أعتبرها أشياء طبعاً ...
ولكن الفكرة الثانية التي طرأت على رأسي المصر على تعاطي التفكير كانت هي أنني وفي خلال عملية الاستعاضة تلك، ظل دائماً عندي أمل بأن أجد من هم مثلي، من أستطيع أن أكون معهم أنا دون زيف مهما كان نوعه. ومن خلال خيبات كثيرة، استطعت أن أجد القليل جداً... هنا، وبشكل مفاجيء، تساءلت، فيما يخص مساهماتي في مدن :

هل فقدت ذلك الأمل بإيجاد من يشابهني ولو قليلاً؟ هل يسبب لي شيئاً من السعادة وفشة الخلق كلما أثبت انتصاراً بإثبات تميزي؟ هل كنت وأنا أمعن في زيادة عدد أعدائي، أحتفظ في جزء ما من عقلي بأنه مازال هناك من يؤمن بي وبتفكيري؟ أم أن الموضوع لا يهمني بالمرة ولا طرأ على بالي؟ أولا أشعر في لحظات بالخوف بأن أفقد حتى هؤلاء؟)

وكانت ردودي على هذه التساؤلات...

يسعد صباحك.

هل فقدت ذلك الأمل بإيجاد من يشابهني ولو قليلاً؟ سؤال تبرره العديد من القصص الحقيقية الممتعة و ذات المغزى (القحمذم)، مثلا:

حين كنت شابا، يعني منذ قرون عديدة، كنت قادرا أن ألتقي بشخص مجهول (ليس مجهولا لهذه الدرجة: إنه الصديق معين رومية... و هذه قصة حقيقية مؤكدة و ذات مغزى، يعني قحمذم) عند منتصف الليل، فنقرر أن نسكر، فنشتري قنينة العرق (و هي قارورة العرق بالنسبة للمثقفين)، و نسكر فلا يصبح الصباح إلا و نحن من أقرب الأصدقاء.
اليوم أقصى ما يمكنني من اللطف هو أن أخبر الناس: حلوا، لو سمحتم يعني و إذا ما فيها إزعاج، حلوا عن مؤخرتي.

لا شك أن السن يلعب دورا: الفرق بيني حين كان عمري 19 عاما و يومي هذا هو 20 عاما من الأمل... و خيبة الأمل. الفرق هو أنني كنت وقتها أؤمن بذلك الكائن الخرافي الذي يسمى الإنسان ، و انني اليوم أعتبر بمقولة ديوجين: إني أبحث عن الإنسان فلا أرى إلا البشر (*).

يسعد صباحك، قحمذم (مزدوجة).

ذلك أنني حين كنت في التاسعة عشر من عمري دعاني زميلي تمام د. (**) لزيارة قريته. وقتها ناقشت أباه و سفهت معتقداته الدينية -العلوية يعني- و أخبرته أنه و بقية العلويين يقدسون القمر، و الأمريكان ساروا على القمر لا بل و تبرزوا عليه!
لكن...
لكن يعني أبو تمام كان فلاحا (علويا) بسيطا... أقصى ما حصل عليه من التعليم، هو تعليم أبنائه(***)...
فهلا قارنته، عزيزي عمرو، بزميل دراستك السني، الذي حصل لاحقا على شهادة الدكتوراه... على شهادة شو؟

على إحدى أعلى الشهادات العلمية: شهادة دكتوراه في الأنفورماتيك...

هذا السني الذي قمت بدعوته لقضاء جزء من العطلة الصيفية في منزل والدك الواقع شرقي جبلة على طريق بسيسين... فراح يسخر منك و من أهلك لأنكم فقراء؟

الفلاح العلوي يظن أن صورة علي بن أبي طالب موجودة على القمر... يعني هو فلاح جاهل...
أما السني، فحتى عندما يكون مهيأ للحصول على أعلى الدرجات العلمية، فإنه يسخر من الفقراء...

يسعد صباحك، تابعي معي.

لكن هذه لم تكن إلا نصف المشكلة...
ذلك أننا حين عدنا للجامعة في دمشق، صدقـي أو لا تصدقي، هذا الزميل السني تهجم على العلويين لأنهم ينهبون أموال الشعب ...

كيف يمكن لإنسان يدعى عمرو الخيّر -و هو أشرف الناس طرا- أن يرد؟

إن كان واحدنا فقيرا، فأنتم تسخرون منه،
و إن كان غنيا، تتهمونه أنه لص!

يسعد صباحك... بؤس هذا الشعب العرباني.

سبق لي و تحدثت عن احتقاري للشعب العربي الذي شاهدته بعيني هاتين، عيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود، شاهدته يصفق و يحيي السادات النجس بعد عودته من زيارة القدس -أعني القدس المحتلة.
شعب أنجاس لا قيم لديه و لا شرف... شعب يصفق للخونة.
لكني، و بعدها بأقل من عام، عاينت هذا الشعب -يعني عاينته شخصيا!

لقد قدر لي أن أدرس لمدة نصف عام في مدرسة الكسوة...

أهلا بكم في الكسوة...

الكسوة:
قرية تقع على مسافة 17 كم جنوبي دمشق، بضعة عشرات من الآلاف من السكان (أكثر من 30 و أقل من 40) و فيها مخيم كبير لنازحي الجولان (دروز لعنهم الله)، و هي المقر الرسمي للفرقة المدرعة الأولى، و منه فهي تتضمن ضاحية كبيرة مخصصة لسكن العسكر (نصيرية لعنهم الله)...
و منه مثلث كراهية بين هذه المناطق الثلاثة، لعن الله الثلاثة: الكساونة، النازحين، و العسكر...

أهلا بكم في الكسوة...

أهم المنتجات: الثوم. و بالمناسبة: هذا شيء جيد، ذلك أن الثوم هو متبل ذو فوائد عديدة...
أهم الميزات: صحراء قاحلة ذات مناخ قاري: في الصيف، درجة الحرارة 40، في الشتاء، تقارب الصفر...
في الكسوة، حين تنبت عشبة بجانب عشبة أخرى فهذا يعتبر بمثابة مرج، و إن اجتمعت شجرتان فهما بمثابة غابة كثيفة...

الشيء الوحيد الجميل في الكسوة هو نسمات الهواء عند المغرب، في أيام الصيفية: هواء دافئ يشعرك بمتعة حقيقية، متعة جسدية، حسية، حقيقية، مثيرة، جميلة...
لكن هذه المتعة سرعان ما تتحطم: ذلك أن جلدك و قد تفتح للأحاسيس الجميلة يشتاق لجلد آخر كي يشاركه إياها... لكن طول بالك! و طول شروالك! أنت في الكسوة... يعني قبل ان تجد صبية تحف جلدك بجلدها لديك ما يكفي من الوقت كي تعيد اختراع القنبلة النووية انطلاقا من الفأس الحجرية!

أهلا بكم في الكسوة...

كان أفظع ما عانيته في هذه المدينة -أو القرية- هي تحية الصباح...
كنت، كأي علوي -أعني نصيري كافر لعنه الله- ساذج وصل للتو من قريته، كنت أصبـّـح على البشر بقولي: صباح الخير ...
فكان زملاء دراستي يردون: تحية المسلمين هي السلام عليكم ..
احتجت وقتا لا بأس به كي أفهم ما يقصدون، و هو: يا نصيري يا كافر لعنك الله!

سبحان الله، و هو كائن خرافي قال: ﴿و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها﴾ (النساء، آية 86)...
هو قال : لاك يعني يا أخوات الشليتة، يعني على الأقل ردوها!
لكنهم لم يردوها: حين تتمنى لأحدهم صباحا مليئا بالخير، فيرد عليك بملاحظة طائفية...

هم كانوا شبانا، شبانا في ربيع حياتهم، و مع ذلك كانوا قادرين أن يبدؤوا يومهم... بالحقد الطائفي!

قرفي من الكسوة و أهلها قدر له أن يستمر: فمن زميلي في الجامعة الذي يسخر من فقر العلويين و يتهمهم أنهم نهبوا الوطن في آن معا، لاكتشافي لاحقا لفتوى شيخ الإسلام و أن الكثير من السوريين يتبعونها، وصولا لدراستي في الجامعة و لرؤيتي للكراهية التي تتم معاملة أبناء القرى بها... و تجارب أخرى تترى و تؤكد شيئا واحدا: هذا شعب جحش...

إنه شعب جحش يا صديقتي، و تقدم الإنسان في السن يجعله يرى ذلك بوضوح أكبر...

لا!
أنا لم أفقد الأمل باكتشاف من يماثلني: ذلك أني وجدته سابقا...
لكني فقدت أوهامي -إذن فأنا فقدت الأوهام، و منه فإني أدركت الحقيقة:
من كان مثلي في الفكر، سيكون مثلي في المجتمع: سيكون مثلي منبوذا من المجتمع، و سيكون، بدوره، نابذا للمجتمع...

تلك هي الحقيقة يا صديقتي... و لي عودة كي أستعرض بقية الأسئلة...

يسعد صباحك و المسا يا أحلام...

----------------------------------
تعقيبات:

(*) مقولة ديوجين: أنا أبحث عن الإنسان فلا أجد إلا البشر .
أنا استخدمتها بمعناها الأخلاقي ، و هو المعنى القائل أن ديوجين كان يبحث عن الإنسان الذي يتمتع بالقيم الإنسانية، لكنه لم يجد أمامه إلا البشر بغرائزهم الحيوانية و رغباتهم الدنيئة.

لكن هناك معنى آخر لجملة ديوجين، و هو، برأيي، المعنى الحقيقي:
ديوجين كان يبحث عن الإنسان كمفهوم، يعني هو كان يبحث عن هذا الكائن الذي عرفه أفلاطون بقوله الإنسان هو (شيء ما، مش مهم... و تجدون تتمة القصة لاحقا) ، فلا يجده، لكنه كان يجد البشر من لحم و دم، فيستنتج أن التعريف الأفلاطوني لا يدل على شيء، و منه يستنتج عجز الفكر عن التعبير عن الحقيقة المعاشة.

يعني: ديوجين كان يؤكد عجز الفلسفة (= الفكر) عن التعبير عن الحقيقة.

و حول هذا الموضوع هناك قصة أسطورية ممتعة و ذات مغزى (قأمذم):
فحين بدأ أفلاطون محاولاته لتعريف الإنسان فإنه وصفه بقوله: الإنسان هو حيوان يسير على قدمين .
فأرسل له ديوجين دجاجة...
ففكر أفلاطون و فكر، ثم عدل تعريفه و قال: الإنسان هو حيوان يسير على قدمين و لا ريش له .
فأرسل إليه ديوجين دجاجة... منزوعة الريش.

(**) و بعد أن قمت باستئذانه، يمكنني الآن أن أضيف اسم أسرته: إنه تمام ديبه.

(***) و له الفخر، كل الفخر! يعني قد يحق لنا أن نسخر من جهل أولئك الفلاحين -العلويين مثلا- لكن يكفيهم فخرا أنهم حرروا أبناءهم من الجهل إياه!
و منه تحية حب و احترام لكل فلاح سوري -علوي أو سني أو جهنمي- ضيق على نفسه و وفــّر من نقوده القليلة كي يرسل أبناءه للدراسة...‬

حكايا